يعد الإيمان بالبعث واليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب من الركائز الأساسية لجميع الرسالات الإلهية، ولكن تختلف كل رسالة في مدى دعوتها إلى الإيمان بالبعث واليوم الآخر والثواب والعقاب بعد الموت، وأيضا تختلف كل رسالة عن الأخرى في كيفية عرضها لطبيعة ما سوف يكون في اليوم الآخر من ثواب وعقاب، فاهتمام بعض الرسالات الإلهية الواردة في القرآن بالبعث واليوم الآخر وكثرة الحديث عنهما لم يكن هو الاهتمام الأكبر لكل الرسالات، فمثلا نجد أن هناك بعض الرسالات قد اهتمت اهتماما كبيرا بالحديث عن البعث واليوم الآخر والدعوة إلى الإيمان بهما، وذلك يرجع إلى أن بعض أقوام الرسل لم يكن لديهم أدنى علم بأن هناك عودة بعد الموت للحساب والجزاء، كأهل مكة قوم الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، فلم يكن لديهم أدنى علم بالبعث بعد الموت، وقد حكى عنهم القرآن العظيم ما يلي:
(وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ). (5- الرعد).
(وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا). (49- الإسراء).
(وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ). (10- السجدة).
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ). (7- سبأ).
وهناك رسالات أخرى وفق ما ورد في نصوص القرآن الكريم لم تتطرق للحديث عن الدعوة للإيمان بالبعث واليوم الآخر، وإنما انصب اهتمامها الأكبر على بعض الانحرافات العقائدية والسلوكية الأخرى، ولم يكن من بين هذه الانحرافات الكفر بالبعث واليوم الآخر، ويعود ذلك لوجود إيمان مسبق لدى أولئك الأقوام بالبعث واليوم الآخر والثواب والعقاب بعد الموت، فلذلك لم يكن اهتمامها بشكل أساسي بالحديث عن الإيمان باليوم الآخر والبعث والثواب والعقاب بعد الموت.
ومثالا على ما سبق، المسيح عيسى بن مريم، لقد جاء إلى بني إسرائيل وكانوا جميعا يؤمنون بالله واليوم الآخر والبعث بعد الموت والثواب والعقاب، ولم يكن لدى بني إسرائيل أدنى شك في ذلك لأنهم كانوا يؤمنون برسالة موسى، وبالتالي لم تنصب دعوته لبني إسرائيل على الإيمان بالبعث واليوم الآخر وما يجري فيه من ثواب وعقاب، وإنما اتجه بدعوته إلى الانحرافات والأخطاء فكرية والسلوكية الأخرى، والتي لم يكن من بين موضوعاتها الدعوة إلى الإيمان بالآخرة، ومع ذلك كان المسيح بن مريم يذكر بني إسرائيل بثواب الله وعقابه في الآخرة، لكن لم يدعهم للإيمان به لأنهم كانوا بالفعل يؤمنون به.
وكذلك حدث في رسالات أخرى، حيث لم تحتوي رسالات عدد من الأنبياء والرسل الذين أورد القرآن الكريم قصصهم مع أقوامهم، مثل: (نوح- هود- صالح- لوط) على الدعوة للإيمان بالبعث واليوم الآخر، فلم يذكر القرآن الكريم أن هؤلاء الرسل قد ناقشوا مع أقوامهم قضية الإيمان بالبعث واليوم الآخر وما فيه من جنة ونار وثواب وعقاب، وذلك أن أقوامهم لم يكونوا ينكروا البعث بعد الموت ولا الحساب ولا الجزاء ولا العقاب، وإنما كانت القضايا التي عالجها أولئك الرسل مع أقوامهم هي قضايا عقائدية وسلوكية أخرى، وكان العذاب الذي توعد به أولئك الرسل أقوامهم هو العذاب الدنيوي الذي وقع عليهم في الدنيا من رجفة وصيحة وتدمير وإغراق وغيره، ومن يطالع قصص الأنبياء الأربعة: (نوح- هود- صالح- لوط)، في القرآن المجيد لا يجد أية إشارة للبعث ولا لليوم الآخر في قصص هؤلاء الرسل أثناء دعوتهم لأقوامهم، ولا يجد كذلك أية إشارة لا لجنة ولا لنار، ولا لثواب ولا لعقاب بعد الموت، وإنما توجهت دعوة هؤلاء الرسل لأقوامهم لمعالجة الانحرافات السلوكية والشركية الوثنية.
