مراسلة “لوموند”- شارلوت بوزونيه
لم يكن يضاهي نفوذَه سوى تخفّيه، فلم تّنشّر له سوى صور نادرة تعود إلى سنوات التسعينات. ولكن جريدة ”النهار” الجزائرية نشرت أمس الأحد صورة له يظهر فيه ببدلة وكرافات ويضع نظارة شمس تخفي عينيه. وبعد ساعات جاء الخبر الصاعق: أن الجنرال ”محمد الأمين مدين”، الملقب ”توفيق”، الرئيس المخيف للإستخبارات الجزائرية (دائرة الإستعلام والأمن (بالفرنسية: Département du Renseignement et de la Sécurité) سيغادر منصبه.
وجاء إعلان عزل ”توفيق” في بيان صادر عن رئاسة الجمهورية جاء فيه أن ”بيان رئاسة الجمهورية أنه “طبقا للتدابير المتعلقة بالمادة 77 لاسيما الفقرة 1، والمادة 78 الفقرة 2 من الدستور، وضع الرئيس عبد العزيز بوتفليقة رئيس الجمهورية وزير الدفاع الوطني، حدا في هذا اليوم لمهام قائد مديرية الأمن والاستعلام الفريق محمد مدين المحال على التقاعد”.
وأبرز بيان الرئاسة أن “رئيس الجمهورية عين السيد عثمان طرطاڤ قائدا لمديرية الأمن والاستعلام”. وختم البيان أن “السيد عثمان طرطاڤ اللواء المتقاعد، كان إلى غاية هذا اليوم (أمس) مستشارا لدى رئاسة الجمهورية. ومن قبل، تقلد عدة مسؤوليات عليا في مصالح الأمن والاستعلام”.
إن الجنرال ”توفيق” هو من مواليد ١٩٣٩، وكان آخر الجنرالات ”الينايريين” (نسبةً إلى شهر يناير/كانون الثاني)، أي الجنرالات الذين فرضوا إيقاف العملية الإنتخابية في العام ١٩٩١، مما تسبّب بحرب أهلية دامت ١٠ سنوات.
وكان الجنرال، الذي أطلق عليه البعض تسمية “رب الجزائر” يدير جهاز المخابرات منذ ٢٥ سنة.
وكان لخبر إعفائه دوي كبير في بلدٍ تشكل فيه ”مديرية الأمن والإستعلام” ما يشبه ”دولةً في الدولة”. وذلك مع أن خبر رحيله كان متوقّعاً بعد سنتين تعرّض خلالهما جهاز المخابرات لتغييرات أساسية انطلاقاً من خلفية المناورات المستمرة حول خلافة الرئيس بوتفليقة، الذي انتُخب لولاية رابعة في العام ٢٠١٤ مع أنه يعاني من فالج منذ العام ٢٠١٣.
ففي ديسمبر ٢٠١٣، فقدت ”مديرية الأمن والإستعلام” بعضاً من صلاحياتها المتعلقة بالتحقيقات القضائية. وقبل ذلك، كانت تلك المديرية قد بادرت إلى القيام بتحقيقات حول قضايا الفساد التي تورّط مقرّبون من رئيس الجمهورية، وبصورة خاصة وزير النفط السابق ”شكيب خليل”.
وعشية الإنتخابات الرئاسية في سنة ٢٠١٤، تعرّض ”توفيق” لهجوم غير مسبوق من السكرتير العام لحزب ”جبهة التحرير الوطني” عمار السعدني الذي أعلن أن ”هذه المديرية قد أخلّت بأمن الرئيس محمد بوضياف (الذي تم اغتياله في سنة ١٩٩٢). ولم توفّر الحماية لعبد الحق بن حمودة (السكرتير العام للإتحاد العام للشغل، الذي توفي في ١٩٩٧)، ولا لرهبان تبيرين (الذين قتلوا في سنة ١٩٩٦)، ولا لقواعد النفط في الجنوب، ولا لموظفي الأمم المتحدة في الجزائر، ولا لقصر الحكومة (الذي تعرّض لاعتداءات ، إرهابية)”، وأنهى كلامه بأنه “كان ينبغي على توفيق أن يستقبل بعد كل تلك الإخفاقات”.
تحضيرات لما بعد بوتفليقة
وأخيراً، شهدت الأشهر الماضية تغييرات مهمة في القيادة العسكرية الجزائرية، أبرزها استبدال قائد “مكافحة التجسّس” ومدير الأمن الرئاسي. وفي آخر شهر أغسطس، تم اعتقال قائد “مكافحة التجسس” السابق، الجنرال حسن، وإيداعه السجن العسكري في “بليدة” قرب العاصمة.
إن العديد من المراقبين يرون في إحالة الجنرال مدين إلى التقاعد ذروة مشروع إضعاف جهاز المخايرات الذي بدأه الرئيس بوتفليقة وحاشيته، ورئيس أركان الجيش، الجنرال أحمد قايد صلاح، بهدف الحد من نفوذ “الأجهزة” في عملية الخلافة.
“حكاية” اخترعتها الشرطة السياسية!
وبالعكس، يعتقد ساهم أن ما جرى هو إثبات جديد لقوة جهاز المخابرات. ويقول “محمد هاشماوي”، الباحث الذي يعمل في فرنسا، أن “توفيق هو الذي أعدّ خروجه على هذا النحو. إنه الفصل الأخير في عملية إعادة تنظيم الجهاز التي ابتدأت في سبتمبر ٢٠١٣، والتي كانت “حكاية” نسجت خطوطها الشرطة السياسية. والمقصود منها هو خلط الأوراق وخلق وهم بأن جهاز المخابرات لم يعد يحكم الجزائر”!
ويضيف أنه “من منظور الخلافة، فإن جهاز المخابرات يحرص بشدّة على ألا يظهر في مقدمة الصفوف، حتى لا يتعرض للإنتقادات وللنقمة الشعبية. لقد استفاد جهاز المخابرات من تجربة الثورات العربية”.
ويقول “أدلين ميدي” مدير تحرير “الوطن ويك إند” إنه “نظراً لدرجة غموض النظام، فإن عدة فرضيات تتواجه. فإذا كان عزل مدين يعبّر عن رغبة بوتفليقة في تفكيك جهاز المخابرات، فلماذا تعايشَ مع “توفيق” لمدة ١٥ سنة؟ ولماذا يقيله في نهاية عهده؟ من جهة أخرى، ينبغي ملاحظة أن “توفيق” كان قد أسرّ للمحيطين به أنه لن يترك جهاز المخابرات، الذي خلقه بنفسه، لأي شخص غيره! وهذا ما يفسّر عملية تفكيك الجهاز (التي بدأت منذ سنتين).
ويضيف الصحفي: “في نظام طبيعي، يمكننا القول أن السلطة المدنية ترغب في إضعاف السلطة العسكرية، ولكن السلطة المدنية في الجزائر بحاجة إلى جهاز القمع، وهي تدرك ذلك جيداً”.
هذا وأعلنت رئاسة الجمهورية الجزائرية يوم الأحد أن الجنرال “عثمان طرطاق”، الملقّب “بشير”، سيحلّ محل “توفيق”. ويملك القائد الجديد سمعة مخيفة في مكافحة التمرد الإسلامي فيالتسعينات، وسبق له أن تولى منصب نائب مدير جهاز المخابرات!
فيديو نشرته “الشروق” الجزائرية بعد إقالة “توفيق:
إقرأ أيضاً:
كيف يطهّر بوتفليقة “الأجهزة” التابعة لـ”ربّ الجزائر”، توفيق “مدين”؟
قاصدي مرباح ce n’est pas