داود اللمبجي

8

عندما كنا في ريعان الشباب، وربما لا نزال، كنا نردد البيتين التاليين من الشعر العراقي الشعبي:

مات اللمبجي داود وعلومه كومو اليوم دنعزّي فطومه

مات اللمبجي داود ويهوّه ويهوّه عليكم يهل المروّه

ولم نكن نعرف أي شيء عن قائل البيتين أو مناسبتهما. ولكن من خلال رسالة إيميل طريفة وصلتني من صديق علمت بأنهما من قصيدة طويلة لـ”الملا عبود الكرخي”، والذي يطلق عليه أهل بغداد لقب”أمير شعراء الشعبي العراقي”!

يعتبر الملا عبود، ولدى غالبية العراقيين، وبالذات من الطبقة المتعلمة، الذين تجاوزوا العقد الخامس من العمر، غنياً عن التعريف. فقد قرأ الكثيرون أشعاره وتذوقوها. والملا عبود بغدادي عريق، وهو، بلا شك، يعتبر لدى الكثيرين، ومن البغاددة بالذات، أمير الشعر الشعبي وسيد قوافيه. وتقول رسالة الإنترنت الطريفة تلك بأن الملا أصدر خمسة دواوين شعر جمع منها ثلاثة في خمسينيات القرن الماضي وصدر الباقيان في ستينياته وثمانينياته ولمّا تكتمل بعد. وأن الكرخي مارس مهناً عدة منها الزراعة والتجارة وحتى الصحافة، حيث أصدر جريدة (الكرخ) الشعرة التي أغلقت مرات عدة بسبب مواقف صاحبها السياسية الانتقادية للحكومة وقتها. لم يدع الكرخي مظهراً من مظاهر الحياة في بغداد دون أن يتناوله بالنقد والسخرية والحماس والمديح والهجاء حتى نال لقبه عن جدارة. ومن قصائده التي اكتسبت شهرة كبيرة قصيدة (المجرشة) التي وصف فيها مشاعر امرأة ريفية مقهورة لا عمل لها سوى جرش وطحن الحبوب يوماً بعد يوم كي ترضي زوجها عديم الرحمة. وتعتبر “المجرشة” من غرر القصائد لما يجيش فيها من المشاعر الإنسانية. وقد غنى مطرب العراق الأول “محمد القبانجي” أبياتاً منها فزادها شهرة على شهرة! وقد استمتعت شخصيا بسماع الأغنية لأول مرة من أحد المبدعين في أدائها في منزل الصديق العتيد “صباح الريس”.

وتستطر رسالة الإنترنت في القول بأن القصيدة الثانية التي زادت من شهرة “الملا عبود الكرخي” قصيدة (داود اللمبجي) التي غنى مطرب المقام الشهير يوسف عمر (في جلسة خاصة) أبياتاً منها فذاعت واشتهرت وإن كان مغنيها لم يعلم بتسجيلها في غفلة منه، فكان الذي كان وسمعها الكثيرون ودارت على كل شفة ولسان.
لا تعتبر قصيدة “داوود اللمبجي” بالقصيدة ‘البذيئة’ كما قد يتصور البعض لدى قراءتها للمرة الأولى، وإنما هي صورة اجتماعية دقيقة وساخرة لطبقة في مجتمع بغداد مارست أرذل وأقدم مهنة في التأريخ خلال النصف الأول من القرن الماضي في محلة الميدان ببغداد، والتي لصقت بها وبمحلة الصابونجية الملاصقة لها صفة الدعارة وذلك بسبب وجود المبغى العام فيها، والذي هدم في خمسينيات القرن الماضي، وبقيت صفة “الميدنلي”، وحتى اليوم، تطلق على كل قليل أدب وسيء أخلاق.

قصة القصيدة هي أن الملا الكرخي كان في أحد الأيام جالساً في قهوة مجاورة لمحلة الميدان وإذا بجنازة تخرج من المبغى العام تتبعها جوقة من المومسات الباكيات النادبات. تملك الفضول شاعرنا الكرخي فسأل عن الفقيد فقيل له بأنه داود اللمبجي، المسئول عن مهنتين في محلة الميدان، هما إيقاد مصابيح الشارع (اللمبات) النفطية لإنارتها ليلا، وهي مهنة كان يمارسها العديد من سكان بغداد لقاء أجر من دائرة البلدية ومنها أتى لقبه (اللمبجي) ، ومهنة أخرى يمارسها نهاراً وليلا وهي (القيادة) في محلة الميدان التي وجد فيها المبغى العام كما أسلفنا. هزّ المنظر الملا الكرخي وجلس يكتب ما أوحى له المنظر ومخيلته من وقائع فخرجت قصيدته (داود اللمبجي) التي ذاعت واشتهرت بصورة لم يسبق لها نظير رغم عدم نشرها في جريدة أو مجلة ولكنها دارت شفاهاً بين الناس حتى رسخت في الموروث الشعبي البغدادي ونشرت للمرة الأولى في ديوان الكرخي الموسوم (ديوان الأدب المكشوف) الذي ضم غرر قصائده في هذا النوع من الأدب، وطبعت منه نسخ معدودة في منتصف القرن الماضي ببيروت ولم يتداول بين الناس إلا نادراً جداً حتى ظهرت منه نسخة كاملة جرى تصويرها بطريقة الاستنساخ وبيعت بسعر زهيد خلال تسعينيات القرن الماضي في بغداد.

ليست القصيدة المنشورة في الديوان المذكور بالكاملة حيث لم تضم كامل الأبيات التي غناها الفنان يوسف عمر وكذلك الأبيات التي وردت في موسوعة الكنايات العامة البغدادية للمحامي عبود الشالجي. انتهت رسالة الإنترنت.

الأطرف في الموضوع أن بغداديا طريفا، ومجهول الهوية، حتى ساعة كتابة هذا المقال، قام بجمع الشتات المذكور في قصيدة واحدة متكاملة وقام بشرح كل بيت منها، لغير الناطقين باللهجة العراقية، والبغدادية بالذات، ولا يجب أن تظن الظنون بالقصيدة وفحواها، فهي جميلة ومرآة لعصرها ولشاعرها البغدادي الكبير.

النص والشرح موجودان لدينا لمن يود الحصول على نسخة منهما.

tasamou7@yahoo.com

* كاتب كويتي

8 تعليقات
Newest
Oldest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
محمد العلي
محمد العلي
12 سنوات

داود اللمبجي
جميل جدا ورائع وارجو اذا تكرمت موافاتي بالنص مع كامل شكري واحترامي لكم

محمد مانع غانم
محمد مانع غانم
15 سنوات

داود اللمبجي
بعد التحيه والسلام نشكر كل الجهود الجباره والمميزه لهذه الصفحه الالكترونيه وشكرا علي هذا المقال الممتع حقا وارجو ملاحظه ان الصوره للشخص اعلاه هيه للمرحوم المله عبود الكرخي الشاعر الشعبي العراقي المشهور, واني كفنان قد قمت برسم صوره لداوود اللمبجي بعد دراسه لهذه الحقبه والمواد المتعلقه بها واحب ان اعرض هذه اللوحات علي قرائكم الكرام اذا سمحتم وشكرا
اخوكم محمد مانع غانم
رسام عراقي من لوس انجلس

عبد الرحمن الدليمي
عبد الرحمن الدليمي
15 سنوات

داود اللمبجي
شكرا لهذا الايضاح الجميل ونتمنى ان تصلنا القصيدة كاملة

haidar
haidar
15 سنوات

داود اللمبجي
الرجاء النص

وشكرا على الموضوع

وسام
وسام
15 سنوات

داود اللمبجي
رجاءا النص مع الشكر

وليد
وليد
16 سنوات

داود اللمبجي
أليس من الأفضل ان تنشر الشفاف نصّ القصيدة وشرحها لمن يجهل اللهجة العراقية؟ أن كانت القصيدة حسب تقييم مثقف معروف لا تمسّ المشاعر الطبيعية …

BOHAZIM
BOHAZIM
16 سنوات

داود اللمبجي
رجاء التكرم بموافاتى بنص القصيدة مع خالص الشكر

طالب
طالب
16 سنوات

داود اللمبجي
موضوع جميل وارجعتنا ياصراف50سنة الى الوراء الى الماضي الجميل شكرا على المقال لكن عندي التباس حصل لي !!ففي نفس الصفحة مقال لنفس الاسم احمد الصراف العنوان(محامي الشيطان)في اخر المقال كاتب كويتي فهل الكاتبان مختلفان ام هما واحد؟انا اعرف انه يوجد في الكاظمية هذا الاسم من عائلة الصراف انت مين فيهم ياترى؟؟

Share.

اكتشاف المزيد من Middle East Transparent

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading