الإنسان في جوهرهِ التاريخيّ كائنٌ فلسفيّ ومتفلسف. في الحقيقة ما يجعلني باحثاً ومتفكّراً ومتسائلاً في خضمّ هذه الفكرة، هوَ أنّني لامستُ من خلال تجربة الإنسان مع أفكارهِ وتفلسفاتهِ وتساؤلاتهِ ومع تحوّلات عصرهِ في تعاقبات الأزمان ضوءاً بارقاً ينسابُ بالمعاني والتّصورات والإلهامات في مجمل أفكارهِ وتخلّقاتهِ وتجلّياتهِ، ما يعني بالنسبة لي على الأقلّ، أنّ الإنسان عموماً كائنٌ فلسفيٌّ ومتفلسف في جوهرهِ التاريخيّ.
فالإنسان في كلّ مراحل تاريخه وتقلّباتها، كان الأكثر قرباً إلى فهم وجوده عبر تعالقهِ الخلاّق مع أسئلتهِ واستفساراتهِ وتوجّساتهِ وتفكيرهِ وقلقه، لأنّه يحتاج دائماً إلى أنْ يفهم كيف عليه أنْ يتجنّب السقوط أو اليأس أو التراجع أو الضعف أو التلاشي. إنّه في كلّ ذلك ينتهج التفلسف أسلوباً تفكيريّاً وإبداعيّاً من أجل أنْ يبقى في الفهم واعياً لوجودهِ ولرغباتهِ، ولذلك كانَ أنْ تفنّنَ في اجتراح فنّ الحياة، لكي يبقى متعالقاً مع تفلسفاتهِ بِالقدرِ ذاته مِن التعالق مع أسلوبه في اختراع فنون الحياة.
إنّه يتفنّنُ فلسفياً في تجاوز الألم مثلاً، لأنّه يريد أنْ يتعلّم فنّ تذوّق النجاح والتّخطَّي والإستمراريّة. ويتفنّنُ جمالياً في اختراع العزلة مثلاً، لأنّه يريد أنْ يتعلّم فنّ التأمل والتفرَّد. ويتفنّنُ كثيراً في فلسفة اللذة، لأنّه يريد أنْ يتعلّم فنّ المتعة. ويتفنّنُ مشاعريّاً في فلسفة الحبّ، لأنّه يريد أنْ يتعلّم فنّ الخلود. ويتفنّنُ فلسفيّاً في ابتكار الأفكار، لأنّه يريد أنْ يتعلّم فنّ الإبداع والإحتفاء بالجديد. ويتفنّنُ في اكتشاف منابع الجمال هنا وهناك، لأنّه يريد أنْ يتعلّم فنّ الإحساس البديع بِالحياة. ويتفنّنُ أيضاً فلسفيّاً في تقبّل الهزائم والعثرات، لأنّه يريد أنْ يتعلّم فنّ التجاوز وفنّ أنْ يبقى أنيقاً ومتماسكاً في تقلّبات الظروف. ويتفنّنُ في البقاء حرَّاً تحت المعيقات والاستلابات والظلام، لأنّه يريد أنْ يتعلّم كيف عليه أنْ يحافظ على فلسفة الوميض الحرّ في أعماقه.
والعاشقونَ للجمال الإنسانيّ فلسفيّاً في شتّى صورهِ وتعبيراته ورمزيّاته وتدفّقاته، يأتونَ متيّمينَ به في جلال الحريّة والتفلسف. إنّهم يجدونَ في الجمال سبباً يجعلهم يتفنّنونَ في ابتكار المعاني والأفكار، ويجدونَ فيه حلماً لا ينتهي ينسابُ بِالتخلّقات والإبداعات والرغبات. أليسَ الجمال في حدّ ذاته اختراعاً فلسفيّاً إنسانيّاً في كلّ تاريخ الإنسان. وأليسَ الإنسان أوجد الجمالَ لأنّه يريد أنْ يمنح حياته سبباً لِوجودهِ ولممارساته ولانفعالاته ولعواطفه، ولِكلّ ما يعتملُ في فكره وعقله. وأليسَ في الجمالِ جمال فلسفتهِ التي يرى أنّه قد أوجدها تفسيراً خلاّقاً لِرؤيتهِ ولانفعالاتِ تفكيره ولنظرتهِ ولأسلوبهِ في تبنّي حريّتهِ بِالطَّريقةِ التي تمنحهُ اقتناعاً ملهماً على مستوى الفعل الإراديّ والتفلسفيّ.