ومن استقراءنا لقصص هؤلاء الأنبياء والرسل في القرآن، نتبين أن أقوامهم كانوا على علم بالبعث بعد الموت وبالثواب والعقاب في الآخرة، ولم يكن ينكروا هذا وبالتالي لم يذكر القرآن أية إشارة في قصصهم عن دعوتهم لأقوامهم للإيمان باليوم الآخر، وكذلك لم يرد في قصصهم أي تحذير لأقوامهم من عذاب الآخرة، أو ترغيبهم في نعيمها، وكما سبق القول، أنهم كانوا يؤمنون مسبقا بهذا، والدليل على ما قلنا هو أن قوم هود كانوا من بقايا من آمنوا مع نوح، وقوم صالح كانوا من بقايا من آمنوا مع هود، وهذا ما قصه القرآن عنهم:
قال هود لقومه :
(وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ). (69- الأعراف).
وقال شعيب لقومه :
(وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ). (79- هود).
إذن فأقوام هؤلاء الرسل لم يكونوا يكفرون بالبعث واليوم الآخر، وما تحذير نوح لقومه من عذاب اليوم العظيم الذي ورد في قصة نوح إلا إشارة إلى يوم إغراقهم بالطوفان، وهو كيوم الظلة الذي أخذ العذاب فيه قوم شعيب عليه السلام، ونورد الآن بعض نصوص القرآن التي تحدثت عن قصص كل من: (نوح- هود- صالح- لوط) مع أقوامهم، وذلك على النحو التالي:
# قصة نوح :
(لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ* قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ* قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ* أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ* أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ* فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ). (59: 64- الأعراف)
# قصة هود :
(وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ* قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ* قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ* أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ* أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ* فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ). (65: 72- الأعراف).
# قصة صالح :
(وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَـذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ* وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ* قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ* قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ* فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ* فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ
جَاثِمِينَ* فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ). (73: 79- الأعراف)
# قصة لوط :
(وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ* إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ* وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ* فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ* وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ). (80: 84- الأعراف).
إذن، لم نجد في أي نص من النصوص السابقة أو غيرها من التي وردت في سور أخرى أية إشارة للدعوة إلى الإيمان للبعث بعد الموت أو الإيمان باليوم الآخر، ومن هنا يبطل اعتراض البعض الذين شككوا في أنبياء ورسل الديانات الشرقية: (بوذا- كونفوشيوس- زرادشت)، حيث قد اعترض المعترض على نبوتهم وإرسالهم لقومهم على أنهم لم يتعرضوا للبعث بعد الموت ولا للثواب والعقاب في اليوم الآخر رغم ورود نصوص كثيرة في بعض تلك الديانات قد أشارت إشارات واضحة وصريحة إلى البعث والثواب والعقاب كما سنرى فيما بعد. ومن هنا أقول: لو صلح استدلالهم هذا على عدم نبوة وإرسال كل من (بوذا- وكونفوشيوس- وزرادشت)، لصلح أيضا في الاستدلال على عدم نبوة وإرسال كل من (نوح، وهود، ولوط، وصالح)، حيث أن قصصهم الواردة في القرآن المجيد لم يرد بها أية إشارة إلى اليوم الآخر ولا البعث ولا الثواب ولا العقاب، إذن بطل ذلك الاستدلال.
