“الأزهر” تذكير للفظ الزهراء، كّنية فاطمة الزهراء ابنة النبى (صلعم). والكنية – فى الغالب – نسبة إلى كوكب الزهرة، رمز المحبة لدى البشر.
وقد بنى “الأزهر” جوهر الصقلي (363هـ – 972م) لنشر الفكر الشيعي (الإسماعيلي) الذى كانت تعتنقه الخلافة الفاطمية، التى غزت مصر من أفريقية (تونس حالياً) بجيوش تحت إمرة قائدها جوهر الصقلي.
ولمّا سقطت الخلافة الفاطمية ونشأت بدلاً منها السلطنة الأيوبية السنية (555هـ – 1160م) تحول “الأزهر” إلى أهم مركز سنّي فى العالم، حتى وإن إتسع نشاطه لدراسة المذهب الجعفري الشيعي، نسبة إلى الإمام جعفر الصادق أهم أئمة الشيعة الإثني عشر.
وقد كان “الأزهر” سلفي الإتجاه تقليديَّ النزعة، يأتم بتقديرات أبي الحسن الأشعرى (873 – 941) وأهم أتباعه أبوحامد محمد الغزّالي (1059 – 1111م).
والأشعرى كان فى الأصل معتزلياً، من فرقة المعتزلة (التى كانت تُعمل العقل)، تتلمذ على الجبّاني المعتزلي، غير أنه اختلف مع رفاقه من المعتزلة – لأسباب غير معروفة – وانقلب عليهم انقلاباً كاملاً، دعاه إلى يجعل من النقل سبيله، معارضةً فى ذلك للمعتزلة الذين كانوا يتخذون من العقل طريقاً.
وقد أجمل الأشعري عقيدته فى أن “قولنا الذى نقول به، وديانتنا التى ندين بها، هي التمسك بكتاب الله وسنّة نبيه (صلعم) وما رُوي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث. ونحن بذلك معتصمون، وبما كان عليه أحمد ابن حنبل قائلون، ولمن خالف قوله مُجانبون. وأضاف “أن الله قادر على كل شئ وخالق كل شئ، وليس للطبيعة عنده فعل ما، بخلاف الإنسان الذى يستطيع أن يفعل أفعالاً يخلقها فيه الله، فينسبها الإنسان إلى نفسه ويزعم أنها من كسبه”. ثم فرّق الأشعري بين كلام الله القائم بذاته وهو قديم، وبين الكتاب الذى هو القرآن، الذى أُنزل فى زمن معين (وهو نفس الفارق الذى يضعه الإعتقاد المسيحى بين لاهوت المسيح وناسوته).
وأكد الأشعرى على أن الوحي هو الأصل الوحيد لمعرفة الله، فى حين أن العقل (اداة) للإدراك فقط، لكن العقل يستطيع إدراك وجود الله.
وقد انتهى الأشاعرة – أتباعه – إلى أن العقل لا يوجب شيئاً من المعارف، ولا يقتضى تحسيناً ولا تقبيحاً (أي لا يعرف الحسن من القبيح) وأن الواجبات كلها – تفرض بالسمع ولا وصول لها بالعقل.
ومن الأشاعرة ظهر أبو حامد الغزّالى (1059 – 1111م)، وخلاصة مذهبه – فيما يتعلق بالموضوع – أنه يرى أن الله سبب لوجود العالم، وأنه خلقه بإرادته وقدرته، وأنه إلا علّية واحدة هى علية وجود المُريد، أى الله. أما علية الطبيعة أو ما تلحظه المشاهدة من وجود علّة بين شيئين، كإضرام النار واشتعالها فى الأشياء من ثم، أو إحداث إصابة تعقبها وفاة، أو رش ماء يتبعه بلل، فذلك كله أمر منكور ومردود إلى علاقة زمانية بين الشيئين، أي حدوث أمر تتابع بينهما، فليست النار هى التى أشعلت الأشياء، ولا الإصابة أحدثت الموت، ولا الماء أنشأ البلل. إنما ذلك كله تهيؤ فى ذهن الناس لحدوث هذه بعد ذلك، والفاعل فى الحقيقة، والسبب هو الله سبحانه، لا هذا الشئ أو ذاك. وبعد هذا الموضوع، فإن الغزّالى قال “إن انفراد الله سبحانه باختراع حركات العباد لا يخرجها عن كونها مقدورة للعباد على سبيل الإكتساب، بل الله تعالى خلق القدرة والمقدور جميعاً، وخلق الإختيار والمختار جميعاً. فأما القدرة فوصف العبد وخلق الرب سبحانه وليست بكسب له. وأما الحركة فخلق الرب تعالى ووصف العبد وكسب له. وكيف يكون خلق للعبد وهو لا يحيط علماً بتفاصيل أجزاء الحركات المكتسبة وإعدادها. فعل العبد وإن كان كسباً له فلا يخرج عن كونه مرادا لله سبحانه، فلا يجري فى الملك والملكوت طرفة عين ولا لفتة خاطر ولا فلتة ناظر إلا بقضاء الله وقدره وبإرادته ومشيئته. ومنه الشر والخير، والإسلام والكفر. لا رد لقضائه ولا معقب لحكمه. يُضلّ من يشاء ويُهدي من يشاء. ويدل على (ذلك) من جهة العقل أن المعاصي والجرائم إن كان الله يكرهها ولا يريدها إنما هى جارية رفق إرادة العدو إبليس لعنة الله، مع أنه عدو لله سبحانه، فالجاري على وفق إرادة العدو أكثر من الجاري على وفق إرداته تعالى. (إحياء علوم الدين – طبعة دار الشعب صفحة 193، 194).
