ماذا بعد التعديلات الدستورية؟…هذا السؤال تجري صياغة الرد عليه هذه الأيام في الدوائر البرلمانية والحزبية وتشارك في ذلك مؤسسات المجتمع المدني, كما أن جموع المواطنين مطالبة بالإسهام بالتعبير عن رؤاها في هذا الخصوص حتي نستطيع العبور بالتعديلات الدستورية إلي بر الأمان نحو منظومة تشريعية تفعل مفاهيم المواطنة والحريات السياسية والتمثيل الانتخابي العادل وتضمن كرامة المواطن وأمن الوطن.
“وطني” تقدم داخل عددها هذا اليوم وقائع جلسة “صالون وطني” التي عقدت الأسبوع الماضي لمناقشة المأمول التشريعي من التعديلات الدستورية, وقد حرص الصالون علي إتاحة أقصي قدر ممكن من تمثيل التيارات السياسية والفكرية مع نماذج من المجتمع المدني لبلورة رؤية واضحة تسهم في الجدل الدائر ولعلها تنعكس بشكل إيجابي علي ما تجري صياغته في دوائر صنع القرار…وإذ أترك التفاصيل للتغطية داخل العدد, يهمني أن أسلط الضوء علي أهم المحاور التي شملها النقاش وما أفرزه من توجهات اتفق عليها المشاركون,الأمر الذي يعنيني بالضرورة وسبق أن أشرت إلي أهمية مغزاه,فالتحدي الماثل أمام كل منا في المرحلة الراهنة هو استكشاف مناطق الاتفاق التي تجمعنا لأن فيها تكمن احتمالات الائتلاف بيننا,وفي ظل الائتلاف نتعلم قبول مناطق الاختلاف وعدم الفزع منها.
**تصدرت “المواطنة” المناقشات باعتبارها الرمز المعطل الذي قفز من بين سطور المادة(40)من الدستور ليحتل صدارة المادة الأولي, فبعد أن كانت المادة(40)تنص علي أن:”المواطنون لدي القانون سواء,وهم متساوون في الحقوق والواجباب العامة,لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة”, وكانت جميع تلك المعايير مذبوحة وغير مفعلة في الحياة المعاشة,سواء بسبب اختلال تشريعي أو بسبب تردي سلوكي رسمي وشعبي,كان من المحتم إحداث هزة ملموسة تضخ دماء جديدة في المادة(40),وكان ذلك بالنص في المادة الأولي من الدستور علي أن:جمهورية مصر العربية دولة نظامها ديموقراطي يقوم علي أساس المواطنة…وبينما اعتبر البعض ذلك عملا تجميليا لم تكن هناك حاجة إليه لاستيفاء مضمونه في المادة(40),اعتبر البعض الآخر أنها خطوة عظيمة لترسيخ مفاهيم غائبة ولكبح جماح من ينزع في يوم من الأيام إلي إساءة استخدام المادة الثانية من الدستور التي بقيت كما هي تنص علي أن:”الإسلام دين الدولة…ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع”.
وفي هذا السياق اتفق الجميع علي ضرورة ترجمة “المواطنة” إلي واقع تشريعي معاش حتي لا تتجمد في إطار الرمز المجرد الذي يزين المادة الأولي,ومن أجل ذلك يلزم وضع تعريف للمواطنة يكون هو المدخل لتشريعات عديدة تهتم بحقوق أي مصري ومصرية وتتجاوز جميع الاختلافات الجنسية والعرقية والاقتصادية والاجتماعية والمذهبية والعقيدية بينهم, وبزر في هذا الخصوص الاحتياج الماس لإعلانمعدلللتعداد العام الذي أجري مؤخرا في مصر يقدم بشفافية التشريح العرقي والديني للمصريين ولا يصادر حق المواطن في أن يعرف كل شئ عن بلده ومجتمعه.أيضا حتمية الإسراع بإصدارالقانون الموحد لبناء دور العبادة للقضاء علي واحدة من أهم معايير اختلال المساواة التشريعية بين المصريين.أما فيما يخص تكافؤ الفرص وعدم المساواة في ذلك بين الرجل والمرأة,المسلم والقبطي,الغني والفقير…إلخ فكان هناك إجماع علي أن يعهد إلي المجلس القومي لحقوق الإنسان بأمر مراقبة معايير المواطنة مع إعطاء المجلس الحصانة التشريعية كسلطة مستقلة عن السلطة التنفيذية لها صلاحيات مطلقة للتدخل لعلاج أي اختلال في حقوق المواطنة,كما أن للمجلس في ذلك أن يسترشد بنسب تمييزية مؤقتة للتحقق من سريان مبدأ تكافؤ الفرص في الوظائف العامة والمناصب القيادية ويتولي لفت نظر الأجهزة المعنية إذا تجاوزت ذلك وله صلاحيات لمساءلتها وإلزامها بتعديل مسارها في هذا الخصوص.