# ماهية الثواب والعقاب في الآخرة :
بقيت مسألة هامة أود مناقشتها قبل أن نستعرض اليوم الآخر في الديانات الشرقية، وهي: عن نوعية وكيفية الثواب والعقاب في اليوم الآخر. أقول: إن ما ورد في القرآن من ثواب تم التعبير عنه بمصطلح الجنة وما فيها من حور عين وأنهار من خمر ولبن وعسل وغلمان وسرر مرفوعة وأكواب موضوعة وفاكهة ولحم طير وغيرها من الملذات، أما العقاب الذي ورد في القرآن للمفسدين والمجرمين، تم التعبير عنه بمصطلح النار والجحيم والسعير والسلاسل والأغلال وغيرها من أنواع العذاب التي قصها القرآن، ورغم هذا الوصف القرآني لأنواع النعيم وماهياته، وأنواع العذاب وماهياته، إلا أن القرآن قرر أن النعيم في الآخرة هو مجرد تشابه ومثال مع نعيم الدنيا، ولم يذكر لنا القرآن هل التشابه سيكون في الشكل أم اللون أم الطعم وهذا ما لا يفصح عنه القرآن، وأخبرنا كذلك أنه مثل للجنة وليس حقيقة الجنة، بل إن القرآن قد أخبر أنه لا علم لأي نفس بمقدار وكيفية وماهية هذا النعيم، وقد جاء ذلك في ثلاث آيات الآية الأولى: (كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً). (25- البقرة). الآية الثانية: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). (17- السجدة)، الآية الثالثة: (مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ). (35- الرعد).
إذن فلا يمكننا القطع أو الجزم بأن ما ورد في القرآن من ماهيات لألوان النعيم الموجودة في الجنة والتي يعلم جميعنا ماهيتها، لا يمكن القطع أو الجزم بأن ذلك النعيم هو على حقيقته التي نعلمها جميعا، أو هو نفسه الذي نعرفه في الدنيا، وإنما ذلك النعيم هو مثالا ومتشابها مع ما رزقنا الله به في الدنيا وليس هو على الحقيقة، وذلك لأن الله قطع بأن نفسا لا تعلم ما أخفاه الله لها من قرة أعين، وما ذكر الله ما ذكر من ألوان وأصناف نعيم الجنة التي ذكرها في القرآن إلا ليقرب لنا بقدر ما تدركه عقولنا في الدنيا من ألوان الملذات والنعيم.
وبما أن الثواب والعقاب يوم القيامة هو غيب ولا يمكننا تصور ماهيته وحقيقته، كما أخبرنا الله بقوله: (وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً)، وقوله: (مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ). (35- الرعد). وقوله: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ)، فكان لكل رسالة تعبير وتصور خاص بالثواب والعقاب في الحياة بعد الموت، فمثلا نجد أن القرآن استخدم مصطلح الجنة للدلالة على ثواب المطيعين، بينما الإنجيل لم يستخدم مصطلح الجنة لثواب المطيعين في الدار الآخرة، وإنما استخدم بدلا منه مصطلح (ملكوت الله) بدلا من مصطلح الجنة الذي ورد في القرآن، وبدلا من مصطلح (الدار الآخرة) استخدم مصطلح (الحياة الأبدية)، وذلك وفق الثقافة السائدة لمجتمع المسيح بن مريم. إذن فاختلاف التصورات لما يجري في اليوم الآخر، واختلاف التعبيرات في الرسالات الإلهية لا ينفي الحقيقة المؤكدة وهي: أن معظم الرسالات الإلهية أقرت بوجود ثواب للمطيعين وعقاب للعاصين، وأقرت كذلك بالعودة والحياة الأخرى بعد الموت مهما اختلفت التصورات والتعبيرات من رسالة لأخرى حول نوعية وكيفية الثواب والعقاب وكيفية البعث بعد الموت، وقد أكد القرآن المجيد على ذلك بقوله: (وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً)، وقوله: (مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ). (35- الرعد). وقوله: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ). إذن، فلا يمكن الجزم بأن ما ورد من أنواع الثواب والعقاب في كل الرسالات الإلهية بما فيها القرآن، لا يمكن الجزم بأنه هو على حقيقته التي نعرفه بها في الدنيا.
