إذا أردت الاحاطة بكل المعطيات الحقيقية للمأساة السورية من خلفية وأسباب عليك أن تقرأ كتاب «إدمان السياسة، سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية» للمفكر والكاتب الفلسطيني السوري جورج كتن. والحقيقة إن هذا الكتاب يحكي قصة مأساة الجيل الذي بدأ وعيه السياسي في أواسط الخمسينيات من القرن الماضي، وخاصة في سورية وفلسطين والعراق والاردن ولبنان. الكتاب أكثر من سيرة ذاتية، فهو من جهة نموذج حي للمعاناة التي مرّ بها هذا الجيل، ومن جهة أخرى يقدّم صورة واضحة عن مرحلة مهمة من التاريخ العربي الحديث، وما تمخض عنها من أحداث هامة وصراعات مصيرية مرّ بها العالم العربي خلال الستين سنة الماضية، لا سيما في شرقنا العربي.
لقد عرفت سورية في أواسط الخمسينيات عهداً ديمقراطياً نمت فيه الأحزاب والحركات القومية واليسارية. وتصاعد فيه التيار الشعبي الجماهيري، إلى حد أن الجبهة الوطنية التقدمية والتي كانت مؤلفة من أحزاب البعث العربي الاشتراكي والشيوعي السوري والحزب الوطني وعدد من الحركات الأخرى الصغيرة والزعماء المستقلين، فازت في معظم المدن والمناطق التي جرت فيها الانتخابات النيابية الفرعية عام 1957. وليس هذا فحسب بل إن مرشح الجبهة فاز في العاصمة دمشق نفسها على مرشح الاخوان المسلمين. ولقد ترافق ذلك مع صعود التيار الناصري بعد العدوان الثلاثي في عام 1956. الذي تُوجّ بقيام الوحدة بين مصر وسورية. في هذا العهد بالذات نما وعي المؤلف السياسي.
لقد عرفتُ المؤلف معرفة سطحية في ذلك العهد إذ كانت تربطني به قرابة بعيدة جداً. كنت أسمع عنه لكن لم تسمح لي الظروف أن أتحدث معه بشكل شخصي. ولقد كانت لي تجربة فكرية مماثلة لتجربته، مع العلم أن تجربتي كانت متواضعة جداً بالنسبة له. وانتقلت مثله من القومية للماركسية للديمقراطية، ولا أبالغ إذا قلت إن كثيرين من جيلنا مرّوا بنفس هذه المراحل. لذا تصبح قراءة الكتاب أمراً ملحاً لكل من يهتم بالشأن السياسي العام.
يسرد المؤلف في الكتاب سيرة حياته في النضال السياسي، وما رافقها من سجن لثلاث مرات، كانت آخر مرة نتيجة لاتهامات باطلة من الأمن السياسي والمخابرات في سورية. وقد وصل في فترة ما ليكون مسؤولاً عن تنظيم حركة القوميين العرب في سورية. وانخرط في المقاومة الفلسطينية مع الجبهة الديمقراطية في الأردن ولبنان. والملفت للانتباه أن المؤلف درس في مصر كمهندس زراعي، وأقام لمدة وجيزة في لبنان، وعمل لعدة سنوات في العراق، مع العلم أنه عاش معظم حياته في سورية كلاجئ فلسطيني أتى إليها مع عائلته وهو في عمر ثماني سنوات فقط. أي أنه عاش في معظم البلدان العربية التي كان لها دور كبير في التاريخ العربي الحديث.
لكن المؤلف لا يقتصر في الكتاب على سرد مسيرة حياته النضالية، لكنه تحدّث بالتفصيل عن بعض الأحداث والتطورات العربية والعالمية التي كان لها أثر مهم في عالمنا المعاصر. وخصص فصولاً عن الدراسات التي نقد بها معظم الظواهر السلبية. فتحدث عن وراثة الجمهورية في سورية وانطلاق ربيع دمشق. والمسألة المسيحية المشرقية، والمسألة القبطية، لا بل تعرّض لموضوع الأقليات في العالم العربي كالأمازيغ والأكراد. وعالج موضوع الزلزال العراقي تحت عنوان: سقوط أوهام مناطحة الامبريالية. وتطرّق إلى الشأن الفلسطيني، ونوّه بالسؤال الذي طرحه الحكيم جورج حبش: لماذا هُزمنا؟ وانتقد في مقال له حديثاً شاملاً لنايف حواتمة مؤسس الجبهة الديمقراطية.
