إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
عَقِب هجمات حركة حماس على إسرائيل في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 وقرار حزب الله بفتح “جبهة تضامن ومساندة لغزة” من لبنان، ازدادت الانقسامات الطائفية حدّةً في البلاد. فقد أيّدت الأحزاب الشيعية الرئيسة خطوة حزب الله، فيما انتقدتها أحزابٌ وشخصيات سياسية مسيحية. أما الطائفة السنيّة فشهدت تبدُّلًا في سلوكها السابق المعادي إلى حدٍّ كبير لحزب الله. وفي معرض حديثي مع أشخاص من الطائفة السنيّة، توصّلت إلى خلاصات عدّة عن المزاج العام السائد في أوساط الكثير من السنّة وممثّليهم.
منذ أول أيام الحرب، عبّرت شخصيات سنيّة بارزة عن دعمها لعملية طوفان الأقصى التي أطلقتها حماس، على الرغم من الخلافات مع حزب الله ومحور المقاومة الموالي لإيران الذي تنضوي حماس تحت لوائه. نُظر إلى هذه العملية بوصفها “سنيّة بحتة”، وتعزّز ذلك من خلال تشديد عليه الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في كلمته على أن العملية “كان قرارها فلسطينيًا مئة بالمئة وكان تنفيذها فلسطينيًا مئة بالمئة”. وبعد فترةٍ وجيزةٍ من بَدء القصفِ الإسرائيلي على غزة، انتقد مسؤولون في حماس حزبََ الله، إذ صرّح خالد مشعل قائلًا: “عندما ]تُرتكَب[ هذه الجريمة النكراء على غزة، لا شكّ أن المطلوب أكثر ]من حلفاء حماس[“، لكنه أضاف: “لا ينبغي أن نركّز على لبنان وحزب الله فقط”.
لذا، اعتبر السُنَّة بجميعِ أطيافهم أن موقفهم المتناغمَ مع مشاعرِ العرب والمسلمين المناصِرة للفلسطينيين لا يتناقض مع اصطفافهم ضدّ إيران وحزب الله، ولا يتنافى مع الأجواء السائدة في العالم العربي والمتخوّفة من توسّع النفوذ الإيراني.
مع ذلك، أدّت الحرب على غزة أيضًا إلى إحداث تغيُّرٍ في نظرة السنّة إلى حزب الله. فإذا كان الحزب منخرطًا في ما يعتبره كثرٌ منهم “معركة سنيّة”، من المنطقي أن يشعر السنّة ببعض التعاطف مع الحزب الذي يقاتل في سبيل قضيةٍ “تخصّهم”. ربما لم يكترثوا في السابق كثيرًا للأثمان البشرية التي تكبّدها حزب الله، ولا سيما بعد مشاركته في قمع السكان السنّة في الغالب خلال الثورة السورية، إلا أنهم يُبدون اليوم نوعًا من التقدير والمراعاة لخسائر حزب الله.
وعلى نحو مماثل، لم ترَ الجماعة الإسلامية، وهي الحزب الإسلامي السنّي الأساسي في لبنان، تناقضًا في تمييز نفسها عن حزب الله وحلفائه. وأوضح نائب الجماعة، عماد الحوت، هذا الأمر في بيان قال فيه: “نحن لم نكن يومًا أداة لأي مشروع خارجي لا غربي ولا شرقي، ولسنا جزءًا من أي محور، فلن نكونَ جزءًا من محورٍ يمكن أن يهدّد استقرار عمقنا العربي…” وكان هذا مُلفتًا على وجه الخصوص نظرًا إلى أن الجماعة الإسلامية عزّزت خطابها حول ضرورة “مقاومة إسرائيل” منذ انتخاب قيادتها الجديدة في العام 2022.
في غضون ذلك، اختلف “الشارع السنّي” عمومًا مع الأحزاب المسيحية بمعظمها التي أدانت حزب الله بسبب جرّه لبنان إلى حرب جديدة مع إسرائيل. وللمرة الأولى منذ عقدّين تقريبًا، يشعر الكثير من السنّة بأنهم أقرب إلى حزب الله منه إلى الأحزاب المسيحية التي كانوا سابقًا متحالفين معها ضدّ الحزب. مع ذلك، يفضّل الكثير من السنّة أن تتفادى المجموعات السنيّة الانخراط في المقاومة، لاعتقادهم أن الطائفة ضعيفة عسكريًا واجتماعيًا وسياسيًا مقارنةً مع حزب الله. ونتيجةً لهذا الميل إلى تجنّب الصراع، تربّت أجيال من السنّة بعيدًا عن ثقافة الفداء والتضحية بالذات، على خلاف حزب الله وقاعدته الشعبية.
أما العمليات العسكرية التي تشنّها حماس على إسرائيل من لبنان، فتحظى بتأييد أقل في أوساط الطائفة السنيّة. ويُعزى سبب ذلك إلى أن للكثير من اللبنانيين صورةً سلبية عن الوجود العسكري الفلسطيني في البلاد بين ستينيات وثمانينيات القرن المنصرم. وإذ يدرك السُنّة أن الفلسطينيين في لبنان يريدون الدفاع عن فلسطين، إلّا أنهم يعارضون تنفيذ أنشطة عسكرية من داخل لبنان خدمةً لقضايا لا علاقة لها بالشأن اللبناني.
تختلف حسابات السياسيين الُسنّة العلمانيين عن اعتبارات الأحزاب الدينية مثل الجماعة الإسلامية. فهم يردّدون صدى المواقف العربية التي ترفض إدخال لبنان في الحرب الدائرة في غزة، لأن ذلك سيؤدّي إلى تدمير البلد. ويخشون أيضًا من تنامي سلطة الإسلاميين السنّة، بموازاة حرصهم على تفادي انحسار نفوذهم السياسي لصالح الإسلاميين. وتفاقمت هذه المخاوف بسبب انسحاب سعد الحريري، الشخصية السنّية الأبرز، من الحياة السياسية ومغادرته لبنان، ما أحدث فراغًا في المشهد السنّي، إضافةً إلى تراجع اهتمام دول الخليج بلبنان مقارنةً مع ما كان عليه الوضع قبل عقدٍ من الزمن.
تتباين المواقف السنيّة أيضًا حيال مسألة تطبيع العلاقات مع إسرائيل. قد يرغب بعض السياسيين السنّة في تفادي الخلاف مع الدول العربية التي وقّعت اتفاقيات التطبيع، بيد أن الشارع السنّي يُعارض عمومًا هذا المسار. فعلى سبيل المثال، خلال ليالي شهر رمضان الحاشدة، عمَدَت مساجد كبرى في لبنان، مثل مسجد بهاء الدين الحريري في صيدا وجامع محمد الأمين في وسط بيروت، إلى إدانة أي تقارب مع إسرائيل، مُعبِّرةً بذلك عن موقف سنّي أشمل في البلاد.
إذًا، يبدو أن هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر والأحداث التي أعقبتها قادرة ربما على إعادة تشكيل التوجّهات الاجتماعية والسياسية لسنّة لبنان. ففيما يخشى القادة التقليديون من خسارة مكانتهم وانحسار رؤيتهم السياسية والاجتماعية، تُقدّم الجماعة الإسلامية وحلفاؤها وجهة نظرها الخاصة حول المقاومة. قد تسلّط مثل هذه المقاربات الضوء على الاتجاهات المتباينة داخل الطائفة السنّية في الكثير من الأحيان، لكن هذا الواقع ليس أمرًا جديدًا على الإطلاق.