والآن نتناول الإيمان بالبعث واليوم الآخر والثواب والعقاب كما جاء في نصوص الديانات الشرقية في محورين، الأول: الإيمان باليوم الآخر والبعث بعد الموت، والثاني الثواب والعقاب، وذلك على النحو التالي:
# الإيمان باليوم الآخر والبعث بعد الموت في الديانات الشرقية:
كما سبق وأن ذكرنا في صدر هذا المقال أن الإيمان بالبعث بعد الموت، يعد جانبا أساسيا وركيزة هامة في الرسالات الإلهية، وبما أن هذه الدراسة التي بين أيدينا تقر بأن الديانات الشرقية ديانات سماوية ورسالاتها رسالات إلهية فمن البديهي أن يكون في ما تبقى من نصوص لتلك الديانات إشارات لهذا الإيمان وهذا ما سنحاول الكشف عنه في السطور القادمة في النصوص المتبقية للديانات الشرقية القديمة: (البرهمية، والبوذية والكونفوشيوسية والزرادشتية).
# البعث بعد الموت والثواب والعقاب في الديانة البرهمية (الهندوسية) :
لقد أصاب الديانة البرهمية ما أصاب الديانات الشرق أوسطية الثلاث: (اليهودية- المسيحية- الإسلام)، من انقسام وتفرق واختلاف وانحراف في فهم العديد من النصوص الدينية، وتم تحوير العديد من النصوص والذهاب بها بعيدا كل البعد عن المقصد الحقيقي لنصوص تلك الديانات، وليس هنا مقام عرض أمثلة على ذلك من الديانات الإبراهيمية الثلاث، فالأمثلة أكثر من أن تحصى وهي واضحة لكل من له أدنى اطلاع على النصوص الأصلية لتلك الديانات، وعلى الشروح والتفاسير التي وضعها رجال الدين الذين من خلال تلك الشروح والتفسيرات قد ذهبوا بعيدا عن المعنى الحقيقي للنصوص الدينية الأولى لدياناتهم.
ولو نظرنا فيما تبقى من نصوص دينية قديمة للديانة البرهمية، لوجدنا أن تلك الديانة قد أشارت نصوصها إشارات واضحة كل الوضوح للبعث بعد الموت، ولوجدنا أيضا أن رجال الدين في تلك الديانة قد قاموا بتحريف هذا المعنى الواضح كل الوضوح والذي يدل على البعث بعد الموت، قد حرفوه إلى ما يسمى بـ (تناسخ الأرواح)، بل إن من العجيب والغريب في الوقت ذاته أن جميع الباحثين الذين تناولوا هذه الديانة بالبحث والدراسة، قد أقروا على هذا الانحراف، حيث أجمع كثير من الباحثين على أن الديانة البرهمية (الهندوسية) الإيمان فيها بتناسخ الأرواح من صلب عقيدتها، وقد اعتمد هؤلاء الباحثون والدارسون في إقرارهم بذلك على ما جاء من تفسيرات وشروحات وفهم لرجال الدين القدماء الذين هم من ابتدعوا خرافة تناسخ الأرواح، ولم يكلف هؤلاء الباحثون أنفسهم عناء النظر في النصوص الأولى وتدبرها وفقهها بعيدا عن تفسيرات وفقه رجال الدين البراهمة، مما جعل هؤلاء الباحثون يقطعون بأن عقيدة تناسخ الأرواح هي عقيدة أصلية ثابتة لهذه الديانة.
