في المواجهات الحربيّة، يركّز المتأمّلون والمراقبون الأكثر انسانيّة بيننا على المدنيّين. فأن يُقصَف المدنيّون من قبل جيش يُحكم الحصار على رقعتهم هو أوّل ما يشدّ انتباه المتأمّلين والمراقبين أولئك. وهم إذ يفعلون، يمسكون بناصية الموقف الأخلاقيّ تاركين لغيرهم أن ينحازوا الى هذه الجزئيّة السياسيّة أو تلك.
في المعنى هذا، نبيلٌ أن يحظى مدنيّو مخيّم نهر البارد بالحفول والعناية، وأن يستثير وضعهم اللهفة وأن يطلق الغضب. والمدنيّون الفلسطينيّون في لبنان يستحقّون أكثر من هذا، خصوصاً حين نتذكّر تاريخاً من الإهمال والإجحاف والقمع والتهميش مما تشاركت فيه السلطتان اللبنانيّة والسوريّة في لبنان، بل حين نتذكّر أن عصبيّات الطوائف لم تكتمل وتتمّ إلاّ في أتون الصراع معهم: هكذا فعل المسيحيّون أواسط السبعينات، والشيعة أواسط الثمانينات، وربما كان هذا ما يفعله السنّة اليوم.
أبعد من ذلك، يتراءى أن الطوائف اللبنانيّة كلّما أرادت توكيد «وحدتها الوطنيّة»، التي تخفي انقساماتها العميقة، وجدت في المدنيّين الفلسطينيّين ذاك «الآخر» الذي «تتّحد» ضدّه، وكلّما أرادت أن تتنصّل من بناء وطن ودولة ردّت ذلك الى «الآخرين» الذين هم، أوّلاً، الفلسطينيّون.
وفوق هذا، ليس صحيّاً، وطبعاً ليس من تعابير المجتمع الديموقراطيّ وعلاماته، ذاك التسابق الزجليّ على دعم «جيشنا المفدّى»، واستحضار تلك العدّة الفولكلوريّة في إبداء وطنيّة لا يقوم إلا هذا البرهان الحربيّ على قوّة حضورها.
لكن شيئاً آخر يصعب ألاّ نتبيّنه في ما خصّ المدنيّين وطرق معاملتهم: ذاك أن لبنان كلّه مخيّم نهر بارد كبير منذ توقيع «اتفاق القاهرة» في 1969، مدنيّوه، بإرادة منهم أو بغير إرادة، موضوعون في مرمى النار والموت مما تستدعيه مقاوماتهم. يكفي التذكير، إذا اقتصرنا على الكبائر، بحرب 1982 ثم بحرب الصيف الماضي لاستنتاج ذلك والبناء عليه بعيداً من النظرة التقنيّة التي تحصر النقاش في ضحايا نهر البارد.
من هنا، ينسجم مع نفسه ذاك الذي يدين ما يتعرّض له مدنيّو المخيّم من ضمن إدانته ما يتعرض له مدنيّو وطن أريد له أن يصير مخيّماً، ولا يستوي مع منطقه إلا ذاك الذي يرفض البندقيّة غير الشرعيّة أكانت في يد هذه الطائفة أو في يد تلك، كما يرفض «الساحة» أكانت «لمقاومة اسرائيل» أو لتوسيع نفوذ «حزب الله».
فإذا لم ينجح المدافعون عن مدنيّي مخيّم نهر البارد في تطوير موقف كهذا، كان دفاعهم أقرب الى النفاق السياسويّ والانتهازيّ الضيّق، المعني بتوظيف المدنيّين وليس بهم وبمأساتهم. فهؤلاء المدافعون، والحال هذه، «ضدّ» أن تُبنى دولة يكون لها جيش أكثر بكثير مما هم «مع» الضحايا المدنيّين.
ووضع كهذا لا ينمّ عن أيّة حساسيّة انسانيّة رفيعة، بل يشي بالميل العميق الى إعادة تدوير الانحيازات الأصليّة وسكبها في لغة انسانيّة منافقة. وهو لا يفعل غير إضافة سبب جديد في تعزيز التوقّعات القاسية والموحشة عن مستقبل الوطنيّة اللبنانيّة والعلاقات بين الجماعات المقيمة فوق لبنان.
ذاك ان ضراوة المقاومة لنشأة الدولة تجعل الخيار «الأفضل» هو ذاك الذي ينشئها بالقوّة والبغضاء والغلبة، فما بالك بالخيار «الأسوأ» وهو ألاّ تنشأ.
(الحياة)