ولعلّ أبلغ ما يعبّر عن حقيقة المعاناة التي مرّ بها هذا الجيل قول الكاتب: «عشنا النكبة منذ كنا أطفالاً، وخرجنا من أمان واستقرار البيت والحي إلى الشتات والحرمان، تفرقنا في المدن والبلدان، حلمنا بالوحدة العربية طريقاً للعودة إلى الديار، هُزمنا مع كارثة حزيران، وحملنا السلاح مع المقاومة الفلسطينية، تحمّسنا للانتفاضة وأُحبطنا مع اتفاق أوسلو، لكننا لم نيأس بعد، لم نحقق انتصارات ولكننا نضجنا خلال السنين الخمسين المنصرمة، تركنا إرثاً من التجارب، ربما لن نعيش لنعرف ماذا ستفعل الأجيال القادمة، لكنها قد تحصد ما زرعناه وتبني عليه نهجاً في الخمسين سنة المقبلة، من أجل حياة أفضل وهوية وسيادة على الأرض بلا صهيونية».
وخصص المؤلف فصلاً نقد فيه المعارضة السورية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ونقد التحالف القومي العربي الاسلاموي، والتيار القومي العربي، والاخوان المسلمين في سورية. وقام بنقد أحزاب وحركات ماركسية جديدة في سورية. وفي فصل خاص نقد تيار الإسلام السياسي، وتساءل هل الإسلام هو الحل؟ وتحدّث عن فشل التيار الوسطي الإصلاحي الإيراني. وخصص فصلاً للحديث عن العولمة الزاحفة، وتكتيك السياسة الخارجية الأميركية، وغزوة نيويورك، والارهاب العالمي، ونموذج الارهاب الطالباني في الصومال. وتحدّث عمّا سمّاه بعدالة العولمة، وظاهرة باراك أوباما.
وخصص المؤلف فصلاً للحديث عن الربيع العربي والثورة السورية، وما سمّاه بالإصلاح السوري السلحفاتي قبل بدء الثورة في عام 2011. وتحدّث عن الليبرالية السورية، وربيع دمشق، ومنتدى جمال الأتاسي الافتراضي. وأنقل عنه قوله عن الدولة السورية: «هي الآن دولة ورعايا وسلطة قائمة بالقوة العسكرية دون تفويض من الناس، تطلب منهم الامتثال لما تقرره لهم في شؤونهم وحياتهم.. القمع والخوف هو الجامع الآن.. الكيان موجود وما يحتاجه دستور ديمقراطي علماني يحترم حقوق الإنسان.. ولا يمكن لأية فكرة فلسفية أن تكون بديلاً لهذا الواقع الذي ثبت أنه الوحيد الذي يجمع المواطنين في دولة».
لعلّ النتيجة التي وصل إليها المؤلف هي أولوية الديمقراطية وأهميتها في العالم العربي. فكتب عن ضرورة الحداثة قائلاً: «الحداثة المطلوبة في منطقتنا تبدأ من الحداثة الاجتماعية والسياسية والدينية. والحداثة السياسية: ديمقراطية وحقوق إنسان ومواطنة متساوية وحقوق أقليات ودولة قانون وضعي ومجتمع مدني وتداول للسلطة وقضاء حيادي وحق الاختلاف ونبذ العنف واعتماد الحوار لحل الخلافات، والاحتكام لمنهج عقلاني واقعي يبدأ بالتساؤل والشك…». وهنا أوافق المؤلف على ما وصل إليه وأضيف أن الاستبداد والارهاب هما وجهان لعملة واحدة، ولا نستطيع قبول أياً منهما. فالاستبداد يفرّخ الإرهاب والجهل والظلام والتعصب الأعمى. وهو ما رأيناه واضحاً في مجتمعاتنا العربية.
أجل، إنها حقاً مأساة هذا الجيل، الذي ناضل ولم يحصد إلا الخيبة والفشل والمرارة. والأدهى من ذلك أن الأوضاع عادت إلى الوراء مع تنامي التيار الاسلامي المتطرف، وانتشار موجة الإرهاب الإسلامي في معظم الأقطار العربية الرئيسة لا سيّما في سورية والعراق وليبيا واليمن ومصر. ولا يوجد إلا الحل الديمقراطي العلماني السليم الذي ينقذ بلادنا العربية مما هوت فيه.
قد لا نتفق مع المؤلف في كل الاستنتاجات التي توصل إليها، لكنه كتاب جدير بالقراءة والدراسة وأخذ العبر.
* للحصول على الكتاب يمكن الاتصال بمؤلفه على الايميل:
ahmarw6@gmail.com