الإنسان متفلسفاً، كائنٌ يتخلّق جديداً، كلّما وجد ذاته، وفي كلّ مرَّةٍ حين يجدها، يستطيع أنْ يكتشفها جديداً. لأنّه يتحرك دائماً في اتجاه ذاته المفكّرة والناقدة والمتطلّعة للخَلق والتجديد والتنوّر، ويريد أنْ يجدها. لأنّها تحديداً وحدها التي تستطيع أنْ تخبره بما عليهِ أنْ يكون عليه.
إنّها مساحته الحرَّة التي يتهادى فيها خَلقاً جديداً، وفكراً وتطلّعاً، وهي خارطته نحو المزيد من اكتشاف مساحات التجديد في تفكّراته وتفلسفاته. إنّه يستلهمُ من ذاته هذهِ، مهارة التحديق والتواصل والكشف في كلّ تنوّعاتها وجوانبها وتحوّلاتها، ويكتشف في الوقتِ نفسه، قدرته على أنْ يملك حريّته التي من خلالها يستطيع أنْ يختار بوعيّ، كيف يعود إلى ذاته سعيداً بما أنجزه، من تقدمٍ وتجددٍ وتطوّرٍ. وإنّه يكتشف حريّته، لأنّه في كلّ مرَّةٍ يملكُ وعيّ الاختيار في ألاَّ يكونَ مقيّداً بالسائد والشائع والمتهالك، ويعرفُ أنّ الحريّة متى ما كانت وافرة في أعماقهِ، فلن تستطيع القيود هنا وهناك، أنْ تنالَ منه شيئاً. لأنّه في حريّتهِ هذهِ أصبح يملكُ القدرة على خلق مساحته الحرَّة الخاصَّة به، المساحة التي تعينه كثيراً على فهم رأيه الخاص وزمنه الخاص أيضاً، وفهم أسئلتهِ وتوجّساته وقلقه حتّى، وهي المساحة ذاتها التي تحصنه من شرور الانقياد والسذاجة والبلاهة والتكرار.
أنّه يقرر الذهابَ إلى أفكاره هنا وهناك. يذهبُ إليها حاسماً من دون تلكؤٍ أو تردد، ومستمتعاً في الوقتِ ذاته برحلته الشّاقة هذهِ، ويسير بها إلى تصميمه الخلاّق في الفهم والنقد والمتابعة. ففي معركة الأفكار، عادةً ما يخرجُ بأفكارٍ جديدة ومبتكرة، وينتصر فيها للعقل والتفكير. ولأنّه يجد في معركة الأفكار، انتصاراً للمنطق والمعرفة والتجربة، ويجد فيها أيضاً الكثير من جمال التلذذ بالتفكير والاستنتاج والتأويل والفهم. وفي عالم الأفكار هناك دائماً ثمّة خياراتٍ واحتمالاتٍ تدفعه باللجوء إليها، وبمجرد أنْ يمتلكَ الجرأة على المعرفة والفهم، يسعى إلى اجتراحها بمزيدٍ من التفتّح والتفكّر والتساؤل. ولذلك أصبح يعرفُ أنّ الإنسان عليهِ أنْ يبقى متفلسفاً، لأنّه في هذا البعد الذاتيّ من مساحتهِ الحرَّة، يملكُ خياره كاملاً في التفلسفِ، وخياره أيضاً في اللجوء إلى ما يجعله متسائلاً ومفكّراً. إنّه في كلّ هذا التخلّق الفكريّ والفلسفيّ، يعرف أنّ ما يريد أنْ يفهمه، لا ينتظر أنْ يجده في أوهام العقل الجمعيّ، بل يذهبُ إليه في تجارب قلقه وتفكيره وبحثه واحساسه وسؤاله.
في عقلهِ لا شيء ينتهي، هكذا تجري الأمور معه. فالأفكار في رأسهِ تدور دائماً، وتستمرُّ في حركةٍ لا تتوقّف، لأنّها تنزع دائماً نحو الشّك، ولأنّها تختبر نفسها في التجربة والنقد، ولأنّها تميل دوماً نحو التأمّل والتغيير، ولأنها تتطلّع نحو التفلسفِ والخَلق. وكلّ ذلك من شأنهِ أنْ يجعل عقله مفعماً بالحركة ولا شيء فيه ينتهي. يرتاد أقاصيه المشرعة على الاحتمال والتجربة والمعاني الخلاّقة. إنّه يمضي في عقله هنا وهناك، من دون أنْ يقع في مهالك التفسيرات الساذجة، والأفكار اليقينيّة والثقافات الغيبيّة. لأنّه اجتاز أشواطاً في الابتعاد عن ثقافة اليقينيّات الاستلابيّة، وليس وارداً في عقله أنْ يعود إليها، بعد أنْ نال حريّته العقليّة واستقلاليّته الفكريّة، وأنّه أصبح يحبّ وجوده الحرّ هذا في عقله وفكره.
