المرأة الباحثة في العلوم الإنسانية، مهما كان تخصصها، ليس على مهارتها طلب، إلا إذا كان متعلقاً بقضايا المرأة. في تكليفها بالمهمة البحثية نفسها، في المشاركة في ندوة أو مؤتمر أو كتاب مشترك، يكون المطلوب منها أن تكتب، غالباً، أو تقول، شيئاً بخصوص المرأة. وإذا كانت الفاعلية الثقافية أو الفكرية محصورة بقضايا أخرى غير تلك المتعلقة بالمرأة، سوف تجد غالباً نساء من بين المشاركين، لا يدلين بدلونهن إلا لاستنكار عدم الأخذ بقضايا المرأة، أو التقليل من شأنها، في هذه أو تلك من المداخلات أو العروض أو البرامج.
وإذا كانت الفعالية “مختلطة”، أي تحتوي على النوعين من القضايا، تخصص الجلسات تبعاً للانتماء النوعي أيضاً: الجلسة السياسية، أو غير النسائية، يكون رؤساؤها وأصحاب أوراقها والمصغون اليها، والمناقشون لها، هم من الرجال. فيما الجلسة الخاصة بمسألة النساء، تديرها وتقدم أوراقها وتستمع اليها النساء. مع قليل جداً من النساء في الجلسة الأولى، والقدر نفسه من الرجال في الثانية.
الأمر لا يختلف كثيراً في الإعلام المكتوب، مع تعديل طفيف: “موضوع المرأة” تغطيه، أو تحقق بشأنه، أو تسأل عنه، أو “تحلل” معطياته صحافية امرأة. وأيضاً، المسائل “الاجتماعية”، أو “المحلية”، تحقق فيها الصحافيات من النساء، أو تُسأل عنها… إلخ. فيما الافتتاحيات أو مقالات الرأي، خصوصاً السياسية منها، أو الاقتصادية، فهي حكر على الرجال.
طبعاً نحن نبالغ قليلاً. والاستثناءات موجودة هنا، لتثبت القاعدة.
في الممارسة السياسية أيضاً: وزارة شؤون المرأة، إن وجدت، تتولاها امرأة، و”المشاركة” السياسية للنساء تقاس بالكوتا النسائية، إن “تحقّقت”، وغالباً من باب رفع العتب، والبرلمانيات يكلفن في الغالبية العظمى من الأحيان بلجان “اجتماعية” أو أخرى متعلقة بـ”شؤون المرأة” أو حقوقها وحقوق الطفل… إلخ. فيما المتخصصون بهكذا نوع من الحقوق أو المطالب، ليسوا أحزاباً سياسية بعينها، بل جمعيات نسائية تعمل من أجل هذه الحقوق أو المطالب، أو هكذا يُفترض.
كل هذه المعاني المطلوب فقط من النساء، وبإلحاح عجيب، على انتاجها، لا تجد من يهتم بها من النساء، إلا نادراً، خصوصاً النساء في الأوساط المثقفة، ولأسباب مختلفة: بعضهن كسلاً أو ضجراً، أو تأثراً بالمناخ العام، وبعضهن نفوراً من صاحبات تلك المعاني، أو استثقالاً لدمهن… وهو نفور يتعاظم، كلما أصرّت منتجات المعاني “النسائية” على السباحة في عكس المناخ العام هذا. والكلمة التي تكرّرها، وبإصرار، أولئك النساء غير المباليات، وبشيء من الحنق: “أنا لستُ نسوية!” تبريراً… (من دون أن ينتبهن أنه لولا تلك النسوية التي صارت خارج مزاج الموضة الفكرية، لما كنّ الآن في وضعية نساء يتعاطين الشأن العام، ويدلين بدلوهن حول مسائله).
لكن النتيجة واحدة: النساء العاملات في المعاني، عندما يكلّفن بمهمة، تكون عادة مقتصرة على عالم المرأة وشجونها وشؤونها. وذلك مهما كان التخصص العلمي لصاحبة العلاقة. أي ان الانتماء النوعي، أي ان يكون المرء امرأة، يتفوق على التخصص العلمي، بل يلغيه احياناً عندما تتجاوب صاحبة العلاقة مع هذا الطلب، الذي يرتدي احياناً شكل التوسل أو التلمّس. فتجد في الأروقة البحثية نساء متخصصات بالقانون الدولي، جنحن نحو الأبحاث النسائية، لشدة الطلب عليها، أو لفوائدها المختلفة، من سفر، وذيوع ومستحقات، أو لمجرّد هوى بحثي. فيرسو بذلك تقسيم ضمني للعمل، موازٍ للتقسيم القديم: تضاف بمقتضاه، القسمة القديمة “المرأة-الداخل والرجل-الخارج”، أو “ماما تغسل الأطباق، وبابا يقرأ الجريدة”… الى قسمة جديدة: المرأة تبحث أو تفكر أو تستطلع أو… في شؤون المرأة، والرجل يبحث أو يفكر… في كل الشؤون الأخرى.
