تجدّدت مؤخراً أعمال العنف التي تنفذها جماعة ما يسمى “الشباب المؤمن” ضد سلطة الدولة امتداداً لأعمال مسلحة أشعلها حسين بدر الدين الحوثي وأنصاره الذين جاهروا منذ انطلاق شرارة هذه الأعمال في صيف عام 2004م بأفكار ضالة تمثل تمرداً على الدستور، وتعدياً على النظام السياسي القائم في اليمن – منذ إعلان الجمهورية اليمنية في الثاني والعشرين من مايو 1990 – على قواعد التعددية والاختيار الحر للسلطة عبر انتخابات رئاسية وتشريعية ومحلية حرة ومباشرة، يتساوى فيها المواطنون والأحزاب والتنظيمات السياسية في الترشح لشغل الوظائف القيادية في الدولة ومؤسساتها الدستورية، وانتخاب من يراهم المواطنون أكثر كفاءة وأهلية لإدارة شؤون الدولة والمجتمع بعيداً عن أي شكلٍ من أشكال التمييز أو التسلط الطائفي أو الفئوي أو الوظيفي أو السلالي بحسب ما ينص عليه الدستور.
ولما كانت الديمقراطية تشكل المحتوى الرئيسي للعملية السياسية الجارية في اليمن، فقد أصبحت حرية التعبير السلمي عن الرأي والفكر في إطار الثوابت الدستورية والوطنية سبيل كل المواطنين للمشاركة الحرة في الحياة السياسية.. بيد أنّ الديمقراطية تتعارض مع محاولة استخدام حرية التعبير بهدف الدعوة إلى أفكار ومشاريع سياسية تهدد أسس النظام الديمقراطي التعددي، وتبرر استخدام العنف المسلح من أجل تجسيد هذه الأفكار وممارستها على الأرض، الأمر الذي يضع حملة هذه الأفكار وأفعالهم المتطرفة في سياق الإرهاب فكراً وممارسة.
اللافت للنظر ان التمرد المسلح الذي قادته ولا زالت تقوده جماعة دينية متشددة في صعدة أحيطت بتناولات سياسية وإعلامية مغرضة داخلياً وخارجيا ًعلى نحوٍ لا يخلو من التضليل والانتهازية السياسية والمراهنات الخاسرة للأزمات والمواجهات التي شهدها اليمن في سنوات سابقة بين أجهزة الدولة الأمنية والعسكرية من جهة، وبين بعض الجماعات المتطرفة التي ارتكبت جرائم إرهابية طالت بواخر أجنبية ومنشآت حكومية وسفارات أجنبية، وألحقت بأعمالها الإجرامية أضراراً خطيرة باقتصاد اليمن و مكانة موانئه وسمعة مواطنيه في الخارج.
من نافل القول ان جانباً من الخطاب الإعلامي المعارض يحرص على تناول أحداث صعدة منذ اندلاعها في عام 2004م، وتجددها بعد ذلك وحتى الآن، بشكل لا يخلو من الالتباس والتدليس من خلال اعتبارها قضية رأي تارةً وقضية اضطهاد طائفي تارة أخرى. ومن المهم بهذا الصدد التأكيد على أن الموضوعية في تناول هذا الحدث وتداعياته تقتضي ملاحظة إصرار هذا الخطاب الملتبس على تجاهل الأهداف والمنطلقات والأبعاد الخطيرة لجرائم الإرهاب التي تستهدف تقويض أسس النظام السياسي القائم على الديمقراطية التعددية وحرية التعبير وحق تداول السلطة سلمياً عبر صناديق الاقتراع. حيث حرص هذا الخطاب على تشويه تلك المواجهات من خلال إظهار تلك الجماعات الإرهابية في صورة الضحية التي تتعرض للقمع والملاحقة وانتهاك حقوق الإنسان وحرية التعبير على نحوٍ ما فعلته ومازالت تفعله بأشكال متفاوتة بعض أحزاب المعارضة المنضوية في إطار تكتل (اللقاء المشترك) وصحافتها وكتّابها وناشطيها السياسيين الذين يمثلون خليطا من الأحزاب القومية والدينية والاشتراكية القديمة .
ولا نبالغ حين نقول إنّ تناقضات الخطاب الإعلامي المُعارض لأحزاب المعارضة اليمنية المنضوية في إطار أحزاب (اللقاء المشترك) منذ اندلاع أحداث صعدة عام 2004م حتى الآن، كشفت الإفلاس القيمي لذلك الخطاب وسقوطه في مستنقع الانتهازية السياسية، وإدمانه على البحث عن فرص ضائعة لتصفية حسابات سياسية وحزبية مع السلطة وحزبها الحاكم، وصولا ً الى الإفراط في تسويق ذرائع واهية لتبرير الإرهاب وتبرئة مرتكبيه والتقليل من مخاطره على مستقبل الديمقراطية والقيم الانسانية المشتركة بشكل خاص، ومصالح الوطن والمجتمع والشعب بشكل عام.
