بعد تحليل وتفنيد شعارات الإسلام السياسي، وأولهما أن “الإسلام دولة ودين”؛ كان ولابد أن يتأدى السياق إلى أمرين هما:
الدين والدولة،
ثم الدين والسياسة.
أ.. ففي مصر القديمة، استطالت مدة العقيدة فيها ثمانية ألف عام (من 1050ق.م حتى 200م) لم يظهر فيها لفظ “الدين” أبداً. كان المفهوم الإعتقادي لديهم أسلوب حياة ونظام تفكير وقواعد تعامل، تترشح جميعاً عن مبدأ الضمير، الذي يُرمز إليه بـ”ماعت” وتعنى الحق والعدل والإستقامة والنظام. ويرتبط فيها الضمير الفردي بالضمير الكوني، فيضبطه ويختلط بمعانيه، فيكون الإنسان – كل إنسان – كون مصغّر، وكون منتشر، وكون حي. وهذا المعنى هو الذي ساد في التاريخ حتى عبّر عنه الشاعر أبو العلاء المعرّى فقال:
وتحسب أنك جَرم صغير.. وفيك انطوى العالم الأكبر
وفى اليهودية، لا يوجد لفظ “دين” وإنما يوجد لفظ “شريعة”. والشريعة في اليهودية هي رسم تفصيلي ودقيق لمراسم الصلاة وشعائر الحياة ووسائل التطهير. فالشريعة في اليهودية هي في واقع الحال أسلوب حياة حتى لغير المؤمنين منهم.
وفى المسيحية، فإن المسيحيين لا يشيرون إليها كدين، وإنما يرون ويؤمنون بأنها أسلوب حياة يتضمن كل المناشط البشرية.
ب.. من ضمن أنشطة الحياة البشرية في العصر الحالي، أن يساهم كل فرد في مباشرة الحقوق والواجبات العامة ومنها السياسة؛ حتى يكون النظام السياسي والإقتصادى والإداري نابعاً من الشعب وصادراً عنه (ولو صورياً!! إن كان ثمة تزوير مادي أو تزييف معنوي لإرادة الناس).
ولفظ السياسة كان وارداً في اللغة العربية، قبل الإسلام وبعده. وفى ذلك يقول ثعلب:
سادة قادة لكل جميع.. ساسة الرجال يوم القتال
ويقول الحطيئة (المتوقي سنة 650م)
لقد سوّست أمر بنيك حتى.. تركتهم أدق من الطحين
ورُوى عن النبي أنه قال (كان بنو إسرائيل يسوسهم أنبيائهم) أي يتولى الأنبياء أمورهم.
ومن معاجم اللغة العربية يُستفاد أن لفظ السياسة تصريف من السوّس، وهو الرياسة، فإذا رأّس الناس شخصاً، قيل أنهم سوّسوه أو ساسوه (لسان العرب مادة: سوس).
ومع وجود لفظ السياسة في عصر التنزيل، فإن القرآن لم يستعمله أبداً، وإنما أشار إلى الشئون العامة للجماعة بلفظ الأمر، مثل (فاعفِ عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر) سورة آل عمران آية 159 (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) سورة النساء آية 9.
وإغفال القرآن لفظ السياسة واستعمال لفظ الأمر، لا يمكن أن يكون قد حدث عفوا أو دون قصد. غير أن سبب ذلك لا يظهر من معاجم اللغة التي لم تُصنف إلا بعد قرون من عصر التدوين الذي بدأ في أوائل القرن الثالث الهجري، ولأن هذه المعاجم – في بيان معنى اللفظ – تركن إلى التطور التاريخي الذي صار عليه (اللفظ) وقت وضع المعجم ولا تتحرى معنى اللفظ في عصر التنزيل؛ ولأن معاجم اللغة العربية عموماً لا تتبع الأصول الجذرية والتطورية لكل من الألفاظ لتستبين حقيق معناها ودقيق مفهومها.
