انتهت المقالة السابقة إلى أن المرشد العام الأول لجماعة الإخوان المسلمين نشر فى يناير 1949 (بعد مقتل النقراشى وقبل مصرعه هو) رسالة بعنوان (ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين) شجب فيها القتل والعنف وقال إن ذلك عمل خارج على الإسلام وإن فاعله ليس من الإخوان وليس من المسلمين.
(ح) عرض النائب العام هذه الرسالة على قاتل النقراشي فلما قرأها أدرك أنه غُرر به، فأُحلّ له الحرام، ودُفع إلى الإغتيال بزعم أن ذلك من الإسلام، ومن ثم فقد اعترف اعترافا تفصيلياً وكاملاً، طال كل من حرّضه، ومن سهّل له الأعمال المؤدية إلى القتل، ومن سوّغ له ذلك شرعاً، وهو من صار يقال عنه إنه “مفتي الدم”.
انتهت التحقيقات بتقديم هؤلاء جميعاً إلى محكمة الجنايات.
(ط) اتجه شخص يحمل حقيبة إلى محكمة مصر (بباب الخلق) وادعى السؤال عن شخص، ولما حاول مغادرة المكان وهو يترك الحقيبة، استراب فيه الموظفون، وإذ قُبض عليه وفُتحت الحقيبة تبين أنها مملوءة بالمفرقعات التى كان من المقرر أن تنفجر بعد ترك حاملها لها، فتنسف محكمة مصر، بما يؤدى إلى تلف وضياع ملف القضية الذى كان يتضمن إعترافات قاتل النقراشى، وأدلة إتهام من شهد الجانى بأنهم حرضوه وساعدوه وأفتوا له بالقتل.
(ي) بطريق المصادفة ضُبطت سيارة جيبْ بجوارها مصطفى مشهور – الذى صار مرشداً للإخزان فيما بعد – وتبين أن السيارة ملئت بالمتفجرات والأسلحة والذخائر لاستعمالها فى أعمال تخريبية.
ونتيجة لتوالى ضبط أدوات هُيئت أو يمكن أن تهيأ للقتل الجماعى، فضلاً عن اغتيال رئيس الوزراء – ومحاولة إغتيال رئيس الوزراء الذى تلاه فى الحكم – والرسالة التى أصدرها المرشد العام الأول بأن من ينحدر إلى العنف والإرهاب (ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين)، فقد شاع فى المجتمع كله أن جماعة الإخوان تهدف إلى العنف وترمي إلى الإغتيال، وأن ما صدر عن المرشد الأول كان إيهاماً (التقية عند الشيعة) حتى يفلت هو من الإغتيال الذى استشعره، والذى حدث فعلاً.
(ك) أُجريت إنتخابات عامة وصل بها الوفد إلى الحكم، فأُفرج عن جميع المعتقلين من الإخوان المسلمين، وسَنّ قانوناً عن الجمعيات الأهلية، حتى يعطي شرعية لجماعة الإخوان المسلمين إن هى سجّلت نفسها، والتزمت أحكام القانون، ورقابة المجتمع.
(ل) في 23 يوليو 1952 وقع انقلاب عسكري، آلت القيادة الحقيقية فيه إلى البكباشى جمال عبد الناصر. وقد كان من الجهاز السري للإخوان كما كان عضواً فى جماعة “حدتو” الشيوعية. ولنزاعٍ على السلطة، لجأ عبد الناصر إلى العنف رداً على العنف. فاعتبر جماعة الإخوان حزباً سياسياً بعد أن كان قد صرح بعكس ذلك من قبل، وقبض على المرشد العام الثاني وعلى كل الأعضاء المهمين فى جماعة الإخوان المسلمين – وبمحاكمة عسكرية، كان قوامها ثلاثة ضباط من ضباط حركة الجيش التى كان يرأسها بالفعل ويدير أمورها جمال عبد الناصر، حُكم على ستة بالإعدام، وأعفي من الإعدام المرشد العام، لكنه وُضع فى السجن مع أخرين، ونُفذ حكم الإعدام فى الآخرين.
(م) ظل الإضطهاد العسكرى للإخوان المسلمين طوال عهد عبد الناصر. ولما وُلي الرياسة أنور السادات صادف معارضة شديدة من الماركسيين (اليساريين) لأنه مال إلى الولايات المتحدة، فلجأ إلى الإخوان المسلمين وأباح لهم العمل، واستعان بهم للقضاء بالعنف على الماركسيين. وتفرّعت عن جماعة الإخوان، “الجماعة الإسلامية”، و”جماعة الجهاد”، وغيرها. ونشر أيمن الظواهري، العضو البارز فى “جماعة الجهاد” كتاباً عنوانه (الحصار المر) يطعن على الإخوان ويبين أخطاءهم وسوءاتهم.
