قُتل 140 عراقيا في عمليتين انتحاريتين يوم الأحد الماضي. استهدفت العمليتان منشآت مدنية مثل وزارتي العدل والأشغال ومحافظة بغداد. هذا العدد مرشح للتصاعد بطبيعة الحال، طالما أن عدد الجرحى بلغ سبعمائة.
الحكومة العراقية اتهمت القاعدة والبعث والوهابيين والبعض من دول الجوار، بينما اتهم البعض من دول الجوار، ومن البعث، ميليشيات متصارعة داخل النظام، وحمّلها مسؤولية العمليتين، وعمليات أخرى شهدتها العاصمة ومدن أخرى في العراق.
مسلسل العمليات الانتحارية الطويل في العراق يثير أسئلة من نوع: هل يندرج هذا النوع من العمليات في باب المقاومة، أي مقاومة الاحتلال الأميركي، وإذا كان الأمر كذلك، كيف يُبرر قتل مدنيين، واستهداف منشآت مدنية، وهل يلحق الضرر الأكبر في حالات كهذه بالاحتلال أم بالمجتمع العراقي نفسه، وهل تقويض النظام القائم والحيلولة دون الاستقرار واستتباب الأمن يسهمان في تحرير العراق من الاحتلال، أم يغلقان الباب أمام الاستقرار والأمن إلى أمد غير معلوم. ثم، هل الغاية تبرر الوسيلة. إذا كان الأمر كذلك فما هي الغاية؟
ومع هذا قبله، وفوقه، وبعده: أليست لمن قتلوا يوم الأحد الماضي، ومَنْ جُرحوا وأصيبوا بإعاقات قد تكون دائمة، وتحوّلوا إلى مجرد أرقام، هوية شخصية؟ هؤلاء آباء وأمهات وأخوة وأخوات وأزواج وزوجات وأبناء وبنات لأشخاص آخرين، لهم تواريخ شخصية، وآمال وعلاقات اجتثت من جذورها لمجرد أن الحظ العاثر أخرجهم من بيوتهم وساقهم إلى أماكن عامة تحوّلت إلى حقول للقتل.
ثم، من هو الشخص الذي يضع حزاما ناسفا على خصره، أو يقود سيارة مفخخة، لقتل أكبر عدد ممكن من الناس. كيف يتحوّل الناس في نظر شخص كهذا إلى العدو بألف ولام تعريف كبيرتين، وما هي القناعات الأيديولوجية القادرة على تجريد شخص من مشاعر الشفقة والرحمة، ما هي الأفكار الكفيلة بتحويله إلى أداة للقتل أقرب إلى الحيوان الآدمي منه إلى بني البشر؟
فلنضع ذلك الحيوان الآدمي، وضحاياه جانبا. ولنصوّب أنظارنا إلى وجهة أخرى: إذا نظرنا إلى برامج الفضائيات الحوارية، وأخبار الجرائد، وتعليقات المعلّقين في العالم العربي، سنجد تحليلات وتحيّزات في هذا الاتجاه أو ذاك ومرافعات سياسية بشأن ما حدث في بغداد يوم الأحد الماضي، لكننا لن نجد ما ينم عن قلق أو اهتمام خاص بالتداعيات الأخلاقية والإنسانية والاجتماعية للعمليتين الانتحاريتين. ويصعب في الواقع العثور على قلق أو اهتمام بهذا الجانب في وسائل الإعلام العربية على مدار سنوات أصبحت طويلة الآن. فالقتل بهذه الطريقة أصبح روتينيا إلى حد أنه لا يستدعي أكثر من تعليقات تقتصر على الشأن الجاري والسياسة اليومية.
في المقابل، قامت الدنيا بسبب تقرير غولدستون، فخرجت مظاهرات، وهاجت حناجر على شاشات الفضائيات، وانتشت على صفحات الجرائد والمواقع الإلكترونية أقلام، رغم أن دلالة حقول القتل في العراق أهم بالنسبة للعالم العربي، وسلامته السياسية والأخلاقية والاجتماعية، من أخطاء السلطة الفلسطينية.
لماذا لا تخرج مظاهرات في العالم العربي ضد الموت المجاني الأسود في العراق، ولماذا لا يكرّس العرب جزءا من صحافتهم وفضائياتهم ومواقعهم الإلكترونية وجامعاتهم للكلام عن دلالة حقول القتل العراقية، ولماذا لا يغضبون من الداعين إلى عمليات القتل والقائمين عليها، ولماذا لا يقذفونهم بالأحذية؟
لأن لا قيمة للإنسان. بكلام آخر لا وجود لنـزعة إنسانية، أو ما يمكن اختزاله في تعبير الضمير المدني، في الثقافة العربية. وهذا ما يتجلى بشكل خاص وفادح وفاضح لدى أصحاب ثقافة الممانعة من “مفكري الفضائيات”، الذين يمكن التعرّف على غياب النـزعة الإنسانية في خطابهم:
أولا، عندما يفشل الحس العملي في التوّسط بين الغاية والوسيلة، فإذا بكل حامل بندقية، أو صانع عبّوة، صاحب سعي مشكور وذنب مغفور، لمجرد أنه يريد قتال الأميركيين والإسرائيليين، حتى وإن ألحق ببني جلدته من الضرر أكثر مما ألحق بالأميركيين والإسرائيليين.
ثانيا، عندما يتوارى الضمير المدني لتحقيق الفصل بين الغاية والوسيلة. فإذا كانت غاية سوريا انتزاع الاعتراف بدورها الإقليمي، وإرغام الآخرين على التفاوض معها، لا بأس من تسهيل وصول الانتحاريين إلى العراق. وإذا كانت غاية حماس انتزاع الاعتراف بدورها في المعادلة الفلسطينية لا بأس من تحويل مليون ونصف المليون من بني البشر إلى رهائن.
ثالثا، عندما يتضافر فشل الحس العملي وغياب الضمير المدني في سياق عملية تقود في المحصلة النهائية إلى طرد المرجعية والقياس كأدوات للحكم على الممارسة السياسية. كأن شعار الإسلام هو الحل كفيل بحل التناقضات، وتفسير التاريخ، وضمان الفوز، وكأن تاريخ العالم العربي قابل للاختزال في أعداء غاصبين، وحكّام فاسدين، ومُقاومين مجاهدين.
لكل هذه الأسباب لا تحظى حقول القتل في العراق بما تستحق من اهتمام. إن مقالة هنا أو هناك، ومراجعة هنا أو هناك لا تكفي لإقناع الانتحاريين بالكف عن القتل، لكنها تحول دون احتكار أبواق المقاومة والممانعة للحقيقة، حتى وإن جاء كسر الاحتكار من جانب أقلية من العاملين في الحقل الثقافي، لا تشتغل في خدمة الأنظمة القائمة، وفي الوقت نفسه لا تقبل الخضوع لابتزاز المجاهدين والمقاومين وخدمهم من “مفكري” الممانعة وقارعي طبولها في الفضائيات. ففي العراق، كما في فلسطين، ولبنان، واليمن، والصومال، الحقيقة دائما في مكان آخر.
Khaderhas1@hotmail.com
*كاتب فلسطيني- برلين
عن جريدة الأيام