أصلُ الحكاية: فعلتُ، على مدار أسبوع مضى كما يفعل الناس، قرأتُ، وسمعت أخباراً، وموسيقى، وأغنيات، إضافة إلى ما لا يحصى من مكرور وجديد الحياة اليومية. شغلني كتاب صدر في أواخر العام الماضي بعنوان “قطر والربيع العربي” لكريستيان كوتس أولريكسن، وسمعت ما تسرّب من أخبار عن وساطة توني بلير، بين حماس وإسرائيل، وسمعت أغنيات، كانت آخرها للسيدة أم كلثوم.
تبدو أشياء كهذه، للوهلة الأولى، وليدة الصدفة. ومع ذلك، تقبلُ الجمعَ والاجتماع، إذا عثرنا على الخيط المناسب. والواقع أن الفضل يعود للسيد أولريكسن، الذي يعالج في كتابه المذكور موقف وسياسة قطر في سنوات الربيع العربي، ويُفرِد مساحة خاصة للكلام عن شيء اسمه “قوّة قطر الناعمة”، التي يزعم أن الحكّام القطريين برعوا في استخدامها، إلى حد تحولت معه بلادهم إلى قوّة إقليمية (يا للهول)، ولكن التطوّرات اللاحقة، وانحياز قطر إلى الإخوان، وجماعات الإسلام السياسي أثارت تحفظات وحنق الكثيرين في المنطقة وخارجها.
لا بأس. مفهوم “القوّة الناعمة” شائع، والكلام عنه يدخل في باب الموضة هذه الأيام. ومع ذلك، فإن عدد تعريفاته يكاد يبلغ عدد المتكلمين عنه. ويمكن، بالتأكيد، توظيف النماذج التطبيقية، التي يوظفها هذا “المحلل” أو ذاك، للتدليل على الشيء ونقيضه.
فالبريطاني كريستوفر دافيدسون، الذي لا تقل مؤهلاته الأكاديمية إثارة عن مؤهلات أولريكسن، والذي نشر، مؤخراً، كتاباً بعنوان “بعد الشيوخ: الانهيار القادم لملكيات الخليج“، ولم تشغله حكاية “القوّة الناعمة”، ولم يلاحظ وجودها، يعنون فقرة يتكلّم فيها عن قطر، وموقفها من الربيع العربي بالعبارة التالية: قطر، نصير أم نصّاب.
يختزل أولريكسن مفهوم “القوّة الناعمة” في القدرة على تحقيق شيء ما دون اللجوء إلى العنف. وإذا قبلنا به فإن فيه، على فُقره، ما يعني وجود القوّة، أصلاً، ومحاولة الاستعاضة عنها بالدبلوماسية، مثلاً، كلما اقتضت الحاجة. وفي حالته، هذه، لا يصلح نموذجاً تحليلياً للحالة القطرية، لأن القوّة، كما يعرف القاصي والداني، غير متوفرة، أصلاً.
أما إذا تعاملنا معه بمعنى تحقيق أمرٍ ما، دون اللجوء إلى القوّة، وفي حال عدم امتلاكها، فإنه قد يصدق، ولكن بشروط، وعلى رأس الشروط أن تنوب الدولة الصغيرة عن دولة أكبر، يعني بصريح العبارة أن تقوم بدور المقاول في الباطن، أو العلن. وقد كان هذا في ذهن هرتسل، مثلاً، عندما فكّر في الدولة اليهودية، كحاجز للصدّ أمام البربرية الآسيوية. لم يخطر على باله، في حينها، أن دولة اليهود يمكن أن تصمد في المجاهل الأسيوية دون الحماية الأوروبية. لذا، لن يعدم السائل وجود محللين في المنطقة وخارجها يرَون في قطر نوعاً من المقاول المحلي، وأسبابهم لا تفتقر إلى الوجاهة.
ولكن حتى هذه الخلاصة لا تحل إشكالية وغموض المفهوم. فنحن نحتاج لتعريف “الشيء” الذي تريد تحقيقه. وغالباً ما يكون هذا “الشيء”، في حال الدول الصغيرة، الحماية وأسباب البقاء. وهذه، في الحالة القطرية، توفرها القواعد العسكرية الأميركية. أما إذا سحب الأميركيون الغطاء، ورفعوا أيديهم، فلن تنفع لا القوّة الناعمة ولا الخشنة. يعني بصريح العبارة لا فائدة تُرتجى من “الجزيرة” أو كأس العالم، ولا من الإخوان، والقرضاوي، والمفكر العربي، إذا رفع الأميركيون أيديهم.
لا أحد ينفق المليارات من أجل الوجاهة، والفشخرة، ليُقال إنه أصبح الآن على الخريطة (بماذا ولماذا)، وإذا حدث فلدينا مشكلة تذهب بنا إلى ما هو أبعد وأعقد من حكاية “القوّة الناعمة”. نذهب من السياسة إلى علم النفس، والانثروبولوجيا الثقافية.
وثمة إشكالية إضافية تتمثل في حقيقة أن ما يدخل في مفهوم القوّة الناعمة لا يُباع ولا يُشترى. فإذا تحدثنا عن قوّة ناعمة أميركية، مثلاً، نضع في الاعتبار “هوليوود”، وأفضل الجامعات في العالم، وما لا يحصى من الفائزين بنوبل في العلوم، والآداب، ولا ننسى “وادي السيلكون”، و”الناسا”، ناهيك عن كتّاب وشعراء فنانين ومجانين (من الجنسين) لا نستطيع حصرهم في هذه العجالة.
وبما أن قطر تسخّر “قوتها الناعمة” للنيل من مصر، وتتطاول عليها، فلنتكلم عن قوّة مصر الناعمة، وهي حقيقية، عميقة الجذور في المكان والزمان، على الرغم من كل ما أصابها في العقود الأخيرة. كل مصادر القوّة المصرية الفرعونية والهيلينية والفاطمية والمملوكية والعربية، غير قابلة للتكرار، فريدة في تاريخ المنطقة والعالم، وهي لا تُباع ولا تُشترى.
ولننس كل هؤلاء. بعد قراءة أولريكسن ودافيدسون، وسماع أخبار وساطة توني بلير، وهي آخر فصل في محاولات قطرية متلاحقة لإنشاء دولة لحماس (يعني الإخوان) في غزة، سمعت أم كلثوم، وتذكرت قطر.
القوّة الناعمة تعني أشياءً كثيرة أنجبها التاريخ، غير قابلة للتكرار، لا تُباع ولا تُشترى.
لذلك، تصادف عند سماع أم كلثوم، أنني تذكرت قطر.
khaderhas1@hotmail.com