عندما كان هنري ميلر يقول : ((إن الكتابة هي أصعب مهنة باستثناء مصارعة التماسيح))، لم يكن يقصد الكتّاب الممسوخين والأقلام المتخاذلة عن الكتابة بما هي رسالة حقيقة ووضوح بعيد عن الابتذال والكذب والتزلف، بل كان حتماً يعني الكتابة الفكرية والسياسية الملتزمة التي يتحول بياض الورق فيها حبراً وكلمات تقلق راحة الطغاة وأزلامهم وجنرالاتهم وعسسهم، وتكون مساهمةً فعليةً في عملية التقدم و التغيير نحو الحرية لو استمرت وراكمت ثقافةً وتنويراً وفكراً ديمقراطياً نهضوياً حقيقياً. وهنا يصبح المثقف والكاتب فارساً بنبالة فرسان القرون الوسطى ووضوحهم وجرأتهم جاعلاً من كل ذلك عنواناً لصراع تاريخي لم يهدأ يوماً بين ثقافتين:
ثقافة الحرية وتحرير العقل من أوهام وزيف المقدس أياً كان شكله، وثقافة الموت والظلامية والاستبداد الذي يلف عالمنا العربي وكل المجتمعات البشرية التي ابتليت بديكتاتوريات وأنظمة حكم استبدادية مختلفة الأشكال والأسماء و لكنها ذات مضمون ونهج وممارسات واحدة.
قلة من المثقفين والكتاب والصحفيين تجاوزوا الحدود التقليدية وحافظوا على الحد الأدنى من كرامة أقلامهم وأخلاقية رسالتهم، بل إن بعضهم ذهب حداً من التمرد والرفض وصل إلى الموت الاختياري انتحاراً وهي حالة انفجارية ربما نرفضها تمسكاً منا بثقافة الحياة (ولن ندخل في تحليلات نفسية سيكولوجية لها)، ولكنها ذات دلالة عندما يتعلق الأمر بشاعر مثل مايكوفسكي قضى انتحاراً بإرادته رافضاً أن يتحول شعره الإنساني وقصائده التي تمجد المرأة والحب والعلاقات الإنسانية إلى أداة بيد الطاغية تمجد ديكتاتورية البروليتاريا والكولخوزات والسوفخوزات وبلاد الستار الحديدي. أو بكاتبة شابة مثل أروى صالح التي رأت ما آلت إليه الأحوال المتردية في مصر والعالم العربي بعد عقد من الأحلام بمجتمعات أفضل في السبعينات الصاخبة بمظاهراتها وأحزابها وتحركاتها السياسية والمدنية والإعلامية، فآثرت الانتحار وسقطت مكسورة الأمل والحلم والقلب الذي لم يعد يحتمل المزيد من الخيبات والهزائم. والأمثلة كثيرة عن كتاب سقطوا ضحايا أقلامهم وأفكارهم وأحلامهم واستبداد طويل جعل مجتمعاتهم تعيش اغتراباً عن هذه الأفكار.
للموت كتابةً ضحايا أيضاً من نوع مختلف كما رأينا ونرى كل فترة، من الكتاب الذين سقطوا اغتيالاً شهداء مقالاتهم وكلماتهم التي جرحت التنين في مملكته، فكان انتقامه الطبيعي من كل من قال له: (لا) للطائفية والاستبداد والانحطاط والتخلف في بلاد تم تدجينها تاريخياً على ثقافة الصمت والرضوخ للأمر الواقع. من نسيب المتني إلى كامل مروة وسليم اللوزي إلى مهدي عامل وحسين مروة إلى سمير قصير وجبران تويني وآخرين ذهبوا وغيرهم ربما قادمون على الطريق وسائرون إلى المصير نفسه. وربما كان للصحافة اللبنانية كما نرى النصيب الأكثر من الاغتيال الذي طال رموز الكلمة والصحافة الحرة التي حافظت على نفسها ودورها الريادي رغم كل محاولات التدجين، وهذا الهامش من الحرية هو الذي قدم للحركة الديمقراطية العربية نخباً ثقافية وتنويرية لاقت مصيرها الطبيعي من كل من ضاقت صدورهم بأقلام وكلمات هزت وجودهم واستقرارهم… فكان لا بد من الضربات الاستباقية.
ما يجمع بين الحالتين هو الموت.. سواءً كان اختيارياً (انتحاراً) أو قسرياً (اغتيالاً).. الموت الذي وحّد رسالة الرفض والمواجهة، وهو ما عبر عنه معين بسيسو بقوله الشهير :
((أنت إن نطقت متّ
وإن سكت متّ
قلها ومت))
أخيراً.. فإن المعركة التاريخية بين ثقافة النهضة والتنوير والديمقراطية من جهة والأصولية والاستبداد والانحطاط الذي يخيم على هذه البلاد مستمرة دوماً، ويومية، والضرائب التي دفعت وستدفع لن تكون قليلة.. ربما يستطيع الكتاب الذين التزموا الجرأة والوضوح أن يحافظوا على الرمق الأخير من طاقة الاحتمال والأمل لكي لا يصبح كل منهم أروى أو مايكوفسكي. ولكنهم لن يضمنوا للحظة واحدة أنهم لن يتحولوا إلى سمير أو جبران أو مهدي أو غيرهم. والكاتب الحقيقي الذي يطرق الحقيقة بقوة هو بطبيعة الحال مشروع رصاصة أو عبوة في أي لحظة في سياق المعركة الصعبة التي تحدث عنها ميلر مع تماسيح ٍ ابتلعت كل شيء في هذه البلاد.
ما نثق به أن التاريخ سيذكر يوماً وبإنصاف الكتاب الذين سقطوا في هذه المعركة، كما سيذكر طغاة ومحتلي هذه البلاد العربية.. سيذكر القتيل والقاتل.. الكلمة والرصاصة.. وما نثق به أكثر قولٌ (لجبران خليل جبران):
((قد تستطيع ان تسحق الزهرة بقدميك، ولكن أنّى لك ان تزيل عبيرها)).
annahar.writer@gmail.com
* كاتب سوري