**المادة الخامسة التي تنص علي أن:”للمواطنين حق تكوين الأحزاب السياسية وفقا للقانون ولا تجوز مباشرة أي نشاط سياسي أو قيام أحزاب سياسية علي أية مرجعية دينية أو أساس ديني, أو بناء علي التفرقة بسبب الجنس أو الأصل”…واتفق الجميع علي حتمية تعديل قانون الأحزاب وإلغاء أو تعديل اختصاصات لجنة شئون الأحزاب بما يكفل حرية تأسيس الأحزاب بمجرد الإخطار,علي أن تتولي اللجنة مراقبة النشاط الحزبي للتحقق من عدم تسلل المرجعيات الدينية إليه واختراقه…وفي هذا الخصوص كانت هناك رغبة ملحة لإدخال تشريعات واضحة قاطعة تدعو شاغلي المناصب السيادية في الدولة وعلي رأسهم رئيس الجمهورية ونائبه ورئيسا مجلسي الشعب والشوري للتخلي عن انتمائهم الحزبي حال وصولهم للسلطة, تأكيدا علي الطبيعة السيادية غير الحزبية لمقتضيات تلك المناصب تجاه المصريين جميعا.
**المادة(62)تتناول حق المواطن في الانتخاب والإسهام في الحياة العامة,مع استحداث الأخذ بنظام جديد يجمع بين النظام الفردي والقوائم الحزبية في الترشيح لانتخابات مجلسي الشعب والشوري…وفي هذا الصدد كانت الرغبة ملحة نحو بلورة تشريعات تفصيلية لنظام القوائم الحزبية تحقق عدالة المشاركة وتكافؤ الفرص والتمثيل المتنوع لفئات الشعب, وبرزت هنا مرة أخري النسبة التمييزية التي كفلها الدستور صراحة للعمال والفلاحين,والاحتياج إلي تشريعات شجاعة تنص علي أفضليات إيجابية مماثلة في ترتيب القوائم الحزبية تسمح بوصول المرأة والأقباط والشباب إلي المجالس المنتخبة.
**المادة(88)الخاصة بنظام الانتخاب والتي شابها كثير من اللغط والقلق والتشكيك إبان إقرار التعديلات الدستورية,أخذت قسطا وافرا من المناقشات عكست شعورا بالارتياح إزاء نصها المعدل مع دعوة لأن يتم تأسيس هيئة مستقلة للانتخابات لها استقلالية وحصانة عن السلطة التنفيذية وتتولي تنظيم عملية القوائم الانتخابية والبطاقات ونظام الترشيح وتضع الضوابط الخاصة بالإنفاق وسبل الدعاية الانتخابية,وتراقب الانتخابات وتتولي فرز الأصوات وإعلان النتائج…ويحدد القانون كيفية اختيار أعضاء هذه الهيئة من الشخصيات الاعتبارية والعامة من خارج السلطة التنفيذية ولا يتم اختيارهم بواسطة السلطة التنفيذية.
**المادة(179)الخاصة بحماية الأمن والنظام العام في مواجهة أخطار الإرهاب…اتفق الرأي علي حتمية أن تتولي التشريعات المنظمة لها بلورة أمرين في غاية الأهمية:الأول صيانة كرامة المواطن والحرص علي حقوقه الدستورية والقانونية أثناء الحفاظ علي أمنه ووضع حد قاطع للتصادم بينه وبين الأجهزة الأمنية…والثاني وضع تعريف محدد للإرهاب يتم تنقيته من جميع التعبيرات الجوفاء والمطاطة التي تشكل إرهابا عكسيا علي المواطن وتفتح شهية السلطة للإيقاع به متي أرادت ذلك.وأخيرا الحد من سلطة رئيس الجمهورية في استحداث أنماط جديدة من المحاكم ومن مراتب التحقيق الجنائي والقضاء غير المتوفرة في درجات السلم القضائي,لتبرير تجاوز الإجراءات القضائية في مواجهة الطوارئ.
هذا إسهام في تشكيل ملامح التشريعات المتوقع أن تفرزها التعديلات الدستورية,لعله ينجح في أن يتفق مع تطلعات الأغلبية في الدوائر المعنية بمناقشة تلك التشريعات. أملا في أن تخطو مصر بها أولي خطواتها علي مسار الإصلاح السياسي.