إن بعض نصوص الديانة البرهمية التي أوردها الباحثون والدارسون الذين يدعون بأن تلك النصوص تقول بتناسخ الأرواح، هذه النصوص لا تمت بصلة من قريب ولا من بعيد بعقيدة تناسخ الأرواح وإنما هي نصوص صريحة في القول بخلود الروح، وعودة الإنسان بعد الموت، ونذكر نصا من تلك النصوص التي وردت في بعض الدراسات ونرى هل يقول بتناسخ الأرواح وعودتها إلى الدنيا بعد الموت أم لا؟، وذلك على النحو التالي:
نص ذكره كل من د. علي عبد الواحد وافي، ود. عمارة نجيب، عن ما نقله البيروني من نصوص الديانة البرهمية حول ما يسمى بعقيدة التناسخ، فجاء فيه ما يلي: (قال: (باسديو) (لآرجن) يحرضه على القتال وهما بين الصفين: إن كنت بالقضاء السابق مؤمناً فاعلم أنهم ليسوا ولا نحن معاً بموتى ولا ذاهبين ذهاباً لا رجوع معه، فإن الأرواح غير مائتة ولا متغيرة، وإنما تتردد في الأبدان على تغاير الإنسان من الطفولة إلى الشباب والكهولة ثم الشيخوخة، التي عقباها موت البدن ثم العود. وقال له: وكيف يذكر الموت والقتل من عرف أن النفس أبدية الوجود، لا عن ولادة، ولا إلى تلف وعدم، بل هي ثابتة قائمة، لا سيف يقطعها، ولا نار تحرقها، ولا ماء يغصها، ولا ريح تيبسها، لكنها تنتقل من بدنها إذا عتق (أي أصبح قديماً لا يصلح لاحتمال الروح ) نحو آخر ليس كذلك، كما يستبدل البدن اللباس إذا خلق (أي بلى)، فماذا غمك لنفس لا تبيد؟). (د. علي عبد الواحد وافي، ص165). و(د. عمارة نجيب, ص195) نقلا عن البيروني.
وبنظرة فاحصة للنص السابق، لا نجد فيه لا من قريب ولا من بعيد أية إشارة إلى القول بتناسخ الأرواح وعودتها إلى الدنيا مرة أخرى، بل إن هذا النص يتفق بصورة تامة مع ما جاء من نصوص في القرآن الكريم، وقبل أن نسوق بعض آيات القرآن التي تتطابق مع هذا النص، نقوم بتفحص الحقائق التي احتواها هذا النص ونوجزها على النحو التالي:
1 – شخص اسمه (باسديو) يحرض شخص آخر اسمه (آرجن) على القتال.
2 – ينفي (باسديو) لأخيه (آرجن) بأن ما يؤمن به من قضاء سابق، لا يقول بعدم العودة بعد الموت.
3 – يخبره بأن الأرواح لا تموت، ولا تتغير، وتظل الروح تتردد في أبدان الناس على تغيرات الإنسان من الطفولة إلى الشباب والكهولة والشيخوخة.
4 – أخبره أن عقبى الشيخوخة يأت الموت ثم العودة بعد الموت.
5 – يعظ أخيه بأن الذي يؤمن بالخلود بعد الموت لا يخشى الموت أو القتل، وكيف يذكر الموت والقتل من عرف أن النفس أبدية الوجود.
6 – يخبره بأن الروح لا تفسد بالموت لا عن ولادة ولا تتلف ولا تعدم، وإنما هي ثابته قائمة ليست بمادة يقطعها السيف أو تحرقها النار أو يغصها الماء أو ييبسها الهواء.
7 – يخبره بأن الروح ستعود بعد أن يخلق بدنها ويبلى، ستعود في بدن آخر ليس كبدنها الأول، ولم يذكر في النص أن هذه العودة تكون في الدنيا. إذ هناك عودة بالفعل للروح بعد الموت كما جاء في القرآن ولكن ليس بعودة إلى الدنيا، إنما هو عودة جديدة في اليوم الآخر.
والآن نقوم بعرض مقارنة بين مقاطع النص سالف الذكر الوارد في الديانة البرهمية (الهندوسية) وبين مقاطع من نصوص القرآن على النحو التالي:
النص في الدين البرهمي يقول: (قال: (باسديو) (لآرجن) يحرضه على القتال وهما بين الصفين).
النص القرآني يقول: (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ). (84- النساء).
النص في الدين البرهمي يقول: (إن كنت بالقضاء السابق مؤمناً فاعلم أنهم ليسوا ولا نحن معاً بموتى ولا ذاهبين ذهاباً لا رجوع معه).