وبما أن الشؤون النسائية عموماً هي، بما يقترب من التعريف، شؤون ثانوية، لا تقدّم ولا تؤخّر في مسار هذه “الشؤون الأخرى”، فمن البديهي أن تكون هذه الأخيرة هي الأهم، هي المصيرية، هي الطاقة المحرّكة للتاريخ. هي الشؤون “النبيلة”، المثيرة فكرياً، الجذابة، الصعبة على التناول، التي تحتاج الى أدمغة متمرسة عليها منذ القدَم، الى أدمغة اعتادت على توسيع مخيلتها الى أبعد من حدود المنزل والأعمال المنزلية… إلخ.
وما يُمنح للنساء المستجدات على حقل المعاني، تلك اللعبة المسماة “قضايا المرأة”، ليست سوى ملهاة عن حقها البديهي بـ”اقتحام” عالم المعاني “الرجالية”. أو بالتشجيع المفترض عليه من قبل العقول الرجالية الأكثر تنوراً، أو الأقل غيرة على مجالهم من “الدخيلات” من بين النساء.
المسؤولية الأساسية لوجود هذا الغيتو الفكري بين الجنسين تقع، بعد الرجال طبعاً، على النساء الباحثات الكاتبات أنفسهن: خصوصاً أولئك اللواتي ابتلعن الثعابين، أو قبلن بابتلاعها، تسليماً، أو كسلاً، أو حتى من باب حكمة المسالمة…. فانكببن على الغيتو، وغرقن في القضايا النسائية الصرفة، تفكيراً وصناعة للمعنى، وصرفن النظر عما يحدث خارج حدود غيتوهاتهن الفكرية. فلم يدركن، أو لم يحدسن، أو لم يتصورن حدوث أمر في الضفة الأخرى من هذا الغيتو: أن يكون للرجال، في هذا المجال كما في غيره، ردود فعل أعمق من ضمنية، ربما غير واعية، على هذا التزايد للنساء في عالم صناعة المعاني، كما في العوالم الأخرى. وأن تتجسد ردة الفعل هذه في ترسيم مناطق سيطرتهم، المتعلقة بالسياسة، وبالسلطة، بحيث لا تقترب منه النساء بعدما أرغمن، عملياً، على التخصص بقضايا النساء. والنساء العاملات بدورهن غالينَ بانكبابهن على تلك القضايا، بحيث لم ينظرن، خلال عملية انتاج معانيهن، إلا للنساء. لا حياة لموضوع الرجال ضمن هذه “القضايا”: فصرنا نعرف، بواسطة الأدبيات التي تنتجها تلك القضايا الكثير المكرر عن حياة النساء، من دون أن نعلم شيئاً عن حياة الرجال. (كل هذا مبالغة، طبعاً، ولا حاجة الى التذكير بالاستثناءات).
وإذا كانت تصعب المبادرة من أجل تحقيق خطوات تكسر هذا الغيتو الفكري، فالأجدر البدء بما هو ممكن: أي توريط الرجال بقضايا المرأة، عبر تكليفهم بأي نوع من النشاط الفكري الدائر حولها: بحث، مقال، ندوة… وبالمقابل صبّ الاهتمام على غير قضايا المرأة من قبل النساء. ليتم بذلك نوع من التثاقف بين أصحاب العالمين، حيث سيكتشفون بالتأكيد كم هم غرباء عن بعضهما البعض.
ولعل ما يبعث على القلق، وما يحفّز على التأمل بالمسألة والانكباب على خصوصياتها، هو تلك المفارقة الشقية والقاسية، والقائمة على ما يلي: تعايش بين خشبية اللغة الخاصة بقضايا المرأة وتصلّبها، وبين تزايد مشكلات المرأة وتعقدها، بل تفاقم العنف بكافة أشكاله، الجديد منه والقديم، ضد النساء عموماً: من جهة، قوة الواقع وغناه وشراسته، ومن جهة أخرى ضعف وفقر اللغة التي يفترض بها أن تصفه. ما يضيف من حدّة هذه المفارقة، أو قد يكون من نتائجها، أننا في حالة حرب بين الجنسين، لا تقتصر المعركة فيها على العنف الصرف، بل يتجاوز ذلك الى افتقار المعرفة، الى اللامبالاة، الى الخوف، الى الضمنيات…. الحاكمة للتصورات والمسالك الخاصة بالمرأة.
والأدهى أن مناخات تلك الحرب انتقلت الى النساء أنفسهن، فاندفعن الى تعبيراتها ولغتها، وصار ذائعاً كراهية النساء للنساء ولقضايا النساء.
علينا أن لا ننسى أننا نعيش في منطقة منذورة للحروب المتواصلة، الساخنة منها والباردة. وليس بوسع أحد أن يتجنب عفوياً، أو بمفرده، شظايا هذه الحروب المتدفقة علينا من كل حدب وصوب.
هذه كلها أسباب تحثّنا على رفع حالة الطوارئ التي تحكم حيواتنا، بالبدء في إعادة النداوة الى قضايا المرأة عبر فتح الغيتوهات النوعية بعضها على بعض.
كاتبة لبنانية
نُشِر في نوافذ “المستقبل”