عنوان هذا المقال له قصة تستحق أن تُروى. ففي اليوم التالي لموت المفكر المضطهد نصر حامد أبو زيد، دعاني التليفزيون المصري للحديث عن فكر هذا المضطهد. وفى اليوم التالي لهذا الحديث تلفن رئيس جامعة عين شمس الأستاذ الدكتور ماجد الديب، وقال: «استمعت إلى حديثك بالأمس وأعجبت بجرأتك في إعمال عقلك. ونحن في الجامعة في حاجة ماسة إلى مثل هذا العقل. ولهذا أرغب في لقائك»، وقد كان.
وفى ذلك اللقاء، قال رئيس الجامعة: «أرجو أن نتعاون سوياً مع نخبة من أساتذة آخرين لدفع الجامعة نحو الدخول ضمن خمسمائة جامعة عالمية من أجل التقدم»، ثم طلب مني أن أتقدم إليه بورقة عمل بها أفكاري التي أريد تحقيقها، وقد كان، إذ بعد أسبوع أرسلت ورقتين أو، بالأدق، مشروعين تحت عنوان «نحو جامعة مبدعة»: المشروع الأول عنوانه «الإبداع في التعليم»، والمشروع الثاني عن «وحدة المعرفة».
وبعد أن فرغت من أداء هذه المهمة التي كُلفت بها من قبل رئيس الجامعة، دارت في ذهني مهمة أخرى كان قد كلفني بها رئيس جامعة سابق في عام ١٩٩٧، وهى أن أكف عن التدريس لطلاب مرحلة الليسانس بسبب شكاوى أُرسلت إليه من قبل الطلاب تدور كلها حول أفكاري التي تسبب لهم إزعاجا وقلقا، وأن اكتفى بالتدريس لطلاب ما بعد مرحلة الليسانس وعددهم لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، واستجبت بلا تردد.
مطلبان متناقضان من رئيسين من رؤساء جامعة عين شمس: مطلب في نهاية القرن العشرين مؤلم للغاية؛ لأنه يشي بظاهرة سلبية تومئ إلى إبطال الجرأة في إعمال العقل، ومطلب آخر مع بدايات القرن الواحد والعشرين يشي بظاهرة إيجابية هي على الضد من الظاهرة الأولى؛ لأنها تحرص على إعمال العقل، وهو تحريض تقوم به الجامعات التي تنشد الإبداع العلمي من أجل التقدم، ويقوم به رئيس جامعة عين شمس في الوقت الراهن. ومن هنا شعرت بأسى عندما قرأت في الصحافة خبرا مفاده أن توتراً حدث في حرم جامعة عين شمس في ٤ نوفمبر من هذا العام بمناسبة دخول وفد من أساتذة جامعة القاهرة لتوعية أساتذة جامعة عين شمس بمغزى قرار المحكمة بإلغاء الحرس الجامعي.
أما أنا فكنت أود أن تكون الغاية من دخول وفد من أساتذة جامعة القاهرة إجراء حوار مع نخبة من أساتذة جامعة عين شمس وطلابها.
والسؤال بعد ذلك:
حوار حول ماذا؟
حول معرفة الأسباب التي أفضت إلى خروج الجامعات المصرية من المنافسة الدولية الأكاديمية.
وأظن أن من بين الأسباب الجديرة بالتحليل والنقد هو ذلك التيار الأصولي الديني الجارف الذي يعادى الجرأة في إعمال العقل، بل يُرهب كل مَنْ يجرؤ على إعمال عقله. ومحنة الجامعة تقوم في ممارسة هذا الإرهاب من قبل التيار الأصولي، وهو تيار نشأ مع تأسيس الجامعة المصرية.
فمنصور فهمي فُصل من الجامعة الأهلية المصرية في عام ١٩١٣، وهو العام الذي حصل فيه على الدكتوراه من جامعة السوربون. وأدين طه حسين في عام ١٩٢٦ بسبب كتابه المعنون «في الشعر الجاهلي»، ولويس عوض صودر كتابه المعنون «مقدمة في فقه اللغة العربية» (١٩٨١)، ونصر حامد أبو زيد مُنع من الترقية لدرجة الأستاذية في عام ١٩٩٣ بسبب كتابه المعنون «نقد الخطاب الديني».
وقد نتوهم أن ما حدث لهؤلاء قد حدث لكل منهم على حدة، بينما الحاصل هو أنه موجه ضد تيار كان يريد أن تكون له مشروعية الوجود، ولهذا تم وأده.
وقد يقال إن ثمة أسبابا أخرى تأتى في المقام الأول غير هذا السبب الذي أشرت إليه، وهو قول يدلل على ضرورة الحوار. وإذا كان الحوار ضرورياً فالسؤال إذاً:
متى يأتي وفد من أساتذة جامعة القاهرة لإجراء هذا الحوار مع زملائهم من أساتذة جامعة عين شمس؟
(الصورة: لوحة “موت سقراط”، رسمها الفرنسي “جاك لوي دافيد”، القرن 18)