النص القرآني يقول: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ). (7- التغابن)
النص في الدين البرهمي يقول: (فإن الأرواح غير مائتة ولا متغيرة، وإنما تتردد في الأبدان على تغاير الإنسان من الطفولة إلى الشباب والكهولة ثم الشيخوخة).
النص القرآني يقول: (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا). (67- غافر).
النص في الدين البرهمي يقول: ( الشيخوخة التي عقباها موت البدن ثم العود).
النص القرآني يقول: (ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ). (67- غافر).
النص في الدين البرهمي يقول: (وقال له: وكيف يذكر الموت والقتل من عرف أن النفس أبدية الوجود).
النص القرآني يقول: (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ). (154- البقرة).
النص في الدين البرهمي يقول: (أن النفس أبدية الوجود لا عن ولادة، ولا إلى تلف وعدم، بل هي ثابتة قائمة، لا سيف يقطعها، ولا نار تحرقها، ولا ماء يغصها، ولا ريح تيبسها).
النص القرآني يقول: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً). (85- الإسراء).
النص في الدين البرهمي يقول: (لكنها تنتقل من بدنها إذا عتق (أي أصبح باليا لا يصلح لاحتمال الروح) نحو آخر ليس كذلك، كما يستبدل البدن اللباس إذا خلق -أي بلى-).
النص القرآني يقول: (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ). (15- ق). ويقول أيضا النص القرآني: (نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ* عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ). (60، 61- الواقعة).
النص في الدين البرهمي يقول: (فماذا غمك لنفس لا تبيد؟).
النص القرآني يقول: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ). (169- آل عمران).
وتقرر العقيدة أيضا في الديانة البرهمية أن الروح هي من الله وسوف تعود إليه، وهذا ما قررته نصوص القرآن أيضا، ومما يؤكد على أن عقيدة التناسخ قد تم اختلاقها من قبل رجال الدين البراهمة وإلحاقها بالديانة البرهمية (الهندوسية)، ذلك النص الذي أورده الدكتور عبد علي عبد الواحد وافي، نقلا عن أسفارهم، وقد جاء في النص ما يلي: (إن روح كل كائن تعود في نهاية مطافها إلى مصدره الأول الذي نشأت منه وهو الله. والإنسان هو أحد هذه الكائنات، فيعرض له ما يعرض لها، وروحه قطرة من نور الله، انفصلت عن الله إلى أجل محدود، واتصلت به، ثم تتصل بعده بكائن آخر وأخر وهكذا على طريق التناسخ وتجوال الروح ، ثم تعود في النهاية إلى الله متى جاء الأجل ، كالقطرة من الماء العذب، تصعد بخاراً من البحر، وترقى في السماء، وتنتقل من جهة إلى جهة، وقد تتحول إلى قطع من الثلج أو البرد أو غير ذلك، ثم تسقط على قمم الجبال، وتجري في الأنهار، ثم ترجع في نهاية المطاف إلى البحر الذي انفصلت عنه في أول الأمر. أو كالهواء الحبيس في قدح مقلوب – حسب تشبيه أسفارهم نفسها – يظل منفصلاً عن الهواء الخارجي وإن كان منه، حتى يتحطم القدح، وحينئذ يزول الفاصل بينهما ويتحدان). (د. علي عبد الواحد وافي، ص166).
ومن هذا النص يمكننا القول أن عقيدة التناسخ وانتقال الروح من جسد إلى آخر، وأيضا عقيدة اتحاد الأرواح في ذات الله بعد الموت، كلها عقائد طارئة على ومستحدثة بفعل التفسيرات والمفاهيم المنحرفة التي أضافها رجال الديني الأوائل على النصوص الأصلية للديانة البرهمية، وهذا ما حدث كذلك مع أتباع الديانات السماوية الثلاث: (اليهودية- المسيحية- الإسلام) فقد تسربت إلى عقائدهم عقيدة التناسخ ووحدة الوجود، ومثالا على ذلك يوجد من أتباع الديانة الإسلامية من يقول بذلك كالصوفية وزعمائها كابن عربي وابن سبعين والسهروردي وغيرهم، فهم أقرب مثال على فهمهم لنصوص القرآن وفقا لهذه العقائد الضالة والمنحرفة.
