إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
مع اختتام الجدل والخلاف حول مستقبل الوقود الأحفوري في قمة المناخ أظهرت وسائل إعلام عالمية رؤية غير واقعية تشيطن النفط بدعوة نحو توطين الطاقة المتجددة، والبعد من التلوث.
فهل فعلاً يجب أن يعيش العالم في خوف من شريان الاقتصاد والحركة منذ أكثر من قرن، وهل هو العنصر الوحيد المسبب للتلوث المحيط بالأرض.
أسئلة متعددة حملتها لعديد من متخصصي الطاقة والنفط، والنتيجة التي يمكن أن نخلص إليها هي أن المقصود بذلك حملة إعلامية قد تكون ممنهجة، بل بعضها يصدر من وكالات طاقة دولية معروفة لا تتوقف في تصريحاتها عن ضرورة العمل بوقف الاستثمار في الاكتشافات والتنقيب وإنتاج النفط والانتقال إلى تحول جديد بهدف حماية البيئة، في وقت تؤكد فيه تقارير تلك الوكالات استمرار نمو الطلب العالمي على النفط باعتباره المحرك الأساس للاقتصاد العالمي.
شيطنة النفط
وفي قمة المناخ ظهر بصورة واضحة اتجاه شيطنة النفط في عديد من النداءات والندوات، لكن ولأول مرة أطلقت منظمة “أوبك”، عبر أمينها العام هيثم الغيص تذكيراً إلى وزراء النفط في تحالف “أوبك+” المطالبة برفض التوجهات التي تقضي بالتخلص من الوقود الأحفوري دون رؤية واضحة.
في الوقت ذاته شدد الغيص على أن هذه الحملة على النفط قد تنتج منها تداعيات وخيمة لا يمكن إصلاحها فيما بعد، بخاصة بسبب نقص الاستثمارات، مشيراً إلى أن المشكلة في الانبعاثات، وليست في الوقود نفسه، بل يجب التركيز على تحجيم الانبعاثات وليس الوقود الأحفوري.
وكان الأمين العام لـ”أوبك” قد حذر في تصريحات سابقة من الانتباه إلى أن إقصاء الوقود التقليدي، أو الإشارة إلى أنه في بداية نهايته بأنه “سيناريو خطر للغاية” وغير عملي، مشيراً إلى أنه في العقود السابقة، كانت هناك توقعات بأن يصل العرض والطلب إلى الذروة، لكن في نهاية الأمر لم يتحقق أي منها.
وأكد هيثم الغيص أن ما يجعل مثل هذه التنبؤات خطرة كونها مصحوبة بدعوات إلى إيقاف الاستثمار في مشاريع النفط والغاز الجديدة.
فوضى غير مسبوقة
وأضاف الغيص أن “هذه التنبؤات لا تفعل شيئاً غير أنها تؤدي إلى فشل نظام الطاقة العالمي بصورة مذهلة. وستتسبب في فوضى على نطاق قد يكون غير مسبوق في مجال الطاقة، مع عواقب وخيمة للاقتصادات ومليارات الأشخاص حول العالم”. وأوضح أن هذا الفكر حول الوقود التقليدي مدفوع أيديولوجياً، وغير مبني على حقائق، مشدداً على أنه لا يأخذ في الحسبان التقدم التكنولوجي الذي تواصل الصناعة تحقيقه في حلول المساعدة في تقليل الانبعاثات، كما لا يعترف بأن الوقود التقليدي يستمر بتشكيل أكثر من 80 في المئة من مزيج الطاقة العالمي، كما كان عليه قبل 30 عاماً. وأشار إلى أن الابتكار التكنولوجي هو محور رئيس لـ”أوبك”، لذا تستثمر الدول الأعضاء بكثافة في مشاريع الهيدروجين، ومرافق استخدام الكربون وتخزينه، واقتصاد الكربون الدائري، ومصادر الطاقة المتجددة كذلك.
أمن الطاقة
وتابع الغيص، “لحسن الحظ، أدرك عديد من المجتمعات أهمية تحقيق أمن الطاقة والتنمية الاقتصادية جنباً إلى جنب مع الحد من الانبعاثات. وقد أدى هذا بدوره إلى إعادة تقييم بعض صانعي السياسات لنهجهم في انتقال الطاقة”. هذا مع إدراك التحدي الذي يواجه العالم للقضاء على فقر الطاقة ونقصها، وأكد “من أجل المساهمة في استقرار الطاقة العالمي الشامل في المستقبل، ستواصل (أوبك) التعاون مع جميع أصحاب المصلحة المعنيين لتعزيز الحوار، الذي يشمل وجهات نظر الشعوب جميعها، وذلك لضمان تحولات الطاقة الشاملة والفاعلة للمضي قدما”.
حاجة العالم إلى الطاقة
ودائماً ما يتكرر أن الطلب على النفط سيضعف، وأن مصادر الطاقة البديلة ستأتي بقوة. والسؤال كيف يمكن الجزم بهذا التوجه القريب المتفائل وأن حاجة العالم إلى الطاقة البديلة ستطيح النفط من أعلى قمته التاريخية، وأن الدول المنتجة ستستسلم للقادم الجديد؟
أوروبا تخالف العالم وترجع للفحم
الغريب أن من يقود حملة التخلي عن النفط هي الدول الأكثر استيراداً له، وفي مقدمها الدول الأوروبية، بل إن بعضها أعاد تشغيل محطات الطاقة التي تعمل بالفحم بعد توقفها لإخراجها من الخدمة تطبيقاً لتعهدات خفض الانبعاثات، إذ إن الانبعاثات من الفحم أعلى بكثير من النفط والغاز. وحتى تهرب هذه الدول من “ازدواجية معايير شيطنة النفط ” تسعى نحو تحقيق أهداف قد يكون باطنها سياسياً أو أداة ضغط ضمن أجندة منوعة.
في الوقت ذاته نرى أن أوروبا ما زالت تعتمد بنحو 28 في المئة على الطاقة الكهربائية الآتية من الوقود الأحفوري. ويشير المتخصص في شؤون الطاقة والنفط، أنس الحجي إلى أنه وعلى رغم إنفاق أكثر من تريليون دولار على الطاقة المتجددة منذ عام 2010، فإن نحو 60 في المئة من الكهرباء المولدة بالولايات المتحدة تأتي من الوقود الأحفوري. ويشير إلى توسع شقة الخلاف بين الدول الغربية والصين والحرب الأوكرانية وتوحش وكالة الطاقة الدولية والأمم المتحدة، ومن يتبعها من متطرفين بيئيين، حيث بلغ الأمر أن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش وصف الدول النفطية والمستثمرين بالنفط والغاز بـ”المجانين”، ومطالبة مدير وكالة الطافة الدولية للدول والشركات النفطية بالتوقف الكامل عن الاستثمار في صناعة النفط والغاز. بالطبع، لن يحدث ذلك، ولكن يجمع الخبراء على أنه لو حدث ستحصل أكبر مجاعة في التاريخ وأكبر عملية إبادة كذلك.
نستعد للقادم
وعلى رغم ذلك فإن الأمر المؤكد وبلا أي زيادة أن دول النفط عليها أن تأخذ في الاعتبار أن التكنولوجيا قادمة، وأن الذكاء الاصطناعي هو من يقود التحولات الجديدة في عصر جديد، من ثم وعلى رغم الدعوات المبطنة إلى التخلي عن الوقود الأحفوري، وما تمثله من حملات إعلامية، فإن مستقبل التكنولوجيا على حياتنا وإنتاجنا سيفرض نفسه شئنا أم أبينا. من ثم فمن الأنسب الاستعداد للمرحلة المقبلة أيضاً مهما علت الأصوات المخالفة. وقد تكون مراحل التطور بعيدة، وأن إحلال بدائل النفط قد تستغرق وقتاً أطول مما يتمنى دعاة الطاقة المتجددة، لكن الواقع يقول إن القادم في التغير حقيقي.
