حمل ممثل للجامعة العربية إلى رئيس مجلس النواب نبيه بري، قبل أسابيع قليلة، رسالة من الأمين العام للجامعة نبيل العربي مفادها أن العقوبات العربية وُضعت في «البراد» في الوقت الراهن. وأغلب الظن أن الرسالة وصلت إليه لتُنقل إلى من يعنيهم الأمر من الحلفاء المحليين والإقليميين. تلك الرسالة أعقبتها «فرملة» مباشرة في اندفاعة الجامعة نحو ممارسة الضغوط على النظام السوري لتنفيذ المبادرة العربية، فما الذي حصل؟.
في المعلومات، أن رئيس المجلس العسكري في مصر، المشير حسين طنطاوي، الذي سبق له أن طلب من الرئيس السوري بشار الأسد التوقيع على المبادرة العربية، متعهداً العمل على مساعدته في تجاوز الأزمة، مارس ضغوطاً على الأمين العام للجامعة بغية الحدّ من الوتيرة المتسارعة في تنفيذ المبادرة التي تبنّتها الجامعة، وعملت على ضبط إيقاع حركتها بناء عليها. وتولى العربي تخريج الضغوط من طريق التباطؤ والمماطلة في تنفيذ إجراءات إرسال المراقبين العرب إلى سوريا، الأمر الذي كان ظاهراً في أداء الجامعة خلال الأسبوعين الماضيين. ويجزم المطلعون أن هذه الضغوط لم يكن ممكناً أن تفعل فعلها من دون «تنسيق أميركي ما»، طاول أكثر من جهة، إذ تزامنت مع تصوّر لحل الأزمة السورية عرضه رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، خلال زيارته البيت الأبيض، لمشروع حل سياسي يجنّب تفاقم الصراع المذهبي السني – الشيعي وانعكاساته على دول المنطقة، وفي مقدمها العراق. ويتضمن تشكيل حكومة انتقالية برئاسة شخصية معارضة بحيث تضع الحكومة آلية حل الأزمة، سواء لجهة تعديل الدستور بما يضمن التعددية السياسية، والتحضير لإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية مبكرة.
هذه «الفرملة» التي لم تتبلور بعد مراميها الحقيقية، عزتها تحليلات المراقبين إلى جملة عوامل لعل أولها حاجة الإدارة الأميركية للاطمئنان إلى نتائج تحوّلات الدول التي سقطت أنظمتها جرّاء «الربيع العربي»، بدءاً من ليبيا وتونس واليمن وصولاً إلى مصر التي بات مجلسها العسكري الحاكم في مواجهة مُعلنة وخفية مع القوى السياسية القديمة والجديدة على ماهية النظام الجديد ومواقع نفوذه ودوره في تركيبة الحكم الحالي والمستقبلي، بعدما شكّل جسر العبور لنجاح ثورة 25 يناير. أما ثانيها فيرتبط بالعراق الذي أظهر انسحابها منه هشاشة وضعه السياسي والأمني المفتوح على احتمالات الحرب الأهلية مجدداً، وإن كان ذلك منتظراً إلا أن المفاجأة كانت في سرعة انهيار العملية السياسية والمنحى الذي قد تتخذه الأمور. وثالثها الاقتناع بأن المعارضة السورية ليست جاهزة بعد في رسم معالم مشروعها البديل للنظام القائم، رغم التقدم والنضوج الذي سجلته خلال الأشهر العشرة منذ بدء الاحتجاجات الشعبية وحتى اليوم، لكنه تقدّم لم يصل بعد إلى خلق الثقة التامة لدى دوائر القرار بقدرة هذه المعارضة على قيادة البلاد في مرحلة ما بعد الأسد، ولا سيما أن على المجلس الوطني الانتقالي الذي يحظى بدعم عربي ودولي كممثل للشعب السوري ان يضم في تكوينه مختلف أطياف المجتمع السوري، ويبلور رؤيته في كيفية صوغ الشراكة الوطنية التي تحمي حقوق الأقليات التي يعتريها القلق من أن تؤول الديموقراطية المنشودة إلى طغيان حكم الأكثرية عليهم، وهي مسألة تشكل هاجساً فعلياً لدى الطوائف الأقلوية يستفيد النظام من اللعب على وتره.
وإذا كانت هذه العوامل قد أبطأت الضغوط على دمشق، وأتاحت «فترة سماح» لحل سلمي تعهّد به حلفاء سوريا الإقليميين، الذين أرغموها على توقيع بروتوكول المراقبين العرب، فإنها، في رأي حلفاء سوريا، قد وفّرت للأسد فرصة لالتقاط أنفاسه، خصوصاً أنه كان يُراهن على أن صمود نظامه حتى نهاية السنة يجنبه خطر الانهيار، ويُمكّنه من استعادة زمام اللعبة. ذلك أن الانسحاب الأميركي من العراق سيؤول إلى توفير خط إمداد إيراني مباشر لسوريا عبر العراق. وسيكون للبوابة العراقية دور أساسي في تخفيف مفاعيل العقوبات الاقتصادية حتى ولو أضحت دولية. ويكشف هؤلاء أن الأسد يعمل على تعبيد الطريق أمام الخصمين العراقيين اللدودين - حزب البعث وحزب الدعوة - من أجل التوصل إلى اتفاق مصالحة يوفّر أولاً وقف العمليات في العراق التي تنطلق من الحدود السورية، والتي يعتقد النظام العراقي أن البعثيين هم وراء سبعين في المئة منها، ويوفر ثانياً إعادة انخراط حزب البعث في الحياة السياسية العراقية، ولا سيما أن سوريا تأوي منذ سقوط نظام صدام حسين كبار ضباط البعث ومسؤوليه، وفي مقدمهم عزّت الدوري نائب الرئيس العراقي السابق. ولا يُخفي حلفاء سوريا اعتقادهم بأن الأسد قد يذهب، في حال فشلت مساعيه في مد جسور التواصل بين العدوين اللدوين، إلى حدّ الإقدام على التضحية بالبعثيين، وبرأس الدوري ثمناً لإنقاذ نظامه.
غير أن الأسد يعوّل أيضاً على استثمار مهمة المراقبين العرب، الذي نجح في تضمين فرقها عناصر من دول غير مناوئة لنظامه، ليس في إطار التساهل في تقاريرها حيال ممارسات النظام، بل في استخدامها غطاءً لوجستياً من أجل دخول القوات النظامية السورية إلى المناطق التي خرجت منها، ولا سيما أن مسؤولية انتقال المراقبين وتأمين حمايتهم هي مسؤولية الحكومة السورية وقواها الأمنية. إذ يقر مسؤول حزبي حليف لسوريا أن النظام يواجه مشكلة حقيقية في حمص ودرعا، لكن هاجسه الأساسي ينصبّ على محافظة إدلب، التي خرجت كلياً عن سيطرة القوى النظامية، وباتت في يد الثوار الذين يُؤمّنون حمايتها ويُسيّرون شؤونها، فيما الحكومة عاجزة عن اتخاذ قرار شن عملية عسكرية واسعة، لأن اقتحامها سيكلّف سقوط آلاف الضحايا، وستستدرج هكذا عملية التدخل العسكري الخارجي. إزاء ذلك، يُراهن النظام على تسلل تدريجي للقوات الأمنية إلى بعض البلدات، مستظلاً جولات المراقبين ودورياتهم ونقاط تواجدهم في فترة الشهر التي حدّدها البروتوكول المفتوح على إمكان التمديد شهراً آخر.!