يُعقد كل عام في “المركز الأكاديمي متعدد المجالات” في هرتسليا(شمال تل-أبيب) مؤتمر يضم كل الطاقات الأكاديمية، وقادة الدولة والجيش وقادة الأحزاب ورجال الأعمال الكبار وهيئات البحث العلمي والتخطيطي التابعة للجيش ولوزارة الخارجية.
ويجب القول إن هذا المؤتمر كان خطوة نوعية إلى الأمام في تسيير الحياة السياسية والاقتصادية والاستراتيجية في إسرائيل على أسس علمية، على الطريقة الأمريكية والغربية بشكل عام.
المؤتمر الذي عُقِد هذه السنة في كانون الثاني 2007 كان صاخباً وعاصفاً، ويجب القول إنه برزت فيه اتجاهات أكاديمية وسياسية متناقضة وبالغة الحدة، مما يؤكد أن إسرائيل لا تسير حسب خطة تضعها الحكومة فقط، بل حسب خطة قومية شاملة تشارك كل الطاقات في صياغتها، عسكرياً وسياسياً وعلمياً واقتصادياً واستراتيجياً.
إذا قارنا هذا التوجه الشامل في إسرائيل، مع التوجه في العالم العربي (إذا كان هناك، أصلاً توجه شامل في العالم العربي)، فإن المقارنة هي بين توجه غربي متطور مقابل توجه عالم ثالث متخلف انفعالي وبلا تخطيط.
في كتاب التلخيص العام للمؤتمر الأخير، وهو بعنوان”ميزان المناعة والأمن القومي الإسرائيلي” تقييمات بالغة الأهمية وبالغة الخطورة أيضاً.
وأود هنا أن أتركز على الفصل بعنوان “التحديات الاستراتيجية والسياسية لإسرائيل” (ص16-19).
في البداية يطرح المؤلفون موضوعة الخطر النووي الايراني. ومع أن الكتّاب يعترفون أن الخطر ليس فقط على إسرائيل بل على الغرب أيضاً، ويشكل انعطافاً خطيراً في حرب الثقافات بين الغرب والعالم الإسلامي بقيادة راديكالية متطرفة مع إمكانيات عسكرية خطيرة نوعياً.
ويقول المؤلفون إن هناك في ايران تيارين، تيار الجيل الأول للثورة المستند إلى النخبة الدينية العليا ونخب البازار(الطبقة التجارية الوسطى)، والتيار الثاني الذي يستند إلى النخبة العسكرية-الاقتصادية و”كتائب الثورة” وخريجي الحرب الايرانية العراقية. وتتميز المجموعة الثانية بالاستعداد للمغامرة، “حتى النهاية” وبلا تردد.
كما يحلل البحث سعي ايران حالياً للهيمنة على العالم الإسلامي، ولاستخدام مجموعات “إرهابية”، مقاتلة في مقاومة السياسة الكونية الأمريكية و”أعوانها” وأبرز هذه المجموعات “حزب الله” في لبنان و”حماس” في فلسطين. وهذا النهج الايراني مع أنه يتفق بالأهداف مع “طالبان” و”القاعدة”، إلاّ أن بينهم صراعاً هو انعكاس للصراع السني- الشيعي، وهذا الصراع له آثار بارزة في العراق أيضاً.
من هذا البحث نلاحظ أمرين: أولاً قلق المؤسسة العسكرية-السياسية الإسرائيلية من آفاق التطور العسكري الايراني، وثانياً “الترابط الاندماجي” بين إسرائيل والولايات المتحدة في السياسة والاستراتيجية العالميتين. ويجب النظر إلى إسرائيل هكذا، بكل صفاء ذهن، والتحالف بينها وبين الولايات المتحدة غير شبيه ب”التحالف” بين أمريكا والدول العربية ودول العالم الثالث عموماً.
أما الموضوع الاستراتيجي الأساسي الثاني الذي شغل بال المؤتمر، ويشغل بال المؤسسة السياسية والعسكرية والاستراتيجية الإسرائيلية فهو الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
يقول المؤلفون من البداية إن إسرائيل متمسكة بحل دولتين لشعبين، “إسرائيل دولة الشعب اليهودي (يهود العالم كله)، ودولة فلسطين التي هي “الحل الوحيد لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين”.كما تقول الوثيقة إن المناطق التي فيها أكثرية يهودية في المناطق الفلسطينية المحتلة في حرب حزيران 1967 ستظل مناطق إسرائيلية، مثل مدينة “أريئيل” و”غوش عتسيون” (قرب بيت لحم والخليل)، كما قامت مستوطنات واسعة في مناطق القدس العربية أيضاً.
ويحذر البحث من إمكانية أن يُفشل التيار الديني الأصولي الفلسطيني ومعه تيار راديكالي علماني، حل دولة فلسطينية في حدود 1967، وعملياً الرغبة في استمرار الاحتلال والمقاومة، انطلاقاً من استراتيجية حل “دولة واحدة” لا دولتين، وهذا سيكون شكلاً من أشكال النضال لإلغاء “الدولة اليهودية”.
إن البحث شكلياً يفضل التيار القومي البراغماطي برئاسة الرئيس محمود عباس وحركة فتح، ولكن من الشروط الواردة في البحث يريدون أن يعطوا للدولة الفلسطينية فقط ما يستغنون عنه من الأراضي الفلسطينية التي تم احتلالها في حرب حزيران 1967.
ويستطرد واضعو البحث في التأكيد أن القضية الفلسطينية ليست لب وجوهر النزاع في الشرق الأوسط ولكن جوهر النزاع، طبقاً لهذه النظرية، هو التصادم الحضاري بين الإسلام الأصولي والغرب مع الانطلاق من أن إسرائيل تشكل جزءاً عضوياً من الغرب سياسياً وحضارياً، باعتبار العالم الغربي كله خصماً أو عدواً للإسلام.
ويتضمن البحث حول النزاع الإسرائيلي –العربي تحليلاً “علمياً” بالغ الخطورة للتطور السياسي داخل الأقلية العربية الفلسطينية مواطني دولة إسرائيل، ويتهم هذه الأقلية القومية بأنها هي أيضاً لا تريد حل “دولتان لشعبين” بل تريد تحويل إسرائيل إلى دولة “ثنائية القومية” من ناحية وحلاً يقوم على دولة واحدة في فلسطين تضم الفلسطينيين واليهود.
إن هذه الصياغات ” العلمية” تعكس تياراً سياسياً متصاعداً داخل إسرائيل، في الحكومة وفي البرلمان وفي الأحزاب اليهودية ، يصعِّد الشك والتحريض الخطير ضد الأقلية الفلسطينية داخل إسرائيل. كما تزداد النظريات العرقية الانفعالية حول “الخطر الديموغرافي” للعرب الفلسطينيين داخل إسرائيل.
إن هذا البحث، مع أنه يلبس عباءة أكاديمية رصينة جداً إلاّ أنه بحث سياسي متميز يصوغ ادعاءات المؤسسة ويتجاهل حقائق أولية حول حالة العرب في إسرائيل. فهناك 58 بالمائة من العرب تحت خط الفقر، وتصل البطالة بين العرب إلى 22 بالمائة بينما هي أقل من 8 بالمائة بين اليهود، وباختصار فإن المجتمع العربي داخل إسرائيل هو جزء عضوي من “العالم الثالث” بينما إسرائيل دولة صناعية أوروبية، بكل المقاييس السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
ويتبرع واضعو البحث للقول، بشكل مناقض لكل منهج علمي، أن “عدم المساواة” (التمييز) ليس هو السبب في التوتر القائم بين الدولة العبرية والمجتمع اليهودي، وبين الأقلية العربية مواطني دولة إسرائيل منذ انتهاء حرب 1948.
ما أريد أن أقوله في النهاية للعالم العربي أمران: أولاً إقرأوا الوثائق الإسرائيلية، إقرأوا الأبحاث الإسرائيلية، ادرسوا بمسؤولية تيارات التطور ومناهج التفكير في إسرائيل، وثانياً لينتقل العالم العربي في تخطيطه السياسي والاقتصادي والصناعي والعسكري والدبلوماسي من الشطط غير المنهجي إلى التخطيط. وهذا باختصار، إشارة واضحة إلى التحدي الحضاري- الاقتصادي-السياسي-العسكري الذي تشكله إسرائيل إزاء عالم عربي ينخره التخلف وتخدره الأصولية الدينية.
salim_jubran@yahoo.com
* الناصرة