والإنسان متفلسفاً، يُظهر توافقاً ملهماً مع ذاته التّواقة للتفكّر في كلّ ما يجعله قريباً من الحقيقة، وإنّه في هذا المنحى من الاشتغال الحر على كيانه المستقلّ، يرى أنّ التوافق مع ذاتهِ، هو مقدار ما يساوي توافقه مع الحقيقة، انجذاباً وانسجاماً وتخلّقاً. وقد يرى أيضاً في هذا التوافق، جانباً من حقيقة بعض الأشياء التي لم يكن يلتفتُ إليها من قبل، أو لم تكن في صميم انشغالاته التفكّريّة، من حيث أنّ الأشياء، كما هي أشياءٌ في ذاتها، تأتي مجرَّدة من التصوّرات والافهامات. ولذلك تحتاج منه إلى اكتشافها في سياقات تواصله الدائم مع الحقيقة، وبعيداً عن منطق التصوّرات السائدة. إنّه يتعقّبُ حقيقته هنا وهناك، كما لو إنّها بعيدةٌ وقريبةٌ منه في الآنِ نفسه، وكما لو إنّها غامضة وواضحة له في الحين نفسه، ويجد في هذا الأمر متعة فائقة في الاكتشاف والتبصَّر. وذلك لأنّ مقدار توافقه مع الحقيقة، هو مقدار ما في عقله من تفلسفٍ وتفكّرٍ وتساؤل.
وكم يحمل الإنسان المتفلسف، في عقله وفي شعورهِ من محبةٍ كبيرة للمعرفة، لأنها لا تشترط عليه اتجاهاً أو طريقاً، ولا تستبشع فيه وجوده أو خياره، بل تضعه حرَّاً أمام وجوده، مفكّراً ومتسائلاً ومبدعاً ومجترحاً. وليسَ أقسى عليه سوى أنْ يرى في الوجود من حوله صمتاً مريعاً، لا يستطيع أنْ يستنطقه في ارتجافات السؤال، لأنّه الوجود المريض بأعراض الترهل والتراجع والتكلّس والخوف، ولأنّه وحده الذي يستطيع التحديق والرؤية والسؤال. وأكثر الذين هُم من حوله مصابونَ بِالعمى والتشويش والخرس، إنّهم فقط يأتونَ من صخب الاستعراضات الفارغة، ومن خرائب الجهل والغباء، ومن تقرَّحات الماضويات الخائبة، إنّهم لا يزالون يرون في الإنسان ضعفاً واستسلاماً وخنوعاً واستصغاراً. بينما المتفلسف في وجوده وعقله وحريّته واختياراته، وفي معرفيّاتهِ وميراثه الإنسانيّ، يرى في الإنسان إبداعاً وتميّزاً وتفوقاً وفكراً وقدرةً وحضوراً خلاّقاً، لأنّه الإنسان الذي لا يتخلّف عن عصره، ولأنّه وافر الحركة والعطاء، ولأنّه خالق الفنون وصانع الأفكار.
إنّه يبتكر اختلافه بِأناقة العقل المتفكّر والمتواضع والواثق. فمَن يبتكر اختلافه، تتوفّر فيه في الوقتِ ذاته القدرةِ على ابتكار اختياره، لأنّه يستنطق وجوده وتفلسفاته في رحابة الاحتمال والتجربة والفكر، ودائماً ما يأتي وافراً بالتنوّع والاجتهاد والشك أيضاً، ووافراً بالتأمل والتفكّر. فالاختيار في حساباته يتوقّف دائماً على قدرتهِ في صناعة اختلافه، ولا يعني اختلافه نفياً أو نبذاً للآخر، إنمّا يجد فيه، زخماً معرفياً يتخلّقُ إبداعاً في ثقافة التنوّع والتعدد والتجدد والازدهار، ولا يرى في اختلافه خوفاً من الآخر، أو نفوراً أو توجّساً أو تحيّزاً، أو تصنّعاً أو فراغاً، أو هروباً من الواقع، أو حالةً من الضياع والتّشتت. وفي اختلافهِ لا يأتي مسكوناً بالتوحش، أو الأنانية أو القسوة، أو الرداءة أو البذاءة. ويرى أنّ في اختلافهِ قدرة على أنْ يفعل شيئاً يمنح به من خلاله قراره واختياره أصل وجوده وحريّته، ويمنح به أيضاً عقله كلّ معاني الخَلق والتفلسف والفهم. والأهم في رأيه أنْ يبقى قادراً على صناعة اختلافه وفقاً لوعيه في تعالقهِ مع الآخر إبداعاً وتنوّعاً وجمالاً وتفنّناً، وليس أنْ يرى فيه سعياً للوهم أو الزيف أو التقوقع أو الانغلاق.
وفي تفلسفاته دائماً ما يرى أنّ هناك ثمّة طريقة للحياة، لأنّ التفلسف في أهمّ تجلّياته إنّه يقوم على التجربة، وفي التجربة دائماً هناك مساحة من التأمّل والإبداع. وفي التأمّل الفلسفيّ كم يشعر بِالحياة تتدفّق في عقله، لأنّها تتهادى إليه حرَّةً طليقة في تفكيره وفي تبصُّراته. وكم يحبُّ شعوره هذا، لأنّ الحياة في عقله ملوّنة وتهتدي إلى أكثر من طريقة، ولكنها في النهاية لا تقف على الضّد من إنسانيّته، بل تتوافر فيها إنسانيّة عاقلة وخلاّقة، من حيث إنّها تتعالق جمالاً مع الأنساق المعرفيّة التي تُعلي من شأن الإنسان، عارفاً ومتفكّراً وناقداً وناطقاً وحرَّاً ومتسامحاً ومحبّاً. ويرى أنّ مَن يستطيع أنْ يصنع له في كلّ خطوةٍ، طريقاً إلى الحياة، لا يسقط في مصائد اليأس أو التراجع أو الانهيار، بل يشعر بِالسعادة، لأنّه في هذه الحالة يملكُ أنْ يمنح ذاته احساساً بالإبداع والتفنّن والخَلق.
وكم تشعر الذات المتفلسفة، بدفق الحياة والضوء والرحابة والالهام في أعماقها، وهيَ تملكُ وجودها بكامل كينونتها، تملكها شعوراً وفكراً وسؤالاً، في مواجهة الوهم والخوف والتردد. فلا شيءَ يجعلها ترتجف في مخاوفها سوى عجزها عن تحطيم أوهامها. ولذلك تتجاوز الوهم ارتكازاً على السؤال والتساؤل والنقد، وتتخطَّى الخوف تأسيساً على المعرفة والفهم والتفكّر، وتواجه السائد انطلاقاً من التفلسف والتبصَّر. ولا يعنيها سوى أنْ تبقى سائرة في دروبها هنا وهناك، تستمتع كثيراً بما تستطيع أنْ تجعله جميلاً ومعطاءً ورحباً وثريّاً في انشغالاتها الثقافية والمعرفية والإبداعية .
والجهد المعرفيّ الذي تبذله الذات المتفلسفة، إنّما هو في الأساس انعكاسٌ حقيقيّ للفهم، انطلاقاً من إرادتها الحرَّة والعقليّة. وهو الجهد الذي ترى إنّه ثمرة التعالقات الجميلة مع كلّ فعلٍ وفكرٍ إنسانيّ معطاء، يسمو بالعقل والشعور والإدراك إلى معارج الوعيّ والتنوّر والخَلق. فالإنسان في تفلسفاته، كائنٌ فكريّ وشعوريّ، يعاينُ بكثب تطوّراته وأفكاره هنا وهناك، ويهوى أنْ يفلسفَ الأشياء والوقائع ويمنطقها، ويمنحها تالياً حضوراً وسبباً ومعنىً ومبرراً وقبولاً حتّى. ولذلك دائماً ما يجد أنّ الذاكرة الإنسانيّة الفلسفية، إنّما هي ذاكرةٌ تتعاقب وتتراكم وتتواصل، وليس عليه سوى أنْ يتلمّس في كلّ هذه التموّجات المعرفية والفلسفية المتواصلة، طريقهُ نحو التغيير والتحوّل والتحديق والتفكّر. وحين يرى أنّه قد أصبح يملكُ مرتفعاً من الفهم والمعرفة، لا يكتفي بذلك أبداً. لأنّه يدركُ جيّداً حينها أنّ الأهم، أنْ يحصل من خلال ذلك على رؤيةٍ أجمل، وجرأةٍ أكثر، ونظرةٍ أعمق، وتفكيرٍ أوسع.
وتأسيساً على ما سبق، أجدني أقول: أنّ الإنسان أكثر من احتمال، وأكثر من مرحلة، وأعمق من ظاهرة، وأوسع من خطوة، وأقدس من فكرة، وأكبر من قولٍ أو وصفٍ أو حالة. إنّه لا ينتهي إلى شيءٍ مسبق أو إلى تفسيرٍ نهائيّ ومطلق، ويريد أنْ يعرفَ عن نفسه أكثر ممّا يظهر منها. ولذلك يبقى أبداً ينظر إلى ما وراء حياته، وإلى ما وراء الفكرة والخطوة والاحتمال والمرحلة. إنّه في كلّ ذلك، يتابع حركته وحياته هنا وهناك في تتابع مستمر.
Tloo1996@hotmail.com
*محمود كرم، كاتب كويتي
رائع رائع رائع
يملكُ وعيّ الاختيار في ألاَّ يكونَ مقيّداً بالسائد والشائع والمتهالك
قال سبينوزا: ” نحنُ نتقلّب ولا وعي لنا بمصيرنا”. وهذا ما تفعله فلسفة الفرد لأنها في مرحلة ما تضعنا في حالة نرجسيه بعض الشئ لاننا بنظن أن حجتنا صائبة بشكل مطلق وأن بلوغنا لحقيقة ما معناه أننا تلمسنا خيوط الكمال والحرية. لكن في الواقع أننا بنتقلب في كل مرحلة بشكل فكري مختلف. لذلك الفرد دائماً في مهلكة ذاته، وهذا ما رأه سبينوزا في نفسه كفيلسوف جريح، وقال “كنت أرى نفسي دائماً في مهلكة حقيقية”.
مقال ممتاز، تحياتي!