لا ريب في أنّ المنطلقات الفكرية لجرائم الإرهاب والجماعات المتطرفة التي حدثت في اليمن خلال السنوات الماضية، كانت غائبة تماماً عن الخطاب الإعلامي المعارض الذي أسرف خلال تلك الفترة في إخراج المواجهة مع الإرهاب من سياقها الموضوعي إلى سياق آخر يتسم بالكيدية تحت غطاء الدفاع عن حقوق الإنسان، فيما كان هذا الخطاب يتجاهل تماماً غياب هذه الحقوق بصورة مطلقة عن منظومة الأفكار المتطرفة والمتشددة التي تغذي الإرهاب وتوجه نشاط الجماعات المتطرفة، بشقيها السني والشيعي، بدعاوى دينية زائفة وملفقة. ناهيك عن أنّ الفكر السياسي الأحادي للجماعات الإرهابية التي استهدفت الدولة والمجتمع المدني خلال أحداث سابقة في صعدة وأبين وصحراء مأرب ومناطق أخرى من اليمن، لا يعترف بالديمقراطية وبحقوق الإنسان، بل يدعو صراحة إلى بناء دولة دينية استبدادية شمولية على غرار نموذج نظام ولاية الفقيه في إيران و ونموذج نظام طالبان في أفغانستان. وكلاهما وجهان مذهبيان للدولة الدينية التي تجاهد حركات الاسلام السياسي بشقيها السني والشيعي من أجل بنائها، وهي دولة لا مكان فيها للتعددية السياسية والفكرية وحقوق الإنسان، وحقوق المرأة وحرية التعبير، ولا مجال فيها للمساواة بين المواطنين ومذاهبهم الدينية المتنوعة.
اليوم يتكرر الحال مجدداً مع تجدد أحداث صعدة حيث تواجه الدولة اليمنبة وأجهزتها الأمنية والعسكرية تحديات ومخاطر جدية تهدد السلم الأهلي والديمقراطية التعددية على إثر قيام جماعة دينية مذهبية متشددة بمحاولة تسويق أفكار سياسية رجعية وضالة بلباس ديني، واستخدام السلاح لنشر الفكرة الخمينية القائلة بوجوب إقامة ولاية الفقيه نيابة عن الامام المهدي المنتظر، ووجوب طاعة ولاية الفقيه حتى ظهور المهدي المنتظر، وما يترتب على ذلك من حصر سلطات مطلقة في يد هذا الفقيه إلى جانب حصر الحكم وتوريثه في فئة أو سلالة معيّنة، بعيداً عن حق الشعب ـ باعتباره مالك السلطة ومصدرها – في اختيار حكامه عبر صناديق الاقتراع، ووبعيدا ًعن حق كافة القوى السياسية والمواطنين من مختلف التيارات الفكرية والمذاهب الدينية في ممارسة حرية التعبير عن برامجها وأفكارها وعقائدها بالوسائل الديمقراطية والسلمية التي يكفلها دستور الدولة ونظامها الجمهوري.
الثابت أنّ أحداث صعدة ارتبطت بالتمرد المسلح الذي قامت به جماعة دينية قادها شخص لقي مصرعه عام 2004 بعد أن ادعى لنفسه حق “الإمامة”.. وسعى بالقوة إلى انتزاع البيعة ونصب نفسه إماماً على المسلمين في اليمن، الأمر الذي دفع عدداً كبيراً من فقهاء المذهب الزيدي في اليمن ـ إلى دحض أفكاره الضالة وبيان تعارضها مع صحيح الإسلام بحسب بيان أصدروه عند بدء التمرد المسلح في صيف 2004.
وكانت هذه الجماعة المسماة (الشباب المؤمن) قد تأسست عام 1997 بدعم من الدولة لتحقيق هدفين، اولهما شق “حزب الحق” الشيعي الذي ينضوي ضمن تحالف (اللقاء المشترك) وهو تكتل يضم أحزابا معارضة ذات طبيعة دينية (سنية وشيعية) وأحزابا ناصرية ويسارية. أما الهدف الثاني فهو إستخدام هذه الجماعة لمواجهة النفوذ المتزايد للإخوان المسلمين الذين يقودون حزب الاصلاح خصوصا بعد خروج هذا الحزب من السلطة وانتقاله الى المعارضة بعد إنها ائتلافه مع الحزب الحاكم بعد انتخابات عام 1997 .
وقد برر رجل الدين الشيعي المعروف في اليمن محمد يحي بن عزان الامين العام السابق لهذه الجماعة ـ وأحد منظريها ـ دعم السلطة لجماعته بأنه ينسجم مع واجباتها إزاء قيادة دولة متعددة المذاهب الدينية بحسب ما جاء على لسانه في مقابلة صحفية أجرتها معه إحدى صحف المعارضة في اليمن !!