# مصطلح العودة في نصوص الديانة البرهمية (الهندوسية) :
لقد تكرر مصطلح (العودة) بعد الموت في كل أسفار الديانة البرهمية (الهندوسية)، والتحريف قد خرج به من مقصده ومعناه الحقيقي إلى معناه الذي تم اختلاقه من قبل رجال الدين البراهمة، فمصطلح العودة بعد الموت قد حملته تفسيرات رجال الدين البراهمة في أسفارهم على عودتين، العودة الأولى: عودة للحياة في جسد آخر للتطهر من المعاصي والخطايا. والعودة الثانية: هي العودة بعد التطهر والصفاء إلى الله الذي خرجت منه في البدء للاتحاد به في نهاية المطاف. وحتى رغم هذه التحريفات إلا أن النصوص تقرر بكل صراحة بأن هناك عودة بعد الموت في نهاية المطاف إلى الله الذي بدأت منه، كذلك أقرت نصوص أسفار الديانة (البرهمية) بأن الروح قد خرجت من الله وبدأت منه، وليست الروح فقط بل جميع الكائنات بدأت من الله، وقد ذكر الدكتور عمارة نجيب نصا من أسفارهم يصرح بذلك وجاء في سفر (الفيدانتا) ما يلي: (هذا الكون ليس كله إلا ظهورا للوجود الحقيقي الأساسي، وأن الشمس والقمر وجميع جهات العالم وجميع أرواح الموجودات أجزاء ومظاهر لذلك الوجود المحيط المطلق، إن الحياة كلها أشكال لتلك القوة الوحيدة الأصيلة، وأن الجبال والبحار والأنهار، تفجر من ذلك الروح المحيط الذي يستقر في سائر الأشياء). (د. عمارة نجيب، ص192).
إذن، هذان التعبيران: (البدء من الله، والعودة أو الرجوع إلى الله في نهاية المطاف) هي نفس المصطلحات التي وردت في التوراة والإنجيل والقرآن، ولا يعنيان في الحقيقة غير ما عنته نصوص القرآن المجيد، ونورد بعض النصوص القرآنية التي جاء فيها مصطلح البداية من الله، وبعض النصوص التي جاء فيها العودة أو الرجوع إلى الله، وذلك على النحو التالي:
· نصوص القرآن في بدء المخلوقات والروح من الله :
كل ما في السماوات وما في الأرض جميعا من الله:
(وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). (13- الجاثية).
الروح التي في آدم وذريته هي من الله
(فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ). (29- الحجر).
المسيح بن مريم كلمة من الله:
(يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ). (45- آل عمران).
المسيح بن مريم روح من الله:
(إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ). (171- النساء).
· نصوص القرآن في عودة ورجوع جميع المخلوقات إلى الله :
(إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ). (4- يونس)
(قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ). (34- يونس).
(فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ). (51- الإسراء).
(مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى). (55- طه).
(كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ). (104- الأنبياء).
(أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ). (19- العنكبوت).
(إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) (13- البروج).
(كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ). (29- الأعراف).
(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ). (57- العنكبوت).
(اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). (11- الروم).
(يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً). (27، 28- الفجر).
# عقيدة الجنة والنار في الديانة البرهمية:
إن ما يبعث على الاستغراب، بل ما يؤكد على وجود تحريف لهذه الديانة، هو التناقض في مصير الإنسان بعد الموت فهم يعتقدون أن الروح تعود بعد الموت وتحل في جسد آخر وتظل هكذا حتى تتطهر وتعود إلى الله في نهاية المطاف، حيث أنهم يعتقدون أن العودة إلى الدنيا مرة أخرى في بدن جديد، يكون من أجل التطهر من الأخطاء التي ارتكبها الشخص أثناء حياته الأولى، وتظل هكذا حتى تصفوا تماما وفي النهاية تعود إلى الله، ومن ثم تتحد به، أما ما يدعوا إلى الاستغراب بل إلى التماس التناقض الصارخ، أنهم رغم عقيدة التناسخ التي تقوم على تطهير النفس من آثامها، رغم ذلك يؤمنون بوجود الجنة والنار، وهذا ما يدعو إلى القول بأن الديانة البرهمية (الهندوسية) بالقطع ديانة سماوية وقد تم تحريفها.