بالطبع لا يمكن القول إن التكنولوجيا ستقضي بصورة كاملة على النفط، ولكنها قد تلعب دوراً كبيراً في تغيير دور النفط بتنويع مصادر الطاقة. وبالتأكيد إن تطور التكنولوجيا في مجالات الطاقة المتجددة، والتحسينات في استخراج واستخدام الخام قد يؤثران على الطلب، بل قد يشكلان تحديات وفرصاً أخرى للباحثين عن البديل.
ومع تسارع الجهود في التحول من الاعتماد على النفط إلى استكشاف واعتماد مصادر الطاقة المستدامة، قد يثير هذا السيناريو تساؤلات حول شكل الاقتصاد الجديد ودور النفط فيه. بالتالي فما الذي ننتظره من التغييرات القادمة في هيكل الاقتصاد العالمي، إن صار الانتقال، إلى الذكاء الاصطناعي هو المحور الأساس في الإنتاج والتوظيف والطب، والغذاء.
هل تبتلع التكنولوجيا النفط؟
هل سنخاف من التكنولوجيا؟ وهل ستبتلع النفط؟ والجواب: لا أعتقد، لكن علينا أن نجد تحولاً في مسار الطاقة من مصادر مستدامة كالشمس والرياح وغيرها إلى ابتكار اقتصادي، يحمينا من القادم، كما أن تكثيف البحوث العلمية في معرفة مستقبل السوق النفطية والطاقة المتجددة، وإدخال ذلك في مناهج التعليم، بخاصة في دول الخليج يعد أولوية أخرى سنحتاج إليها، كما أنه من المؤكد نحتاج إلى سلسلة مناهج تفرض تغييراً في النمط الاستهلاكي لدينا، فلماذا نتربع على مساحة تزيد على 800 متر في بيت قد تعيش فيه عائلة لا تتجاوز عددها 3 أفراد، وإن استهلاكها للطاقة قد يزيد على حاجتها. قد يكون هذا التوجه هو الحل في مواجهة التأثيرات القادمة.
كلف التحول
تأثير تخليص العالم من النفط قد يكون هائلاً على الاقتصاد العالمي، بخاصة بالنسبة إلى الدول المعتمدة بصورة كبيرة على صادرات النفط. ليس هذا فحسب، بل أيضاً على الدول النامية التي لا تتحمل كلفة التحول السريع إلى الطاقة المتجددة. من هنا ينادي المتخصصون بتدابير لتخفيف التأثيرات الاقتصادية المحتملة وتطوير البدائل الاقتصادية. بالتالي قد يكون ما تحتاج إليه الدول المنتجة هو التغيير والالتفات إلى الدور الذي ستلعبه التكنولوجيا وتطويعها في مستقبل النفط واستمرار استثمارها في تكنولوجيا خفض الانبعاثات من الوقود الأحفوري دون أن نلتفت إلى التخلي عن مكتسباتها في ثروتها الوطنية.
ربما ما يغفله النشطاء وأصحاب الأجندات السياسية في استغلال أزمة المناخ للهجوم على الدول المنتجة للوقود الأحفوري هو أن عملية التحول في مجال الطاقة تحتاج إلى استثمارات هائلة، ولن تتوفر هذه الاستثمارات إذا تقلص النشاط الاقتصادي وتدهور النمو نتيجة التخلي عن الوقود الأحفوري في وقت لم يطور فيه العالم مصادر طاقة بديلة كافية. ومهما كان دعم الحكومات لخطط التحول في مجال الطاقة فهو ليس كافياً لتحقيق أهداف المناخ ما لم تستثمر شركات الطاقة الكبرى فيه، وما زالت عائدات وأرباح تلك الشركات التي يمكن أن تستخدمها في استثماراتها في الطاقة المتجددة تأتي من إنتاج النفط والغاز.