ثم أضاف الغزّالى فى السبب الذى يقضى الله به بالعذاب على شخص ارتكب ما هو مكتوب عليه فعله، أو ما أمره به الشيطان (الذى هو في تقدير الغزّالى) يجرى أمره بأكثر مما يجرى وفق إرادة الله فقال:
لله عز وجل إيلام الخلق وتعذيبهم من غير جُرم سابق ومن غير ثواب لاحق. لأنه يتصرف فى ملكه. ويدل على جواز ذلك وجوده، فإن ذبح البهائم إيلام لها، وما صُبّ عليها من أنواع العذاب من جهة الآدميين لم يتقدمها جريمة.
هذا هو موجز لمفهوم الإتجاه السلفي فهو يعتمد أساساً على النقل، ويرى أن العقل لا يميز بين الحسن والقبيح، كما يرى (الغزّالي) أن ما يظن الإنسان أنه فعل له أو قول هو فى الحقيقة فعل لله أجراه على الإنسان.
وكان من مقتضى هذا الإتجاه السلفي إنكار العقل وإبطال السببية أو العلّية، والإنتهاء إلى أنهما تهيؤ للفرد. وقد أوجز شاعر هذا الإتجاه فقال:
من قال بالطبع أو بالعلّة.. فهو كفر عند أهل الملة
عاش المسلمون أو أغلبهم بمعنى أصح فى هذا البيان السلفي منذ الأشعري والغزّالي حتى وقتنا المعاصر، وكان ذلك أهم سبب لتخلف المسلمون ومعارضتهم لأى حقيقة ما دامت تخالف الفكر السلفى المذكور.
انفرج الأمر أخيراً عندما أوتي “الأزهر” الشريف إماماً طيباً عالماً جريئاً، قدم “بيان الأزهر والمثقفين عن منظومة الحريات الأساسية” – بتاريخ 8 يناير 2012 – وبه تغيَّرَ المحور والإتجاه من النقل إلى العقل، على النحو الذى يوجز فيما يلي:
أ.. “الأزهر” والمثقفون انتهوا إلى إقرار جملة من المبادئ والضوابط الحاكمة للحريات، إنطلاقاً من متطلبات اللحظة التاريخية، وحفاظاً على جوهر التوافق المجتمعي، حتى تنتقل الأمة إلى بناء مؤسساتها الدستورية بسلام وإعتدال؛ وبما لا يسمح بانتشار بعض الدعوات المغرضة.
ب.. تُعتبر حرية العقيدة وما يرتبط بها من حق المواطنة للجميع القائم على المساواة التامة فى الحقوق والواجبات. ويترتب على حق حرية الإعتقاد رفض نزعات الإقصاء والتكفير، ورفض التوجهات التى تدين عقائد الآخرين.
ج.. حرية الرأي هى أم الحريات كلها، وتتجلى فى التعبير عن الرأي بمختلف وسائل التعبير من كتابة وخطابة وإنتاج فنى وتواصل رقمي.
د.. حرية الرأي والتعبير هى المظهر الحقيقى للديموقراطية (بما يقتضي) تنشئة الأجيال الجديدة وتربيتها على ثقافة الحرية وحق الإختلاف وإحترام الآخرين.
