إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
كان اليوم حارا واستثنائيا.. حار لأنه أحد أواخر أيام شهر يوليو من سنة 1999، واستثنائي لأنه شهد جنازة الملك الحسن الثاني. لذا فقد ترك أثرا كبيرا في النفوس، كل حسب زاوية ومستوى النظر الذي يعتقد أنه الحق الذي يعلو ولا يُعلى عليه. كانت الجموع الغفيرة من الغوغاء، أو الغاغة، التي رافقت ذلك الملك الاستثنائي إلى مثواه الأخير، قد تركت آثار مرورها، ليس فقط على إسفلت الشارع الكبير الوحيد في العاصمة الرباط، بل أيضا شعورا غائرا في نفوس كل مَن تجشم عناء مُعاينة الظاهرة بعين فاحصة. وكان من بينهم أحد المُثقفين المغاربة الذين استطلعت رأيهم في الموضوع. يتعلق الأمر بـ (ع.ش)، وهو كاتب كان محسوبا على اليسار الراديكالي، انتمى ردحا من زمن أواخر سنوات الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن الماضي، لمنظمة “إلى الأمام” الماركسية اللينينية التي كانت محظورة، قبل أن يعرف تجربة السجن، لبضع سنوات، ويخرج منه إنسانا آخر، حيث كان قد “برأ” تقريبا من “مرضه” اليساري واعتنق “اللامذهبية المُجدية” على غرار الكثيرين من زملائه،الذين غادروا سجون الحسن الثاني.. قال هذا اليساري القديم مُفسرا الاحتشاد الكبير حوالي الجنازة الملكية: “هكذا تبكي الأمم جلاديها”. وجوابا عن سؤال حول مُقبل الأيام قال: “سيذهب الطغاة الكبار ليحل مكانهم آخرون صغار”…
كان الرجل مُتأكدا مما قاله، لدرجة أنه وضع بسرعة كامل بيضه في سلة واحد من الطغاة الصغار، الدائرين حوالي الملك الجديد، القديم الآن. ولم يخب رهانه حيث تكفل به الملك شخصيا حينما احتاج عملية جراحية على أمعائه المتهرئة،واليوم فإنه يعمل في إحدى السفارات المغربية بأوروبا في منصب استُحدث من أجله قلبا وقالبا: “وزير مُفوض فوق العادة”. ولا أحد يعلم ما الذي يفعله هذا اليساري السابق، والوزير المخزني الحالي في مهمته تلك، اللهم أنه يتقاضى راتبا كبيرا، يُستخرج استخراجا من عرق البروليتاريا الرثة التي ناضل من أجل انعتاقها ردحا من الزمن.
هرع كثير من اليساريين على غرار “وزيرنا المفوض” إلى اتخاذ أماكن لهم بسرعة بجانب “طغاة العهد الجديد”، ذلك لأن “قطار محمد السادس كان سينطلق وهو لن يُصفر مرتين” كما قال أحد الصحفيين المخزنيين، الذي يتبوأ منصبا إشرافيا في القناة التلفزيونية الثانية. وعلى غرار أطفال ماركس ولينين المغاربة السابقين، أبناء المخزن المغربي حاليا، تداعى المُثقفون والصحافيون إلى كعبة السلطة بردائها الجديد، حيث بدأوا يُقدمون للملك الجديد تعابير “الولاء والطاعة” مُغلفة بالمشورة، عبر الصحف واللقاءات “الأكاديمية” في عبارات صريحة بالنسبة لأكثرهم صلافة، ومُبطنة مُشفرة بالنسبة لأحرصهم على بضع قطرات من دم البكارة اليسارية.