والإنسان المتفلسف عادةً ما يتحسَّسُ عقله وفكره عند كلّ منعطفٍ وفكرةٍ واتجاهٍ وطريق، لأنّه يريد أنْ يتأكّد بوضوح مِن أنّ عقله وفكره خاليان مِن الأوهام، وغير مقيّديْن بِأصفاد الأفكار الهادمة للحريّة والانطلاق والإبداع والنقد والتّحديق. إنّه يعرج بِالأفكار إلى مدارج الضوء، لأنّه يريدها حرَّة ونقيّة وصافِيَة، ومشعَّة بالألوان والتّفتحات المعرفيّة الملهمة. فالأفكار فلسفته التفكيريّة والنقديّة، ولا يستطيع إلاّ أنْ يفلسفها تأكيداً منه على خلوها من الأغلال والنتوءات والاختناقات. ويرى أنّ الأفكار لا تنمو مزدهرةً ومضيئة إلاّ في عقلٍ يخلو من الأوهام والقيود والتّرسبات.
والإنسان في تفلسفاتهِ الفكريّة يراهن دائماً على حضورهِ شاخصاً وفاعلاً ومبدعاً في رحابة الحياة. إنّه يستجلي من فلسفتهِ هذهِ وعيه الملهم بضرورة حضورهِ فاعلاً في صناعة فكرهِ التّواق إلى الإبداع والتفلسفِ والتّفكّر. وفي حضورهِ الشاخص هذا أمام تفلسفاتهِ يرى وعيه وقد أصبح ملهماً وباعثاً على التخلّق والتفكير والنّقد، وإنّه أصبح يرى في وعيهِ هذا جمالاً يضعه في صميم إبداعاتهِ ويدفعهُ دوماً إلى معرفة أنّ الأصل في الاختيار يتوقّفُ على ما يظهره مِن وعيٍّ تجاه الأفكار والفلسفات والتّصورات والمفاهيم. ويدركُ من أنّ كوْن الإنسان في أصلهِ التفكيريّ والنّقديّ يتجلّى متفلسفاً، فإنّ ذلك يمنحهُ مساحةً حرَّة من الوعيّ باختياره وأسلوبهِ وتفكيره، ويبعثه في الوقتِ ذاته حضوراً متبصراً في مرآةِ تصوّراتهِ وتحوّلاتهِ وتجلّياته.
والعارفونَ بذواتهم في وجودها إدراكاً على قيد التفلسف، يدركونَ جيّداً جدوى وجودهم في صلب تفلسفاتهم، حيث ذلك من شأنهِ تماماً أنْ يضعهم في حركة الحياة. إنّهم لا يكتفونَ بالوقوف على أطرافها، بل نجدهم في صلبها، يكشفونَ عن براعتها في التنوّع والازدهار والسطوع. إنّهم لا يترددون أبداً في أنْ يكونوا في صلبها وفي حركتها وفي تحوّلاتها وفي مستوياتها. لأنّهم يملكون قرارهم في اختيار أسلوب الحياة التي يريدونها، ويملكون معايشتها بالطريقة التي تتوافق وفلسفاتهم في اختراع الأفكار من حولها. إنّهم يرون الحياة عبر آفاقهم الطليقة، لا يغلقون عليها الأبواب والسدود والموانع. إنّهم في كل ذلك يمارسون الحياة كما لو إنها تدور كاملةً في عقولهم، وتعيش ناطقة في أذهانهم وتنسابُ فاعلةً في أفكارهم وفلسفاتهم ، وتتدفّقُ تنوّعاً وضوءاً وألقاً في تفكيرهم.
