مصر تسبقنا في كل شيء”.
هل تذكرون هذه العبارة؟
قالها لي محدثي في دمشق قبل نحو شهرين، وأنا رددت من بعده “في الخير والشر”.
وحديثي حينها كان عن علاقة الارتباط التي جمعت بين مصر وسوريا. جمعهما في القرن التاسع عشر احتلال مصر لسوريا، ومحاولة إبراهيم باشا إدخال إصلاحات اجتماعية تتعلق بأوضاع المواطنين السوريين من المسيحيين، وكانت محاولة شجاعة. بيد أن القرارات غير المدروسة التي تلاحقت من القاهرة بعد ذلك، ومنطق السُخرة، جعلت دمشق تعود عن ترددها، ثم تكسر صمتها، لتعلن رفضها للضيف، الذي أصبح ثقيلاً بعد نحو أربعين عاماً.
تلك علاقة الارتباط الأولى التي جمعت بين البلدين.
الثانية جمعتهما بعد نحو قرن. نعم بعد قرن. وكان فيها سبق، ثم كان فيها ندب.
والأهم، أنها أسست لدولة الحديد والنار في سوريا. الدولة الأمنية.
أما الثالثة، فلم تزد عن اتخاذ مصر، كما عادتها، موقف الريادة، لكنها على عكس نبضها التنويري في الثلاثينات من القرن الماضي، انكفأت في السبعينات والثمانينات، إلى يومنا هذا، لتتحول إلى قدوة مظلمة، القدوة في التأسلم الشعبي. تأسلم شعبي لا علاقة له بوجه مصر السمح الضاحك، بل تم عجنه بالفكر السلفي الوهابي، ليتجهم الوجه، وتغيب الإبتسامة، ويتحول الدين معه إلى “حالة غضب”.
وسوريا، كما نحن، من بعدها، ولو بعد حين.
الثانية إذن هي الجمهورية العربية المتحدة التي نشأت من اتحاد سوريا ومصر طوعاً عام 1958.
أول محاولة جدية لتحقيق حلم الوحدة العربية. لم يكن لها ان تتحقق لولا إيمان النخبة السورية السياسية بالفكرة. أمنوا بها إلى درجة أنهم وافقوا طوعاً على تقديم كراسيهم فداءاً لها. ومن الجميل ان تحلم. لكن الآسى كل الآسى ان ترى حلمك يولد ميتاً، لتستفيق عليه كابوساً.
ليعذرني اصدقائي من الناصريين والقوميين. فحديثي هنا ليس إصطياداً في الماء العكر. لكنه مجرد سرد موضوعي لواقع حدث. وما حدث أن الحلم لم يكتب له النجاح لأسباب عديدة لا مجال لسردها هنا. يكفي القول إن النخبة الناصرية في مصر تعاملت كعادتها مع اخوانها من “العرب” بقدر كبير من الصلافة والتغطرس، وأن دمشق استفاقت من جديد، لتعود عن صمتها، ولتعلن مرة اخرى رفضها للضيف، الذي اسمته ربا لبيتها، احتجاجاً على استبداده عليها بالرأي. فلم يكن من اللائق في رأيها أن تتحول الوحدة إلى احتلال.
حدث الطلاق إذن.
لكن المشكلة ان فترة السنتين وبضعة أشهر من الوحدة تركت بصماتها على دمشق.
أول قرار اتخذه الرئيس جمال عبد الناصر كان “إلغاء الحزبية بكافة اشكالها”. وهو قرار قتل براعم الليبرالية الديمقراطية البازغة منذ العشرينات في سوريا، براعم نبتت رغم حمى الإنقلابات التي أإصابتها.
كتمها، فتوقفت عن التنفس.
مثلها في ذلك براعم مصر، التي طمرتها الثورة المباركة.
وبعد صدور القرار اصبح تأسيس الجهاز الأمني بمؤسساته “المفزعة” الشغل الشاغل للنخبة الناصرية التي تولت إدارة البلاد في دمشق.
وبدلاً من براعم الليبرالية الديمقراطية، نبتت جذور الشمولية الإستبدادية. جذور بنى عليها النظام البعثي السوري بعد ذلك هيكل استبداده.
هذا لا يعني أني احمل مصر الناصرية مسؤولية كل المصائب التي حطت على رؤوسنا.
فهل ننسى أفضال السعودية الوهابية التي صدرتها إلينا، وتفريعاتها البن لادنية؟
كما أن فكرة القومية العربية لم تأت منها (أعني من مصر)، بل خرجت من رحمي سوريا ولبنان.
جاءت رداً على التطرف التركي، تماماً كما طفرت بدايات الإسلام السياسي كرد فعل على العلمانية التركية وإلغاء الخلافة العثمانية.
ولست ضد فكرة “العروبة” كثقافة، فأنا عربية بعد كوني إنسان. ولغتي هي أمي.
لكني أنفر من التجسيدات السياسية لهذه الفكرة، ناصرية كانت أو بعثية، وتحولاتها (اخشي أنه لا مفر من قول ذلك) الفاشية، وأعتبرها واحدة من أهم أسباب المأزق الذي نعيشه اليوم، خاصة عندما يقوم بتطبيق الفكرة مجموعة من العسكر، لم يفهموا من الفكرة سوى حروفها، لكن المعنى لم يفقهوه قط.
أضف إلى ذلك أن القومية العربية لم تأخذ من العلمانية إلا قشورها. لم تطبقها فعلاً. فلو فعلت ما تركت قوانين الأحوال الشخصية (تلك المتعلقة بالمرأة حتماً) تخضع لأحكام الشريعة. عمدت إلى تطوير كل قوانين مؤسساتها، ولم تجد ضيراً في ذلك، إلا عند العائلة والمرأة. وقفت أمامها، حدقت فيها، ثم هزت كتفها، ولسان حالها “علام وجع الرأس؟”. كلهم فعلوا ذلك، مصر الناصرية، والعراق البعثي، وخصمه الشقيق سوريا البعثية.
وأظنكم توافقوني على أن الكثير الكثير من واقعنا كان سيتغير لو أننا ركزنا على الدولة الوطنية في كل بلد عربي بعد استقلاله، أو نشأته، ثم وضعنا قواعد متينة لمؤسساتها، ثم طورنا من قوانينها وفقاً لمعايير مدنية تحترم الإنسان، ثم أسسنا لليبرالية ديمقراطية علمانية فيها. ووضعنا كل طاقة الصراخ فينا في العمل والتنمية.
كان الكثير سيتغير، لو أننا ركزنا بالفعل على الإنسان، وبنيناه كي يبني وطنه.
لكننا لم نفعل، ياللحسرة.
وبدلاً من أن نبني الوطن، زرعنا بذور الهزيمة، تلك التي نبتت في نفوس أجيالنا.
ومعها تركنا الساحة مفتوحة لطحالب التأسلم الشعبي.
نهرب من الهزيمة إلى غيبوبة، نسميها جهلاً ديناً.
وسوريا كغيرها من الدول العربية دخلت في دوامة هذه الغيبوبة.
سوريا كغيرها من الدول العربية لحقت بركاب مصر في تأسلمها الشعبي.
سوريا كغيرها من الدول العربية لجأت إلى الدين كسلاح سياسي، أظنه سيرتد إلى صدر نخبتها لو لم تستفيق.
لكن هذا موضوع شائك، أعود إليه في مرة مقبلة، وحتى ذاك الحين كل رمضان وقلوبكم عامرة بالمحبة والأمل.
elham.thomas@hispeed.ch
جثة طافية 5بمقالك الرائع قد وضعت يدك على الجرح فديكتاتورية سلطوية أفرزت ديكتانورية وحشية من نوع اخر وهي الدينية حيث تمتلك السيف والقلم لاباحة دم هذا وقتل ذاك ، ولقد ذكرت في مقالك بان وضع كل اللوم والعتب على مصر الناصرية هو الظلم بعينه فهناك عوامل اخرى ادت الى نتائج ماساوية وكارثية قد أشرت اليها في مقالتك ، فمصر الناصرية رغم سلبياتها فهي التي انجزت قانون تحرير المرأة ومنح لها الحق في الانتخاب والعمل والترشيح وتولي مناصب في “البرلمان” والوزارة والقضاء ، ولو ان تلك الانجازات تحققت في مناخ ديمقراطي ليبرالي تعددي مؤسساتي مع تحقيق تنمية شاملة مستمرة وبناء الانسان… قراءة المزيد ..
مشكلة مثقفينا 5مشكلة مثقفينا ، أن وعيهم بذواتهم وبالآخر قد تشكل في ظل مصادر أحادية للمعرفة فرضتها موازين القوة في اللحظة التاريخية الراهنة ، وقد نشأت أجيالا عديدة من نخبنا الثقافية وهي مبهورة بثقافة الآخرين وحضارتهم وهاهي كتابات مثقفينا تفضح إحساسهم بالأنسحاق والدونية ، محاولين عبثا أن يكونوا مقبولين لدى ثقافة القوة المسيطرة ، كونهم ينتمون الى حضارة والى جماعة دينية إقتضت الظروف الدولية ، أن تجعل منها ” عدوة ” ولو رغم أنفها ، رغم أنها – ومنذ ثلاثة قرون – كانت في موقع الفريسة التي تنهشها السباع من كل جانب. ولو كان مثقفونا منصفون ، وواعون بذاتهم الجماعية… قراءة المزيد ..