يقول كل من د. عبد الواحد وافي، و د. أحمد شلبي، و د. عمارة نجيب، نقلا عن البيروني (يعتقد البرهميون في الجنة والنار ، ولكن في صورة تختلف اختلافاً كبيراً عن عقيدة المسلمين . ويشرح البيروني عقيدة البرهميين في الجنة والنار فيقول: المجمع ويسمى “لوك”. والعالم ينقسم قسمة أولية إلى علوي وسفلي وواسطة، فيسمى الأعلى “سفر لوك” وهو الجنة، والعالم الأسفل “ناكلوك” أي مجمع الحيات وهو جهنم، ويسمى أيضاً “نرلوك”، وربما سموه “باتال” أي أسفل الأرضين، وأما الوسط الذي نحن فيه فيسمى “مادلوك” و “مانش لوك” أي مجمع الناس). (د. علي عبد الواحد وافي ص167).
(أي أن أرواح الناس في حياتهم الأولى تكون في المنزلة الوسطى وهي منزلة العمل والكسب، فإذا ماتوا انتقلت أرواح الخيرين منهم إلى الجنة (المنزلة العليا) تستوفي فيها جزاء العمل مدة مضروبة بحسب قدر العمل وكماله، وانتقلت أرواح الخاطئين منهم إلى جهنم (المنزلة السفلى) تستوفي فيها جزاء عملها كذلك مدة مضروبة بحسب مبلغ جرمها. وبعد استيفاء جزاء عملها في الجنة أو في النار، تنتقل الأرواح الخيرة من الجنة إلى آدميين آخرين فترجع إلى منزلة الوسطى، وأما الأرواح الخاطئة فتنتقل من النار إلى الحيوان والنبات. ومنزلة الحيوان والنبات منزلة رابعة غير المنازل الثلاث السابق ذكرها، تستقر فيها في بادئ الأمر الأرواح غير الآدمية لأنها قاصرة عن المنزلة الوسطى وعن السمو إلى الجنة وعن الرسوب إلى النار، وتستقر فيها كذلك أرواح الآدميين العائدة من جهنم. وهاتان الطائفتان من الأرواح المستقرتان في الحيوان والنبات تتجولان في شخوص الحيوان والنبات بالتناسخ إلى أن تنتقلا إلى الإنس على تدريج من أدنى المراتب النامية إلى عليا المراتب الحساسة ، فتصبحا في المنزلة الوسطى. وهكذا دواليك. فالثواب والعقاب عندهم في الجنة والنار إنما يكون للروح وحدها مجردة عن البدن ويكونان مؤقتين لأجل محدود لا دائمين). (د. علي عبد الواحد وافي ص168، 169).
إذن من هذا التناقض والتضارب يتأكد بالضرورة أن الدين البرهمي (الهندوسي) دين إلهي حق تم تحريفه عبر الأزمان، كما حدث لكل رسالات الله بما فيها اليهودية والمسيحية والإسلام.
(وللحديث بقية)
قائمة المراجع:
1 – د. عمارة نجيب, الإنسان في ظل الأديان: المعتقدات والأديان القديمة, المكتبة التوفيقية، القاهرة 1977.
2 – د. أحمد شلبي, مقارنة الأديان, أديان الهند الكبرى, الهندوسية – الجينية – البوذية, الطبعة الخامسة, مكتبة النهضة المصرية 1979.
3 – د. علي عبد الواحد وافي، الأسفار المقدسة في الأديان السابقة للإسلام، مكتبة نهضة مصر، الفجالة 1964.
nehro_basem@hotmail.com