مع ذلك، فلابد من أن إعراض القرآن عن استعمال لفظ السياسة كان بسبب أن شريعة الإسلام ليست سياسة وليست السياسة منها، لكنها أمر من أمر الله؛ أو لأن لفظ السياسة يفيد في الأصل معنى الرياسة، وليست النبوة رياسة بحال؛ أو لأن اللفظ كان يعنى ما تعنيه السياسة دائماً من مخالفة الأخلاق ومجانبة المبادئ متى كان الغرض أو الهدف يقتضى ذلك.
وعندما شاعت وجهة نظرنا عن شعار “الإسلام دولة ودين” سُقط في يد الإسلاميين، فلجئوا إلى شعار آخر يدّعي أن “السياسة جزء من الدين والدين جزء من السياسة”؛ وهذه خطيئة عظمى في حق الإسلام وسقطة من قوّالها تدل على أنهم سياسيون أو بمعنى أدق أيديولوجيون شموليون؛ ذلك بأن الإسلام – على ما سلف البيان – هو الأصل بحسبانه الدين الذي يرسم أسلوب الحياة الإسلامية الصحيحة؛ وعن الأصل تتفرع الأنشطة ومنها النشاط السياسي والثقافي والإجتماعى وما إلى ذلك. وكل نشاط من هذه الأنشطة جزء أو قسم أو اتجاه من الدين، فكيف يكون الأصل – وهو الإسلام – جزءا من جزء فيه أو قسماً من قسم منه، ومن ثم يقال إن السياسة جزء من الإسلام والإسلام جزء من الدين!؟ هل يمكن أن يكون الكلُّ جزءًا من جزء فيه أو قسما من قسم منه؟ إنها مغالطة ومخالطة وقعت ممن قالها أو انتهجها، دون تحليل أوتعليل صحيح، وبغير فهم دقيق واضح، وهى تسفر عن حقيقة الإسلام السياسي، وأنه سياسة في الأصل وحزبية في الأساس تتلبس بالدين رياءًا وتتلحف بالشريعة رداءً.
في هذا الموضوع نشرنا كتابنا “الإسلام السياسي” سنة 1987، ومن الصعب تلخيص ما فيه من آراء وأفكار، لذا نجتزئ منه فقرات تشير إلى القصد منه وتبين موضوعه والأساس فيه.
• أراد الله للإسلام أن يكون ديناً، وأراد به الناس أن يكون سياسة، والدين عام إنساني شاملي، أما السياسة فهي قاصرة محدودة، قبلية محلية ومؤقتة. وقَصْر الدين على السياسة قصر له على نطاق ضيق وإقليم خاص وجماعة معينة ووقت بذاته.
الدين يستشرف في الإنسان أرقى ما فيه وأسمى ما يمكن أن يصل إليه؛ والسياسة تستثبر فيه أحطّ ما يمكن أن ينزل إليه وأدنى ما يمكن أن يهبط فيه. وممارسة السياسة بإسم الدين أو مباشرة الدين بأسلوب السياسة يحوله إلى حروب لا تنتهي وتحزّبات لا تتوقف وصراعات لا تخمد وأتون لا يهمد، فضلاً عن أنها تحصر الغايات في المناصب وتخلط الأهداف بالمغانم وتفسد الضمائر بالعُروض.
• إن حصر الخلاف السياسي في مجال السياسة وإعطاءه إسمه الحقيقى وصفته الطبيعية يجعل الأمور تجرى في نطاق الصواب والخطأ. فعمل الحاكم أو قوله إما أن يكون صواباً وإما أن يكون خطأ. وكذلك الحال في عمل المعارض أو قوله. لكن صبغ السياسة بالدين، وتلوين التحزب بالشريعة، ينقل المسائل إلى منطقة حساسة جداً وخطرة للغاية، هي مجال الحلّ والحُرمة؛ فكل عمل أو قول للحاكم – مهما يكن – حلال وشرعي، وله من القرآن سند ومن الشريعة أساس، وكل عمل أو قول للخصم – مهما يكن – حرام وغير شرعي، وله من القرآن نقض ومن الشريعة ردّ.
