بعد أكثر من مئة يوم في رئاسة حزب العمل خلفاً لعمير بيرتس، وبعد شهرين في وزارة الدفاع، يتساءل الكثير من الساسة والمعلقين السياسيين والاستراتيجيين في إسرائيل: هل إهود براك، هذا، هو زعيم اليسار؟
إن براك الذي عاد إلى رئاسة حزب العمل، بعد “عمل” عدة سنوات في البزنس وجمع أكثر من 25 مليون دولار يبدو مختلفاً (للأسوأ!) عن براك القديم. إنه يخطط، بشكل منهجي، ليكون في نظر الشعب الإسرائيلي، حربجياً، عسكرياً، متصلباً في التعامل مع الفلسطينيين ومع العالم العربي. وهناك مَن يحرص على الهمس للشعب الإسرائيلي أن عمير بيرتس لم يكن عسكرياً، ولذلك “أكلناها” في حرب لبنان الثانية، أما إهود براك فسوف “ينتقم” للجيش الإسرائيلي المهان!!
والحقيقة أن براك يبدو يمينياً ليس في موقفه العسكري،فقط، بل في مواقفه السياسية والاجتماعية، أيضاً. ويبدو يمينياً. “ينافس” نتنياهو، في الموقف من الشعب الفلسطيني ومستقبل الحل مع الشعب الفلسطيني.
براك، عندما كان رئيساً للحكومة كان مستعداً للانسحاب من “أكثر من 90 بالمئة من المناطق الفلسطينية” وكان مستعداً لإعادة القدس العربية إلى السلطة الفلسطينية، كما كان مستعداً لإعادة كل الجولان لسورية. يُسْأل السؤال: إذن لماذا تغير براك؟
والمتابع للسياسة الإسرائيلية الداخلية يدرك بوضوح، أن براك هو “تابع” إلى حد كبير للخبراء الإعلاميين الذين يدرسون “حالة الطقس” عند الرأي العام ويقدمون “النصائح” لبراك، طبقاً لذلك. “الشعب لا يثق بالفلسطينيين”، “أبو مازن ليس قادراً”، هكذا يقول “الخبراء” لبراك، وهو، حتى يربح يكيِّف نفسه لهذا المزاج المزعوم في الرأي العام الإسرائيلي.
من ناحية ثانية براك يعرف من يجلس آمراً ناهياً، في البيت الأبيض الأمريكي. عندما كان كلينتون زعيم أمريكا كان وضع، والآن هناك “وضع آخر تماماً”. فالإدارة الأمريكية الحالية لا تحترم الزعامات العربية بل تحتقرها وتهينها علناً. وقد سمعنا، عدة مرات، السيدة كوندليسا رايس تعنِّف الرئيس المصري على “الديمقراطية الناقصة والمشوهة” وتهاجم النظام السعودي وتهاجم دول الخليج، بالإضافة إلى الهجوم الحاد ضد الأنظمة “الجمهورية”، “الثورية”، من أمثال النظام السوري والنظام الليبي.
الإدارة الأمريكية تتميز حالياً بالغطرسة، بالنهج الذي يعتمد على القوة ويعتقد أن القوة هي المفتاح والأداة للتعامل مع الأنظمة “المتطرفة”. وإسرائيل، سواء كان قائدها أولمرت أو نتنياهو أو براك، عليها أن “تنسجم” و”تتكيَّف” مع السياسة الأمريكية. ويقال إن براك كان لشهور غير قليلة مستشاراً في “معاهد استراتيجية” في أمريكا ولا نعرف إذا كان هناك “مُعَلِماً” أم “تلميذا”. أغلب الظن أن براك خلال علاقاته مع نُخَب الإدارة الأمريكية في العامين الماضيين رضع من حليب “المحافظين الجدد”، بقيادة بوش، الذين يحملون أفكاراً معادية للشرق وللإسلام، ويقولون بضرورة سياسة “القبضة القوية”.
براك يقلل من التصريحات بشكل حاد، منذ دخل وزارة الدفاع، ويحاول مستشاروه الإعلاميون إعطاءه صورة “الرجل الذي يعمل كثيراً ويتكلم قليلاً”، وبراك الآن مسكون بالحلم الهستيري أن يعود الشعب الإسرائيلي لينظر إليه بصفته “السيد سيكيورتي”.
إن براك يصل بهذا النهج إلى حد أنه يبدو على يمين أولمرت. ويبدو متنافساً مع نتنياهو في “القبضنة” مقابل الفلسطينيين ومقابل العالم العربي كله.
ليس سراً أن براك هو يميني جداً على الصعيد الاجتماعي، إنه نتاج أميريكي تماماً، في المجال الاجتماعي أيضاً. ولذلك منذ صعد إلى رئاسة حزب العمل ومنذ صار الشخص الثاني في الحكومة لم يعط تصريحاً واحداً يدل أنه “عمالي” أو “يساري” أو حتى “اجتماعي”!
العمل، بقيادة براك حالياً، هو حزب البيروقراطية العسكرية العليا، مسكون بالحنين إلى العودة للمغامرات العسكرية “المفاجئة”. وهذا يبرز في التهديدات بعملية عسكرية “شاملة جداً” ضد قطاع غزة الذي سيطرت عليه ميليشيات حماس، كما أن العملية في سورية تعكس عقلية براك أكثر مما تعكس عقلية أولمرت.
يجب قول الحقيقة، مهما تكن مُرّة: إن سقوط التضامن العربي والعجز عن استخدام القوة السياسية والاقتصادية والنفطية والاستراتيجية للعالم العربي، يجعل الولايات المتحدة وأعوانها”الكبار” و”الصغار” لا يحسبون حساباً للعالم العربي. وعندها لا تكون حدود للشره الاستعماري الغربي من ناحية، وللطمع الكولونيالي الإسرائيلي بنهب أكثر ما يمكن من الأراضي الفلسطينية والاضطلاع بدور الوكيل الرئيسي للسياسة الأمريكية في الشرق العربي. وبراك، الذي لديه “عقدة نابليون”، كما كتبت الصحف عدة مرات، يحلم بهذا الدور، وليس بأي دور “يساري”.
وكل هذا يجعلنا غير متفائلين من التطورات المقبلة، خلال تخندق براك في وزارة الدفاع الإسرائيلية.
salim_jubran@yahoo.com
* الناصرة