هـ.. يُعدّ البحث العلمى الجاد فى العلوم الإنسانية والطبيعية والرياضية وغيرها، قاطرة التقدم البشرى، ووسيلة إكتشاف سنن الكون ومعرفة قوانينه لتسخيرها لخير الإنسانية. وأهم شروطه (البحث العلمي) أن تمتلك المؤسسات البحثية والعلماء المتخصصون حرية أكاديمية تامة فى إجراء التجارب وفرض الفروض.
و.. يظل الإبداع الأدبي والفني من أهم مظاهر إزدهار منظومة الحريات الأساسية وأشدها فاعلية فى تحريك وعي المجتمع وإثراء وجدانه. فالآداب والفنون مرآة لضمائر المجتمعات وتعبير صادق عن ثوابتهم ومتغيراتهم، وتعرض صورة ناضرة لطموحاتهم فى مستقبل أفضل.
ز.. إذا تعارض العقل والنقل قٌدم العقل وأٌوّل النقل.
طوبى للأزهر الشريف وإمامه الأكبر وكوكبة المثقفين التى تحلّقت حوله، فعملوا بجد وعلم وفقه على نقل محور الإسلام وبؤرته ومنهاج المسلمين وصميمه من النقل إلى العقل ومن الإتباع إلى الإبتداع (أى ابتكار الجديد الصحيح)، وبذلك انفتحت أبواب الحرية على مصراعيها، وتحرر العقل من التفكير المتناقض المتهاتر، وبدأ التطلع إلى خطاب ديني جديد.
وأول ما يجب أن يهتم به الخطاب الديني الجديد هو أن ينشئ فهماً صحيحاً فى مسألة الجبر والإختيار، التى رزحت على الأمة الإسلامية جبرية ثقيلة، تحول بين الأفراد والأمة وبين الفكر السليم الذى يحرر الإرادة، فى نطاق الإيمان بالله، وهو الأمر الذى حاولنا معالجته – بالخطاب الدينى الجديد الذى دعا إليه “الأزهر” – فى كتابينا : “مسألة الجبر والإختيار”، “العقل فى الإسلام”.
ففى القرآن آية نصها “قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا” سورة التوبة آية 9، ومن هذه الآية فهم الناس خطأ أن كل فعل وأى قول مكتوب عند الله، وأن إتيان الإنسان فعلا أو قوله قولا إنما يحدث بإرادة الله، وليس لإرادته فى هذا القول وذاك الفعل شيئاً، وهو ما زعمه الفكر السلفي التقليدي واعتنقه المسلمون جميعاً، منذ الأشعري والغزّالي، وحتى اليوم، الأمر الذى أدى إلى خمول الإنسان المسلم وقعود الأمة الإسلامية عن ابتدار أى فعل أو إبتداء أي قول، زعماً بأن كل شيء مكتوب “على الجبين”.
لكن الذى يدعى ذلك ربما يزاحمه ويصادمه آية أخرى فى القرآن هى “ومن يفعل مثقال ذرة خيرا يره ومن يفعل مثقال ذرة شراً يره” سورة الزلزلة آية 7 ، 8. وهى آية تفرض الجزاء – ثواباً أو عقاباً – على الفعل الذى يصدر عن الإنسان أو القول الذى يخرج منه.
لرفع التناقض الظاهرى بين آيات تفيد الجبرية وآيات تقرر المسئولية، فإن ذلك يكون من خلال تقدير آخر وفهم حديث، هو أساس الخطاب الدينى الجديد، ومؤداه أن الآية والآيات التى تفيد الإختيارية وتقرر المسئولية هى آيات محكمة، وهى الأصل الذى يقوم عليه الدين وينتهى إليه الشرع. فالله سبحانه وضع قانون الحياة ونظام المساءلة، وهذا هو المكتوب؛ أما الأفعال والأقوال فالإنسان حرّ فيها بقدر علمه وحرية إرداته. وقد يساءل الإنسان (أي يحدث له) ما لا يكون نتيجة لما يذكره من فعل أو قول، لكن هذه الحيرة تزول عندما يدرك الإنسان أنه مخلوق من الأزل وانه يحيا إلى الأبد، فى حيوات متواصلة فى المجال الأرضى أو فى مجالات أخرى غير معروفة لنا بعد؛ فيُحدث فيها ما يُكتب عليه جزاءه وفقاً للقانون الإلهى. وبهذا التفسير وحده يمكن فهم آيات القرآن على أنها متكاملة غير متناقضة أو متهاترة، كما أنها تعيد الأمة الإسلامية إلى فهم صحيح. والآية (لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) تدل على أن فعل القوم أو الفرد يحدث أولاً، ثم يحدث بناء عليه عمل الله فيقع التغيير.
saidalashmawy@hotmail.com
القاهرة