إن قلّة الايمان الديني في معشر اللفيف العلماني أو اليساري هي التي تسهّل له عقد آمال كثيرة على صنيع الحركات الأصولية المعادية للغرب.
هذا قول يدعو للاستهجان الأولي. يمكن أن تدفع به جانباً اعتراضات بديهية. ففي أقل تقدير، ليس كل ضعفاء الإيمان الديني من العلمانيين أو اليساريين في سلّة الحركات الجهادية المقارعة للامبريالية.
الا أن كل الاعتراضات البديهية سرعان ما تنقلب الى تسليم ضمني بالقول الذي نقترحه للتداول. فأن لا يكون للايمان الديني محل من الإعراب في اشكالية مناصرة بني اليسار للحركات الاسلامية فهذا يعني الانحياز المباشر لأولئك الذين يعوّلون على مثل هذه المناصرة، ويجعلونها برنامجاً كاملاً يشمل بفيئه كل ما هو علماني و/أو يساري.
المبنى في ذلك أن ثمة لفيف يحلم باستقلاله ذات يوم كطائفة تقوم على حدة، ويكون لها أئمتها وروضات أطفالها ومعاهدها وأحوالها الشخصية ومقابرها، وتسمى بطائفة العلمانيين. إلا أن هذا اللفيف، ولما كان تربّى على الاكتراث المعدوم بالإيمان الديني، أو على الامتداح الوضعي أو الوظيفي لهذا الايمان، فإنه وبسبب من هذه الضحالة الروحية نفسها، ليس يمكنه أن يتخيّل أن قادة ومجاهدي الحركات الأصولية يختلفون إيمانياً عنه إلا في الدرجة.
فلئن كان اللفيف العلماني النخبوي والمهلهل يدرج تحالفه مع الحركات الأصولية في خانة «التكتيك»، مهما بلغت درجة الانحناء والارتماء والشهق والتبعية، فإنه يتصوّر أن هذه الحركات لا تستعمل العباءة الدينية وعنصر الايمان الا من باب «التكتيك».
هو يتخيل أن علاقة هذه الحركات بالاشكالية الايمانية مجرد علاقة دعائية تسويقية. أي أن هذه الحركات لا تلجأ إلى المبدأ والمعاد، والحلال والحرام، إلا من باب محاكاة الجمهور، وجلبه تباعاً إلى حيث تهون التضحية بالذات، وهجرة الدنيا، فدى الأوطان، فلا تكون بعد ذلك من مهمة مركونة إلى اللفيف العلماني واليساري غير إعراب ما يقوم به البطل الأصولي في موقع مناسب على شرفة التاريخ، مع تمرير جرعات «تنويرية» بين الفينة والفينة، أو ادخار هذه الجرعات إلى وقت غير محدّد.
فالعلماني الذي يناصر الحركة الأصولية الفلانية أو العلانية انما تتبيّن له بعد ذلك تباعاً أن علمانيته هذه هي أسلوب حياة.
إن علمانياً كهذا سيتصوّر بالتالي الأصولية هي أسلوب حياة ليس لها علاقة هي الأخرى بالسياسة. وبالتالي فإن الاختلاف بين علماني «الممانعة ضد الغرب» وأصولي «الممانعة ضد الغرب» قائم في المعاش وليس في السياسة، ويكون على الثقافة التي تنبغي إعادة إنتاجها تحت لواء الممانعة أن تسوّغ ذلك وتربّي عليه الناشئة وتنبذ الخارجين على هذا المنطق، باعتبارهم مغرّراً بهم أو عملاء.
عندها سيكون الفارق هو أن العلماني الممانع ليس كالأصولي الممانع، لا لشيء الا لأن لا قدرة له على تكبّد المشقات التي تتسبّب بها التحريمات والنواهي الشرعية التي يلتزم بها الأصولي. يكون العلماني الممانع اذاً «أصولياً غير ممارس للشعائر». أو أن عقدة ذنب تنتابه من كونه ما هو كائن، فيقرّر سداد ثمن «حريته الشخصية» في السياسة، من خلال دعمه للحركات الأصولية.
علماني كهذا يتصوّر بينه وبين نفسه أنه متأخر أخلاقياً عن أخيه الأصولي، وأنه لأجل الرفع من أخلاقه ليس عليه إلا تقديم الحجج الوضعية والعلموية والتاريخانية للأصوليين. هو يتصّور أن أصولية الأصولي هي عدّة نصب يعتمدها هذا الأخير، لتثوير العامة والنهوض بهم. واذ يبني على الشيء، فهو يتصوّر أن «الماركسية ـ الشيوعية» أو «القومية ـ العلمانوية» أو غير ذلك من الأيديولوجيات البائدة في شكلها الرائج، إنما تصلح «عدّة نصب» تعتمد بدورها، لزيادة تثوير الطليعة التي هو خارجها، أي طليعة الجهاديين.
إن ثقافة كاملة قائمة على إعطاء الأولوية لما هو حسي وغير مجرّد هي نفسها الثقافة التي تعطي هذا «العلماني» المتذاكي دفعة تبريرية حيناً وتبشيرية حيناً آخر لأجل «التنظير» حول فائدة الحركات الأصولية وفائدة دعمها. انها ثقافة كاملة قائمة على تغييب تاريخ الايمان، وتغييب أهمية المسار الذي اتخذه تاريخ الايمان في الغرب لإنتاج مفهوم الفرد.
مع ذلك فثمة وجاهة ما في هذه الثقافة على ضحالة ما فيها من وجاهة، وهو أنها تبيّن أن قلة الايمان الديني لا تنحصر بالعلمانيين وحدهم، وإنما بكل «ايمان ديني» خارج قيد الحضارة الغربية… أجل، ما نقوله هنا، هو مثار لاستهجان زائد عن كل حد. لكن إذا ما عدنا الى تاريخ كامل من التلاقح الغربي بين تاريخ صقل الايمان وبين تاريخ تشكل الفرد، ربما وجدنا برنامج أجوبة وافية لها أن تسند ما نقول.
(جريدة “السفير”)