بهذا، لم تعد جماعة الإخوان المسلمين تستطيع أن تدعي أنها جماعة المسلمين،كما أنها عهدت إلى إخفاء كتاب (الحصار المر) بكل الطرق الممكنة، حتى تتحاشى الحقائق الذى ذُكرت فيه، والتى كان من شأنها أن تسيء إليها أدبياً وربما تكون مطعناً غائراً على صدقيتها وصحة أفعالها وسلامة أهدافها.
(ن) لمداهنة جماعة الإخوان المسلمين، فقد نُص فى دستور 1971 أن مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للقوانين، بغير أن يُوضح الدستور المقصود بعبارة (مبادئ الشريعة مصدراً رئيساً للقوانين) خاصة وأن الدستور – خلافاً للعادة – لم يضع مذكرة إيضاحية ولم ينشر أعمالاً تفسيرية له. وتلقف الإخوان المسلمون هذا الغموض وصاروا يطلبون ويطالبون بأن تكون الشريعة الإسلامية مصدراً لكل القوانين. وأدى ذلك إلى تأكيد اتهامهم للمجتمع بالكفر لأنه لا يحكم بما أنزل الله.
(س) فى عام 1978 طلب منى وزير العدل المصرى أن أحقق رغبة لوزراء العدل العرب الذين اجتمعوا فى مصر (أثناء أن كنت فى الخارج)، وإجتمعت إرادتهم على ضرورة تجديد الفكر والفقه الإسلامي، بوضع كتاب عن “مساقي الشريعة”. وقال لى الوزير إن وزراء العدل العرب توسّموا فى القضاة المصريين قدرة وعلماً على وضع هذا الكتاب وأنه (أي وزير العدل المصري) لا يجد بين رجال القضاء المصرى من هو أجدر مني للقيام بالمهمة، وهي مهمة سوف تمتد إلى البلاد العربية كلها؛ وتؤدي إلى تجديد الفكر الدينى.
(ع) فى يوليو 1978 وبعد عمل شاق ودؤوب، قدمت صورة للكتاب إلى وزير العدل المصري. وإذ لم ينعقد إجتماع وزراء العدل العرب، الذى كان مقرراً له أن يجتمع فى سبتمبر من ذلك العام، بسبب معاهدة السلام التى عقدتها مصر مع إسرائيل، فقد ظل الكتاب فى حيازة وزير العدل، حتى فبراير من العام التالى 1979 إذ أخذته منه ونشرته فى يونيو 1979.
وبناء على ترتيب معين فقد بدأتُ نشر أفكار الكتاب في جريدة “الأخبار” المصرية إعتباراً من شهر يوليو 1979.
وكان المقال الأول عن معنى الشريعة، وفيه بينت أن الشريعة تعني المورد أو المدخل، وهي تتضمن ما نزل من الله، لكن الفقه هو ما صدر عن الناس من شروح أو تعليقات أو تطبيقات للشرع أو الشريعة. وأنه قد حدث خلط بين الشريعة والفقه فصار يقال عن الجميع أنه شريعة، وبذلك لم يعد ثمت فصل بين ما نزل من الله (وهو الشريعة) وما صدر عن الناس (وهو الفقه).
وكان المقال الثانى عن تطبيق الشريعة، وفيه بينت أن آيات القرآن – التي تتضمن فيما تتضمن أحكام الشريعة – نزلت على الأسباب، إذ كان يقع حادث أوتنشأ مسألة أو يجد جديد، فيلجأ المؤمنون إلى النبي (ص) يسألونه أو يستفتونه الحكم، فينزل على السؤال أو الإستفتاء جواب. وهذا النهج هو الوضع السليم لفهم آيات القرآن.
وذكرت مثلاً عن ذلك، تلك الآية التى يرددها الإخوان المسلمون على الدوام تدليلاً على أن المجتمع لا يحكم بما أنزل الله ومن ثم فهو كافر، ومن يسكت على الكفر يكون كافراً. وبينت أن أسبابَ نزول الآية توجد فى القرآن نفسه، ذلك أن اليهود كانوا قد ذهبوا إلى النبى بيهوديين ارتكبا جريمة الزنا، وحكموه بشأنها (أي لم يطلبوا منه الحكم بوصفه حاكماً وإنما طلبوا منه الحكم بصفته مُحَكّما منهم فى قضية بذاتها). ولما سألهم النبى عن حكم التوراة فى واقعة الزِنا كذبوا عليه وقالوا إنها التجريس، لكن عبد الله ابن سلام اليهودي الذى كان قد أسلم حديثاً، قال يا رسول الله أن العقوبة فى التوراة هى الرجم، فأمر بهما النبي فرُجما حتى الموت.
فتمام الآية (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله.. ومن لا يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون).
(للبحث بقية)
saidalashmawy@hotmail.com
* القاهرة