المتفلسفونَ يعشقونَ دائماً ارتياد البعيد جداً من مناطق التفكير، ويُكثرون من ارتيادهم هذا بين الحين والآخر. لأنّهم يجدون فيها ثراءً على مستوى التجديد والابتكار، وفي كلّ جديدٍ لهم، هناك جديدٌ آخر. إنّها مناطقهم التي يحقّقونَ فيها شغفهم بالحريّة والاستمراريّة والتجربة والمحاولة، وتبعث فيهم الجرأةَ على الفهم والمعرفة، ومن دونها لا يُمكن للإنسان أنْ يعثر على جديده في جهود التفكير. فالتفلسف يتطلّب دائماً فعلاً حقيقيّاً في ارتياد البعيد جداً من آفاق التفكير، وهذا الفعل عادةً ما يكون مفعماً بالشغف في ابتكار الأفكار وفهمها. ولذلك مَن يفكّر يجد نفسه في هذا الفعل وقد ارتاد الكثير من مناطق التفكير البعيدة، ولا يسعى أبداً إلى تبنّي تلك الأفكار الجاهزة والأحكام الاطلاقيّة والمفاهيم السائدة، لأنّها تقتلُ فيه نزعة الابتكار والفكر وتردعهُ عن ارتياد مناطق التفكير الخلاّقة.
وفي العلاقة ما بين التفلسفِ والفكر يظهر جليّاً ميراث الإنسان الهائل في تخلّقات الفنون والفلسفة والآداب. ولم يكن الإنسان في كلّ مراحل التاريخ سوى هذا الميراث الذي يمتدُّ ساطعاً في الذاكرة الإنسانيّة المعرفية، وينساب غزيراً في تعاقبات هذه الذاكرة الوامضة. إنّه الميراث الذي يربط التفسلف بالفكر في علاقةٍ خلاّقة تتجلّى دائماً في نزعة الإنسان نحو التساؤل والإبداع والتفنّن والتكلّم. إنّه ميراثه الذي يجد فيه دائماً تجربته في التفلسف والفكر والخَلق، ولا شيءَ يربطه بهذا الميراث سوى سعيه الدائم إلى ادراكِ وعيه في البحث عن الحقيقة والحكمة والاتزان. وهو الميراث الذي يخوض فيه ناقداً ومتسائلاً ومفكّراً، ويعود إليهِ جديداً في كلّ ومضةٍ من ومضات الوعيّ بحقيقةِ وجوده متفلسفاً على قيد السؤال والتفكّر والتجربة والذاكرة.
وكان أنْ استطاع الإنسان تاريخيّاً عبر تفلسفاتهِ أنْ يتوسَّع كثيراً في فهم وجوده فلسفيّاً ومنطقيّاً. فليس أقسى عليه من أنْ يقبل وجوده مِن دون أنْ يملكَ منطقاً لوجودهِ. إنّه في منطقهِ الذاتيّ يُفلسف المعنى من وجودهِ وفقاً لتساؤلاتهِ واستنطاقاتهِ في ملكوت الخَلق. وهذا الأمر تحديداً كانَ من شأنهِ أنْ يبعثه متفلسفاً حرَّاً يملك إرادة الفهم في اجتراح المنطق من وجودهِ تفسيراً واضحاً لنزعتهِ الدائمة نحو الخَلق والحريّة والتفكّر والإبداع.
والعقل المتفلسف عقلٌ شغوف بِشهوة الخَلق. بمعنى أنّه معرفيّاً مفعمٌ بِالرغبةِ الكبيرة في خلق الأفكار والمعاني والتّصورات، تعالقاً خلاّقاً مع توجّساته وشكوكهِ وأسئلته. إنّه لا يتوقف أبداً عند السؤال الأول، بل يمضي إلى ما بعد السؤال الثاني من أجل أنْ يظفر برؤيةٍ أوضح وفهمٍ أجمل. إنّه في ملكوت الخَلق يخلق السؤال بحثاً عن سؤالٍ آخر، ويخلق المعنى من معنى سؤالهِ استدعاءً حرَّاً لذاكرتهِ المعرفيّة في مخاض التأمّلات والاستنطاقات والتجلّيات.