هذا بالنسبة للصاعدين الجدد من السياسيين والمثقفين الشباب. أما أسلافهم من خدم وحشم الوزير القوي السابق إدريس البصري، فانزووا في بيوتهم كأية فئران مذعورة من مخالب قط شرس، ذلك لأنهم كانوا قد وضعوا من قبل كامل بيضهم في سلة الوزير البدوي القوي.. وللصدف التي لم تخدمهم في شيء أن هذا الأخير لم يكن يحظى برضا الملك الجديد، بل إن محمد السادس، فيما قيل، يُكنُّ له مشاعر البغض والاحتقار، وقد تأكد ذلك من التنحية التي بُوغت بها من منصبه الكبير، كوزير دولة في الداخلية لمدة تُقارب الثلاثين سنة، ليتدحرج بعد ذلك إلى أسفل دركات التبخيس، التي يُتقنها المغاربة في حق كل مَن ازوَرَّت عنه السلطة والقوة، وليتحايل رجل الشاوية(المنطقة البدوية التي ينتمي إليها إدريس البصري) القوي سابقا، المهيض الجناح إبانئذ (خريف سنة 1999) على سجانيه، في سجن كبير يُسمى المغرب، تحجج بتهرؤ كبده، جراء الإستهلاك المُفرط للويسكي، وحاجته للعلاج في الخارج، ليهرب بجلده من لهيب الانتقام الملكي، ومذلة انصراف السطوة والجبروت كما هو مصير مَن انطفأت شمعته عقب شديد التهاب.
لذا فإن كل أتباعه وما أكثرهم، ومنهم المُثقفون والصحافيون والسياسيون وأساتذة الجامعة، ينزوون اليوم في بيوتهم، كما سبقت الإشارة، في انتظار أن تُنسى أيام “عشقهم” وتعبدهم في المحراب المخزني حسب الطبعة التي “أبدعها” إدريس البصري. وحجم الكارثة في هذا الصدد لا يُقاس، حيث إن أفضل العقول المفكرة والمُدَرسة في الجامعات المغربية،أو المنضوية في اتحاد الكتاب، وغيرها من التشكيلات الفكرية والأكاديمية والسياسية والنقابية، كانت محسوبة على نفوذ ذلك الرجل السلطوي البدوي، الذي بدأ حياته المهنية أول مرة، كمفتش شرطة، وهو لا يتوفر على شهادة البكالوريا، قبل أن يلتحق بالجامعة، ليتجسس على الحياة الطلابية أكثر من تحصيل العلم، وليتمكن بعد ذلك من شراء الخدمات الأكاديمية، ليس فقط من بني جلدته، بل من بعض الأكاديميين الفرنسيين الجشعين أيضا. ووصل هذا التحايل “الأكاديمي” إلى درجة أن أستاذا فرنسيا مُبرزا في القانون قَبِلَ أن يُوقع كتابا عن الإدارة الترابية للمملكة المغربية، أو شيئا من هذا القبيل، بشكل مشترك مع البصري. وقد صدرت منه طبعات كثيرة بالتوقيعين، إلى غاية إحدى السنوات الأولى من الألفية الميلادية الحالية، حيث فوجئ القراء المهتمون أن الطبعة الجديدة من نفس الكتاب، صدرت بدون توقيع إدريس البصري، بل باسم الأستاذ الفرنسي وحده، تصوروا…
لإدراك حجم الدمار الشامل، الذي لحق بالمادة الرمادية المغربية (أي الأدمغة المُفكرة) في عهد الحسن الثاني، ووزير دولته القوي إدريس البصري، نورد روايتين من مصدرين قريبين مما حدث بحكم الاختصاص والمُعايشة. يتعلق بالأستاذين الجامعيين محمد ضريف المعروف بتخصصه في دراسة الحركات الإسلامية، وعلي سدجاري المعروف بدوره كأستاذ لعلم الإدارة. لنستمع للأول: “كان كل الزملاء الأساتذة قد دأبوا على زيارة بيت العامل العفورة (رجل السلطة السابق القوي في الدار البيضاء) يلعبون الكارطة (الورق) وأفئدتهم عالقة بشفاه فم مُضيفهم، الرجل السلطوي القوي، في انتظار أن يُعلن عن اسم الأستاذ المحظوظ الذي سيتولى منصب العمادة في إحدى كليات المملكة، أو مهمة “استشارية” لدى وزارة الداخلية أو غيرها، المهم أن يكون الأمر مُتعلقا بمصدر آخر للمال..”