ومما له دلالة خطيرة أنّ هذه الجماعة لم تكن محصورة على بعض أبناء مديرية حيدان في محافظة صعدة التي اتخذ منها زعيم هذه الجماعة المتطرفة منطلقاً لتمرده المشبوه، ودعوته الضالة، بل شملت أتباعاً لها تم تجميعهم وجلبهم من مختلف المدارس الدينية المذهبية في بعض المحافظات حيث تقوم هذه المدارس بتعليم طلابها وتلقينهم دروساً وأفكاراً خارج النظام التعليمي الرسمي للدولة، وبما يتناقض مع قانون التعليم الذي تمّ بموجبه إلغاء منظومة المدارس الدينية التي كانت تدرس أفكاراً ومفاهيم دينية وفق نسق فكري أُحادي مغلق قبل دمجها بالنظام التعليمي الرسمي، وهو ما أدى الى غضب حزب الاصلاح الاسلامي الذي يقوده التنظيم السري للإخوان المسلمين في اليمن، وإنهاء تحالفه مع الحزب الحاكم الذي يقوده الرئيس علي عبدالله صالح، بينما استثنت االحكومة اليمنية لأسباب غير مفهومة عدداً كبيراً من المدارس الدينية السلفية السنية والشيعية الهادوية، وأبقتها حرة طليقة خارج النظام التعليمي الرسمي، حيث تمارس هذه المدارس تحريضاً مذهبيا مسعورا ًً ضد بعضها البعض، وما يترتب على ذلك من إثارة النعرات الطائفية والمذهبية في المجتمع، وفتح الباب واسعاً لإغراق البلاد في بحر فتن أهلية غير محمودة العواقب.
ظلت ــ ولا زالت ـ هذه المدارس الدينية المذهبية رغم اختلاف مسمياتها قائمة خارج النظام التعليمي الرسمي على الرغم من تطبيق قانون التعليم. ولعبت بسبب وجودها غير القانوني دوراً خطيراً في صناعة بيئة ثقافية متشددة تتغذى منها هذه الجماعة الضالة وغيرها من الجماعات المتطرفة التي اتخذت من صعدة وبعض مساجدها ومدارسها المذهبية معقلاً للأفكار التي تدعو إلى إحياء نظام الإمامة الشيعي أو نظام الخلافة السني، وصولاً إلى إعلان التمرد المسلح على الدولة والدعوة إلى إعادة النظام الإمامي الكهنوتي الذي انتهى بعد قيام ثورة 26 سبتمبر الخالدة. وهو ما ألمحت إليه وحذرت منه صحيفة (22 مايو) التي يصدرها المؤتمر الشعبي العام في أحد أعدادها خلال شهر فبراير الماضي.
لجأت جماعة المتمرد حسين الحوثي وأتباعه وورثة أفكاره في بادئ الأمر إلى نشر أفكارها الضالة عبر توزيع الكاسيتات والخطابة في المساجد وتشكيل المليشيات المسلحة وعدم الاعتراف بالدستور بحجة أنّه وضعي ويتعارض مع الشريعة الإسلامية التي تحصر الولاية العامة في حي واحدٍ من قريش بحسب أحد التأويلات المتعددة والمتناقضة للشريعة الإسلامية. الأمر الذي يؤكد خطورة المدارس الدينية السلفية على اختلاف مذاهبها، والمنتشرة في معظم أنحاء الجمهورية اليمنية خارج النظام التعليمي الرسمي، حيث يدرس الطلاب في مدارس أخرى أفكاراً لا تقل خطورةً عن تلك التي تعلّمها وآمن بها أنصار الجماعة المتمردة في صعدة.
فإذا كان المتمردون ــ ومعظمهم من الشباب الضال ــ قد درسوا فكرة حصر وتوريث الحكم في حي واحد من قريش، وهو الحي الهاشمي أو في سلالة البطنين (الحسن والحسين) من حي آل البيت في إطار قبيلة بني هاشم القرشية، فإنّ طلاباً آخرين يتعلمون في مدارس دينية أخرى داخل صعدة وفي غيرها من المحافظات أفكارا رجعية مشابهة تدعو بشكل مموه إلى القضاء على النظام الجمهوري، والانقلاب على الديمقراطية التعددية وإعادة نظام الخلافة وحصر وتوريث الحكم في قريش فقط بجميع بطونها وأفخاذها وأحيائها، بدلاً من حصرها في الحي الهاشمي من قريش، وما يترتب على ذلك من إهدار للحقوق السياسية لبقية المسلمين ومصادرة حقوقهم كمواطنين متساويين أمام الدستور والقوانين في الحقوق والواجبات.
وإمعاناً في التضليل والتعبئة الخاطئة حرصت الجماعة المتمردة في صعدة قبل تفجير تمردها الأول عام 2004 م، على رفع شعارات معادية للولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، وتحريض المصلين في بعض مساجد صعدة والعاصمة صنعاء ومحافظات أخرى لترديد هتافات معادية لهاتين الدولتين، وإنزال العلم الوطني للجمهورية اليمنية من بعض المؤسسات الحكومية والمنازل في محافظة صعدة بقوة السلاح عند بدء التمرد ورفع علم جمهورية ايران الاسلامية، وعلم حزب الله الشيعي في لبنان، بدلاً من علم الجمهورية اليمنية. بالاضافة الى تسليح بعض الصبية من الشباب الذين ربطوا على رