لا يمكن معالجة ازمة السوريين في لبنان من دون قرار وطني ياخذ في الاعتبار الوضع الاقليمي وتطوراته بديلا من الكلام السطحي عن خطر التوطين المثير للشفقة.
الشفقة هنا، هي على قسم من المسيحيين في لبنان الذين لم يستوعبوا يوما لا المعادلات الداخلية ولا المعادلات الاقليمية. هذا الخطر، خطر التوطين، تتذرع به فئات مسيحية بين حين وآخر كاشفة عجزها عن فهم ما يدور على الارض، ان في لبنان وان في محيطه القريب والبعيد. لدى هذه الفئة، هدف وحيد هو اثارة الغرائز واستجلاب العطف. فالكلام عن التوطين سهل جدا، ويظل كلاما بكلام، تماما مثل الكلام عن “حقوق المسيحيين” واستعادة هذه الحقوق.
يبقى الصعب الاعتراف بان في الامكان دائما معالجة خطر التوطين، كذلك التهديد الذي تتعرض له حقوق المسيحيين، وانما من زاوية خطر التوطين على لبنان واللبنانيين عموما وحقوق كلّ المواطنين اللبنانيين بغض النظر عن طائفتهم ومذهبهم والمنطقة التي يقيمون فيها. اكثر من ذلك، المهمّ في المرحلة الراهنة استيعاب ان السوريين لا يريدون الاستيطان في لبنان، بل انّ امام لبنان فرصة كبيرة للاستفادة من مرحلة اعادة بناء سوريا بعد رحيل النظام فيها ورئيسه.
هذا ما تحاول المنظمات الدولية افهامه الى كلّ من يعنيه الامر بدل اضاعة الفرص المتاحة. لعلّ افضل ما يستطيع لبنان عمله هو التعلّم من الاردن. هناك قيادة اردنية تعي تماما دقّة المرحلة، وتعي خصوصا ان وجود اللاجئين السوريين فرصة للحصول على مساعدات كبيرة ثمنا لما يتكبده البلد جراء النزوح السوري.
يدلّ ما لجأ اليه وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل، الذي قاطع زيارة الامين العام للامم المتحدة بان كي مون، على وجود من يبحث عن بطولات وهمية في زمن يمكن ان تكلّف مثل هذه الممارسات لبنان واللبنانين، خصوصا المسيحيين، الكثير.
جاء كلام وزير الخارجية، وهو كلام ذو طابع عنصري، في وقت يفترض في الحكومة اللبنانية البحث الجدي في قضية الوجود السوري في البلد، الذي يمكن ان يشكّل ازمة حقيقية ذات ابعاد في في المدى البعيد. هذا البحث الجدي بديل من الهرب الى الشعارات الشعبوية التي تغطي على واقع متمثل في انّ العمل من اجل معالجة قضية كبيرة في حجم الوجود السوري في لبنان، لا يكون الّا عبر المؤسسات اللبنانية المعطّلة، في مقدّمها مؤسسة رئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء.
هناك عشرات المشاريع الجاهزة لسوريا ما بعد سقوط نظام الاسد. يمكن للبنان ان يكون منطلقا لهذه المشاريع التي تصبّ في اعادة اعمار سوريا. فسوريا التي عرفناها انتهت. هناك تطورات تتسارع في اتجاه الحل السياسي. الدليل على ذلك، صمود وقف النار، رغم بعض الخروقات، والمسرحية الاخيرة التي جرت في تدمر… واعلان بشّار الاسد عن قبوله اجراء انتخابات رئاسية مبكرة، اي قبوله الرحيل.
ما يمكن ان يساعد لبنان في هذه المرحلة، اضافة بالطبع الى انتخاب رئيس للجمهورية على وجه السرعة كي ينتظم عمل المؤسسات قدر الامكان طبعا، ايجاد مشروع وطني جامع تجاه سوريا والسوريين. هناك ترابط بين الاقتصادين اللبناني والسوري. هذا الترابط يسمح للبنان في ظل وجود النازحين السوريين في اراضيه بلعب دور اساسي في عملية اعادة اعمار سوريا. على سبيل المثال وليس الحصر، هناك مشروع يستهدف تدريب السوريين على بناء منازل طينية عن طريق استخدام المواد الموجودة في اراضيهم. هؤلاء يمكن ان يتدرّبوا في لبنان تمهيدا لاقامة الوحدات السكنية في سوريا. هل السماح لهؤلاء بتعلّم كيفية استخدام المواد التي في ارضهم توطين؟
آن اوان خروج اللبنانيين، خصوصا المسيحيين من عقدة التوطين. لا يوجد سوري يريد الاستيطان في لبنان. حتّى الذين كانت لديهم مبالغ كبيرة من المال، رفضوا البقاء في لبنان. ذهبوا الى دبيّ وغير دبيّ بسبب غياب الرؤية لدى اللبنانيين. هؤلاء لم يدركوا ان لبنان كان المستفيد الاوّل في ستينات القرن الماضي وسبعيناته من خروج العقول والرساميل من سوريا بفضل السياسات التي مارسها البعث وقبله النظام الامني الذي جاءت به الوحدة مع مصر بين 1958 و 1961.
ساهم السوريون في نمو الصناعة اللبنانية وفي المجال العقاري وفي القطاع المصرفي. هناك احياء عدة في بيروت وراءها سوريون، من فردان… الى بدارو.
اذا كان هناك من يريد تهجير المسيحي من لبنان، فانّ من يريد ذلك هو بعض المسيحيين من ذوي التفكير الضيّق الذي لا يسمح بفهم ما يدور في المنطقة. مثل هذا التفكير الضيّق كان من عمّم كذبة كبيرة من نوع ان المبعوث الاميركي دين براون جاء الى لبنان اواخر العام 1975 لتهجير المسيحيين وتوطين الفلسطينيين.
في الواقع، لم يأت دين براون الى لبنان لعمل شيء باستثناء شراء الوقت لهنري كيسينجر كي يمنع اندلاع حرب اقليمية بسبب الوجود المسلّح الفلسطيني في لبنان.
وجد كيسينجر اخيرا الحل بعدما اقنع الاسرائيليين بالسماح للجيش السوري بدخول لبنان و”وضع يده على مسلحي منظمة التحرير الفلسطينية”. اسوأ ما في الامر ان اسرائيل اشترطت في نهاية المطاف بقاء المسلّحين الفلسطينيين في جنوب لبنان كونها تريد “الاشتباك معهم بين حين وآخر”. بقيت هذه الرغبة الاسرائيلية بعد خروج المسلحين الفلسطينيين من جنوب لبنان وحلول عناصر “حزب الله” مكانهم وصولا الى ما وصل اليه الوضع القائم حاليا بفضل القرار 1701 الصادر عن مجلس الامن قبل عشر سنوات تقريبا.
كان حافظ الاسد وراء هذه الخطة الجهنمية. كان يشعل الحريق بين المسيحيين والفلسطينيين وبين المسيحيين والمسلمين في لبنان، ثمّ يلعب دور الاطفائي. اراد بذلك السيطرة على لبنان مستخدما المسيحيين والمسلمين والفلسطينيين وقودا.
من لم يستوعب هذه الحقيقة بين المسيحيين، لا يزال قاصرا. لا يزال تفكيره في مكان آخر، لا يزال اسير الغرائز من جهة والعجز عن مواجهة الواقع من جهة اخرى. يتمثّل هذا الواقع في ان اكبر عدد من المسيحيين هاجر من لبنان نتيجة حربي “التحرير” و”الالغاء” اللتين خاضهما ميشال عون مع المسلمين والمسيحيين الآخرين عندما كان في قصر بعبدا بين 1988 و 1990 وان اكبر عدد من المسيحيين عاد الى لبنان، عندما بدأت الحياة تعود الى بيروت ابتداء من العام 1992 وحتى العام 2005. فالوجود المسيحي مرتبط الى حدّ كبير بالازدهار الاقتصادي للبنان والهجرة مرتبطة بنشر البؤس في الوطن الصغير.
الدليل على ذلك، موجة الهجرة الجديدة للشباب المسيحي بعد الاعتصام الذي قام به “حزب الله” وسط بيروت طول السنة 2007 بهدف قطع الارزاق وتدمير الاقتصاد الوطني. هذه الموجة مستمرّة الى اليوم كون هناك من يريد عزل لبنان عن محيطه العربي وتوريطه في الحرب التي يتعرّض لها الشعب السوري.
متى يخرج المسيحيون اللبنانيون من عقدة التوطين؟ الحاجة اكثر من اي وقت الى جعلهم يستوعبون انّ اقتصاد لبنان مرتبط بالوضع السوري وانّ اعادة اعمار سوريا فرصة لهم، خصوصا اذا توفّر من يشرح لهم اهمّية وجود مشروع وطني، عابر للطوائف، يتعاطى مع اعادة بناء سوريا، وهي فرصة قد لا تتكرر، وقد لا تسنح امامهم قريبا.