كلهم تقريبا مروا من هناك. وكان السيد العفورة يعرف بطبيعة الحال طموحاتهم وتحاسداتهم البينية الصغيرة. لذا فقد استثمر ذلك جيدا. فهو واحد من التلاميذ النجباء في مدرسة السلطة على الطريقة البصرية (نسبة لإدريس البصري) وكان (قبل أن يجد نفسه في عهد الملك محمد السادس منبوذا مسجونا في سجن عكاشة بالدار البيضاء) يُقام له ويُقعد من طرف النخبة السياسية والفكرية والاقتصادية للمملكة، لا لشيء سوى لأن له الفم الأقرب، من بين كل الأفواه السلطوية، للأذن الأعظم لصاحبها ذي الفم الأقرب بدوره لأذن الملك الحسن الثاني، ونعني به وزير الدولة القوي في الداخلية إدريس البصري. الرجل –أي العفورة – حاد الذكاء ويعرف جيدا كيف يستثمر المادة الرمادية التي بين يديه. لذا عود أصحابها على لعبة الورق التي يتلهى بها عادة الأطفال والعجزة، ليؤكد للاعبين من أساتذة الجامعة “المُحترمين” أن السلطة في المغرب لعب ولهويجب أن يُتقنوه جيدا قبل أن ينعموا بعطاياها – أي السلطة – ويتمرغوا في محاسنها. وإذا ما توفرت الجرأة لإحدى الجرائد المحلية، وهذا من رابع المستحيلات حاليا، وقررت التحقيق في هذا العجب العجاب، لأطلعت قُراءها على مُعطيات خطيرة جدا، ليفهم الناس لماذا يلوذ مُثقفوهم وسياسيوهم بالصمت حيال كل عظائم الأمور التي تجري أمامهم. إذ كيف لمن كان أشبه بخرقة في أيدي خُبثاء السلطة القدامى أن يفتح فمه للخوض فيما يُدَلْهِِمُ من مصائب بالبلد، وهو يحمل فوق ظهره كل ذلك الخزي؟
الشهادة الثانية هي لأستاذ علم الإدارة المعروف، المذكور آنفا، علي سدجاري. قال لي الرجل ذات يوم، من سنة 2002 على هامش حوار صحافي أجريته معه لأسبوعية “‘الصحيفة” أيام مجدها المهني.. مُشيرا إلى الأثاث المُتواضع في مكتبه الصغير (بالرغم من أنه رئيس شعبة): “هكذا أراد البصري أن يكون حال مكتبي، لأنني رفضت الدخول في مُخططه التدجيني لأساتذة الجامعات المغربية. وحينما علم بالبرنامج العلمي الذي كنت أُشرف عليه بتمويل ألماني، سلط عليَّ زبانيته من “زملائي” في التدريس، وقد وصلت الوقاحة ببعض هؤلاء إلى حد وضع رسائل تهديد مجهولة الهوية في صندوق بريدي”.
بالفعل، كان صعبا الإفلات من الوصاية اللصيقة لإدريس البصري وزبانيته من “المثقفين”، سيما إذا علمنا أن الرجل المُتحدث – أي علي سدجاري – ليس من أي الناس. فهو واحد من ألمع أساتذة الجامعة المغربية، ألف كتبا عديدة في مجال تخصصه (علم الإدارة) ويحظى بتقدير واحترام كبيرين في الأوساط الأكاديمية الأوروبية المتخصصة.
حالة المُمانعة التي أبان عنها الأستاذ علي سدجاري تكاد تكون يتيمة.بالنسبة لأهم أساتذة الجامعات المغربية، حيث تورط أغلبهم، بشكل أو بآخر، في “التعاون” مع وزارة الداخلية وعرابها القوي إدريس البصري،على عهد الحكم الأوتوقراطي الصُّراح للملك الحسن الثاني.
أما الذين عافوا الخضوع للوزير البدوي القوي، المستأسد عليهم، بتشجيع من الحسن الثاني، شأن المُؤرخ والمُفكر المغربي الكبير المعروف عبد الله العروي، فلم يتسن له مع ذلك الإفلات من الضغط الملكي الشمولي. حيث ثمة واقعة دالة يعرفها خاصَّةُ البلاط السياسي للحسن الثاني، وتتمثل في بعض التنطع النظري، الذي كان قد أبان عنه المُفكر الكبير، في التعاطي مع مُعطاة المَلكية، في مُحاضرة ألقاها في العاصمة الفرنسية باريس أواخر سنوات السبعينيات من القرن الماضي. فكان أن أمر الحسن الثاني غاضبا بنزع جواز سفره الشخصي منه، ووضعه تحت المُراقبة من طرف جهاز المخابرات. وفُتَّ في روع المُفكر الكبير، ليؤوب بعد ذلك إلى” رُشده”. وبعض التفاصيل المُؤسفة للواقعة التالية تُغني عن أي شرح لمآل الحال: في إحدى سنوات عقد الثمانينيات من القرن الماضي، سافر عبد الله العروي إلى الجماهيرية الليبية “العظمى” مبعوثا من الملك الحسن الثاني إلى الرئيس معمر القدافي. وفي بهو فندق فخم بالعاصمة طرابلس، ربض المفكر الكبير كأي مرسول عادي، أزيد من ثمانية عشرة ساعة، في انتظار أن يتكرم عليه بلقاء تافه، واحد من أكثر الرؤساء والملوك العرب ديكتاتورية، ليُبلغه رسالة من ملك المغرب الحسن الثاني.
وأخيرا فقط، انفك لسان العروي شيئا ما من عُقاله، ليقول قبل بضعة أشهر في حوار صحفي هذه العبارة البليغة المُتأخرة عن أوانها: “ليس المهم هو أن نتساءل عما فعله الحسن الثاني، بل ماذا فعلنا نحن لنمنعه من فعل ما فعله”.. وفي هذه العبارة تموت النفس حسرات على الزمن المغربي الذي ضاع وتشرذم بين مخالب الحُكم الفردي والخدود المصفوعة لمثقفيه وسياسييه وصحافييه وهلم جرجرة.
كانت “النظرية” المُعتمدة من طرف الحسن الثاني ووزيره القوي في الداخلية إدريس البصري، بسيطة جدا بالقدر نفسه الذي تنطوي عليه من التعقيد. وتتلخص في توريط كل أفراد النخبة السياسية والفكرية والإعلامية والنقابية والثقافية.. في أفعال مُشينة بوضعهم الاعتباري، وذلك لتجريدهم من أي إحساس بالكرامة الشخصية أو الإعتداد بالنفس. وبعد ذلك سَهُل ” ضبطهم” تمهيدا ليفعلوا بالناس مثلما فُعل بهم. وكذلك كان، حيث يتوفر الآن مجتمع مفعول به سياسيا واقتصاديا واجتماعيا و..الأخطر من ذلك مفعول به نفسيا، إذ يشعر أفراده، علا شأنهم أم ضأُل في مراتب السلطة والثروة، في قرارات أنفسهم، أنهم جزء من الرداءة المُعممة، حيث من النادر جدا..جدا، أن تجد مَن بينهم، مثلا، مُن لم يتورط يوما في عملية ارتشاء، من زاوية استخلاصها أو منحها. وبالتالي فإن “المُتورط” يظل لديه شعور دفين، وإن كان مرفوضا، بأنه مُشارك في تردي الحياة العامة، فيتحول لا شعوريا إلى مُدافع عن النظام القائم.. نظام الامتيازات مهما صغر شأنها، ما دام هو يستطيع بلوغها عن طريق لا مشروع، سواء بالدوس على القانون عبر استغلال لنفوذ أو عملية إرشاء..إلخ.
تفاصيل أخرى من هذا العجب العجاب، الذي يُسمى الحياة المغربية، سنأتي على بعضه، وهو نزر قليل في الواقع، في كتابات قادمة.
mustapha-rohane@hotmail.fr
* الرباط
نُشِر في “الشفاف” في Apr 29, 2007.