على الرغم من أن أعمال القرصنة البحرية ليست جديدة، بل يرتبط تاريخها بتاريخ اختراع واستخدام السفن كوسيلة للنقل و التجارة، فان السنوات الأخيرة شهدت ارتفاعا ملحوظا في عددها مع تطور أساليبها و أدواتها، و لاسيما في المياه الآسيوية، الأمر الذي جعلها محط اهتمام إقليمي و دولي غير مسبوق لما تشكله من خطورة على أمن و اقتصاديات العديد من الدول. ولعل مما ضاعف من خطورة أعمال القرصنة البحرية الحديثة أنها صارت مرتبطة أو متداخلة مع الأعمال الارهاربية و الأجندات السياسية والإيديولوجية لبعض الجماعات و المنظمات، من بعد أن كانت في الماضي مجرد عمليات تقوم بها عصابات الجريمة المنظمة أو حفنة من المجرمين.
التعريف العالمي المبسط للقرصنة البحرية، طبقا لمؤتمر الأمم المتحدة حول قانون البحار، هو أي عمل من أعمال العنف أو الاحتجاز أو التخريب غير المشروع التي يقوم بها أشخاص أو جماعات ضد السفن و الناقلات المبحرة في أعالي البحار أو في المياه غير الخاضعة لسيادة دولة بعينها. المشكلة في هذا التعريف انه لا يعتبر تلك الأعمال من قبيل القرصنة إذا ما وقعت داخل المياه الإقليمية للدول، و يصنفها على أنها جرائم سطو، علما بأن معظم عمليات القرصنة تحدث في نطاق الأميال الاثنى عشر من المياه الإقليمية لبعض الدول، و لاسيما الأرخبيلية منها كإندونيسيا والفلبين. و من هنا بادر المكتب الدولي للملاحة البحرية المعني بجمع كافة المعلومات ذات الصلة بحوادث القرصنة البحرية إلى وضع تعريف آخر لا ذكر فيه للمكان هو أن ” القرصنة هي كل عمل يستهدف الوصول إلى السفن بقصد السطو أو ارتكاب أية جريمة أخرى عن طريق استخدام القوة”.
أما الأسباب التي ساعدت على ازدياد حوادث القرصنة البحرية في العقد الأخير، فتلخصها المنظمة الدولية للملاحة البحرية في احد تقاريرها بعوامل مثل:
1- التطور التكنولوجي الذي جعل السفن الكبيرة تبحر بطواقم ملاحية اقل عددا، و بالتالي سهل مهمة القراصنة في الاستيلاء عليها.
2- ظهور جماعات ذات أجندات سياسية أو انفصالية تنقصها الأموال ، و بالتالي تلجأ إلى أعمال القرصنة و الخطف و الاحتجاز للإنفاق على الأسلحة و العتاد و الرجال.
3- تواضع الميزانيات التي تخصصها الدول لسلاحها البحري مقارنة بميزانيات سلاحي البر والجو، الأمر الذي حال دون قدرة سلاح البحرية على أداء أعمال الدورية بكفاءة و سرعة عاليتين.
4- عدم وجود دول – مع بعض الاستثناءات القليلة – مستعدة لتحمل نفقات قوة بحرية دولية تجوب أعالي البحار لحماية خطوط المواصلات و التجارة على نحو ما اقترحه ألان تشان، احد أصحاب الأساطيل البحرية في سنغافورة، في أعقاب تعرض إحدى سفنه لعملية قرصنة مسلحة في عام 1998
5- تأخر الاتفاق على إجراءات جماعية حاسمة للتصدي للمشكلة بسبب المصاعب الناجمة عن تداخل الأمور السيادية و الإجراءات القضائية و الدبلوماسية.
وفيما يتعلق بحوادث القرصنة في المياه الآسيوية تحديدا، يمكن إضافة عامل آخر هو ما تتميز به مياه منطقة جنوب شرق آسيا من احتوائها على آلاف الجزر الصغيرة المتناثرة (مجموع الجزر الاندونيسية و الفلبينية وحدها يصل إلى 20 ألف جزيرة) من تلك التي تساعد القراصنة على الرصد والانطلاق و الاختباء، الأمر الذي يعقد من مهمة ملاحقتهم. كما يمكن إضافة العامل المتمثل في امتلاك العصابات و الحركات الآسيوية المسلحة لأدوات و وسائل حديثة كشبكات الاتصالات الفضائية و الرادارات و الأسلحة الاتوماتيكية المتطورة، فضلا عن القوارب السريعة التي تسير بأضعاف سرعة البواخر العملاقة. هذا فضلا عن أن نجاح القراصنة الآسيويين في معظم الحالات في الحصول على فدية مجزية لقاء تحرير طواقم السفن التجارية المختطفة، شجعهم على تكرار عملياتهم على نحو ما فعلته جماعة أبي سياف الإرهابية الفلبينية.