• كان من نتيجة اختزال الإسلام في السياسة واختصار الشريعة في التحزب أن أصبح التاريخ الإسلامي تاريخاً للصراع بين القبائل والقبائل، بين الطوائف والطوائف (في الأندلس)، بين الفرق والفرق، بين جنس “عرب” وجنس “فارسي”. وقد اتخذ هذا الصراع شكل الدين ووصف الشريعة؛ فاضطرب كل من الفهم الديني والعمل السياسي، واضطرم كل خلاف وأية خصومة، ما دامت تكتسب من الدين قوة عاطفية وتكتسب من الشريعة فورة عارمة.
• المظالم السياسية الشنيعة – التي بُررت بالدين وسُوغت بالشريعة وسُوندت بالفتاوى – هذه المظالم أثرت على أخلاقيات المسلمين فجعلتهم ينسحبون من الحياة العامة إلى شئونهم الخاصة وحدها، وأفقدتهم كل اهتمام بالعمل العام والتضحية من أجل المجموع والتضامن مع الآخرين وإبتدار أي أمر، فإنطوى كلُّ على مصالحه الخاصة، وانحصر في أسرته ومن حولها، وتخلخل في توافه المسائل، وتحلل من سفاسف الحياة، في طباع جافة من الأنانية والخوف والجبن والفساد والوشاية والتملق والإنتهازية، وافتقد أية رؤية تكاملية للحاضر وأية رؤية للمستقبل. هذا فضلاً عن الفصام الذي حدث في الشخصية الإسلامية، فصار قولها غير فعلها، وظاهرها غير باطنها، وما تقوله في السر غير ما تذيعه في العلن.
• (وبمقتضى الإسلام السياسي) يحدث خلط شديد – سواء عن عمد أم عن جهل – وبين حاجة أي مجتمع إلى حكومة، وما يسمى بالحكومة الإسلامية، فلا شك أنه من بدائه الأمور أن أي مجتمع يحتاج إلى حكومة، بل إن أية جماعة – ولو كانت من ثلاثة أفراد – في حاجة إلى رئيس أو أمير أو قائد. وقد أفاض الفلاسفة والمفكرون (وخاصة في فرنسا قبل الثورة، وفى بريطانيا من قبل ذلك) في بيان الأسس الفلسفية والإجتماعية لذلك، كما دلل علماء علم الأحياء (البيولوجي) على ضرورة وجود القيادي حتى فيما بين الحيوان والطيور. لكن مناط البحث ليس في ضرورة وجود حكومة – وهو أمر ضروري – بل في شكل وطبيعة هذه الحكومة، هل هي حكومة تتركز في جزء له سلطة مطلقة أم تقوم على نظام دقيق ومؤسسات محدودة لا يكون الحاكم فيها إلا جزءاً من نظام الحكم؛ جزءاً هاماً ومؤثراً لكنه على القطع ليس كل النظام وليس بديلاً عنه أبداً.
• من وصايا النبي (صلعم) إلى بُريْدة: إذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزل على حكم الله، فلا تُنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدرى أتصيب حكم الله فيهم أم لا؟
• عن على ابن أبى طالب أنه كان يقول لأتباعه ومناصريه ألا يجادلوا أعداءه بالقرآن، لأن “القرآن حمّال أوجه” أي يمكن تفسير آياته على أكثر من وجه. وكان يقول في ذلك “إن القرآن لا ينطق بلسان” أي إن الذي يفسر القرآن هو الذي يستنطقه بما يريد.
القاضي يفصل في دعاوى وأنزعة الزواج والطلاق والوصية والميراث وفقاً لأحكام الشريعة التي قننها المشرع المصري عام 1928 وما تلاه، لكن حكمه لا يعد حكم الله الذي لا يُجادل فيه أو يناقشه أحد، لكنه يُعد حكم بشر يُطعن عليه بالإستئناف أو النقض. وهذا هو الفصل بين الأسلوب العلمي الدقيق في فهم الأمور على وضعها الصحيح وبين الغوغائية التي تعتبر أن أي رأى تريده وتؤيده هو حكم الله، ما دام يستند إلى تفسير أو بغير أن يرتكن إلى تعليل، في استعمال آية قرآنية أو حديث آحاد، ربما كان مرجوحا أو منحولا.
saidalashmawy@hotmai
القاهرة