وبما أنّ الإنسان في جوهره التاريخيّ كائنٌ متفلسف، فهذا يعني أساساً أنّه كانَ ولم يزل يتخلّق ناقداً في تعالقاتهِ مع ذاته وأفكاره وتجاربه. إنّه مع ذاتهِ يتحقّقُ دائماً من أنّه أصبح يتعرَّفُ عليها جيّداً، ويدركُ تماماً من إنّها ذاته التي قد تعرَّف عليها سابقاً، ويملك في الوقتِ نفسه التعرَّف عليها لاحقاً. لأنّه دائماً ما كانَ يريدها أنْ تكونَ كما يريدها هوَ وليس كما يريدها الآخرون. ومع أفكارهِ يفتح أمامها مساحاتٍ رحبةٍ من حريّة الشّك والسؤال والنقد، ويمنعها من أنْ تتغوّل عليه في يقينيّات مطلقة أو في أحكام نهائية أو في تفسيراتٍ ومعتقدات استبداديّة. وفي تجاربه يرى ذاته وهيَ تتشكّل وعيّاً من تجربةٍ إلى أخرى، ويجد فيها تراكماته المعرفيّة التي تضعه دائماً في سباق الخَلقِ والفهم، يختبر من خلالها قدرته على اجتراح المعنى من تفلسفاتهِ في تخلّقات السؤال والتجلّيات والدهشات.
وليسَ أقسى على الإنسان مِن أنْ يبقى عاجزاً عن التفكير والتفكّر في ما يرى أو يسمع أو يقرأ، وليس أقسى عليه أيضاً من أنْ يكونَ عاجزاً عن منح حياته شيئاً مِن معانيه أو تفلسفاته أو احتجاجاته حتّى. ولذلك كانت أولى خطوات الإنسان في المعنى والخَلق والتفلسف والفهم والرؤية، أنْ امتلكَ وعيّ السؤال. الوعيّ الذي من خلالهِ أصبح يعرفُ أنّ في خلق السؤال تكمنُ تجربته المعرفيّة والتفكيريّة وهيَ تتخلّقُ في مستويات التفلسف والفهم، وأصبح يعرفُ أنّ وراء كلّ محاولةٍ تساؤليّة هناك تجربةٌ ثريّة لمحاولةٍ أخرى خلاّقة، تجعله يعرف كيف يجب عليه أنْ يكون متسائلاً ومتفكّراً في محاولاته المتجدَّدة دائماً. وأصبح يعرفُ أيضاً أنّه في كلّ مستوياته التساؤليّة تلك، كانَ قد اكتسبَ ذاكرةً في وعيّ السؤال، تتجلّى فهماً وتفلسفاً وخَلقاً في ذاكرةٍ ممتدَّةٍ لا تتوقّفُ عن التّواصل الشّغوف مع إلهاماته وافهاماتهِ وتجلّياته وتساؤلاتهِ وتخلّقاته.
والبارعونَ في اقتناص المعنى من جدوى السؤال، يتخلّقونَ كثيراً في مدارك الفهم والتفلسف. إنّهم من خلال مداركهم تلك باتوا يعرفون أنّ الأمر يتوقّف على مدى قدرتهم الدائمة على التخلّصِ والتحرَّر من أيّ وَهْمٍ قد يستبدُّ بهم طويلاً، وفي فعلهم الفلسفيّ هذا تكمن تجربتهم التساؤليّة في اقتناص المعنى من أيّ فكرةٍ أو سؤالٍ أو تجلٍّ يجدونهُ يتخلّقُ سطوعاً في مستويات التكفير والفهم.
إنّهم يعرفون أنّ الحقيقة، أيّ حقيقة قد تومضُ أمامهم في لحظة، وقد يبقونَ يسعون خلفها زمناً طويلاً، ولكن الأهم من كلّ ذلك في نظرهم أنّهم يحقّقونَ أجمل انتصاراتهم التفلسفيّة في انعتاقهم من الأوهام، وفي هذا الانعتاق يتخلّقونَ كثيراً في طريق الحكمة والتفلسف والخَلق.
Tloo1996@hotmail.com
*كاتب كويتي