و هكذا لم يكن مستغربا أن يسجل في الربع الأول من عام 2003 مثلا نحو 230 حادثة قرصنة في المياه الآسيوية مقارنة بنحو 270 حادثة في عام 2002 كله، و أن يرتفع عدد تلك الحوادث في عام 2003 إلى ثلاثة أضعاف ما كان عليه الحال في عام 1993 ، و أن تصبح المياه الاندونيسية هي الأخطر على الإطلاق لجهة حوادث القرصنة تليها مياه مضيق ملقا فالمياه الفلبينية فالمياه المحاذية لبنغلاديش. و يكفي أن نذكر على هذا الصعيد أن ربع حوادث القرصنة أو 93 حادثة في عام 2004 وقع في الأرخبيل الاندونيسي، و انه من بين 43 ملاحا مختطفا في ذلك العام، تم اختطاف 36 منهم في مياه مضيق ملقا في عمليات متفرقة. هذا ناهيك عن أن ثلثي إجمالي الخسائر المالية الناجمة عن الأعمال الإجرامية في البحار لعام 2000 مثلا، والمقدرة بنحو 16 بليون دولار، كانت بسبب عمليات قرصنة حدثت في مياه المحيط الهندي.
ورغم أن عدد الحوادث المشار إليها تراجع نسبيا خلال السنتين الماضيتين كنتيجة للتعاون الأمني و الدوريات البحرية المشتركة فيما بين دول منظومة آسيان التي تعتمد اقتصاديات على تجارة التصدير و التي بدورها تعتمد بنسبة 90 بالمئة على النقل البحري، و لمساعدات اليابان المعنية كثيرا بأمن مضيق ملقا حيث تعبر وارداتها النفطية القادمة من الخليج، و لقيام الولايات المتحدة بتسيير الدوريات في أعالي البحار ضمن جهودها في محاربة الإرهاب، فانه من المبكر القول أن القرصنة في مياه المحيط الهندي صارت تحت السيطرة تماما. بل الحقيقة هي أنها بدأت تأخذ أشكالا جديدة وتركز على أهداف غير مسبوقة كناقلات النفط و الغاز و السفن المحملة بالكيماويات و المعادن. ففي مارس 2005 مثلا هوجمت ناقلة اندونيسيا محملة بالمواد الكيماوية في مضيق ملقا من قبل 35 قرصانا مسلحا بقاذفات الصواريخ، الأمر الذي أعاد إلى الأذهان ما قام به مسلحو حركة أتشيه الحرة الانفصالية الاندونيسية في عام 2002 حينما هاجموا سفينة نفطية مستأجرة لحساب شركة ايكسون موبيل الأمريكية. و في ابريل من نفس العام اختطف قراصنة مسلحون بالرشاشات الاوتوماتيكية سفينة محملة بما يساوي 4.6 مليون دولار من المعادن أثناء سيرها في المياه الاندونيسية باتجاه سنغافورة.
وهكذا فان الوضع يتطلب قدرا اكبر من التعاون و التنسيق الأمني و المخابراتي و اللوجستي فيما بين الدول المطلة على المحيط الهندي و الدول ذات المصالح الاقتصادية و الاستراتيجية في المنطقة كالولايات المتحدة و اليابان و دول الاتحاد الأوروبي، مع وضع آليات دقيقة و سريعة للتعامل مع أي اعتداء على الناقلات البحرية، وزيادة مساهمة القوى الاقتصادية الكبرى في تطوير قدرات سلاح البحرية و حرس الحدود في الدول الآسيوية على نحو ما تفعله اليابان حاليا مع سلاح البحرية الاندونيسي. لكن يبدو أن ملاك السفن و الناقلات التجارية لا يعولون كثيرا على مثل هذا التعاون، رغم قطعه لأشواط بعيدة في سنوات ما بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001 ، بدليل تحمسهم الكبير لمقترح قدمته المنظمة العالمية للملاحة البحرية، و تم تطبيقه و اختباره بنجاح من قبل إحدى مؤسسات الأمن الهولندية في ميناء روتردام العملاق. و فحوى الفكرة هو احاطة جسم السفينة بشبكة كهربائية صاعقة بقوة 9000 فولت للحيلولة دون استيلاء القراصنة عليها.
elmadani@batelco.com.bh
*باحث و محاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية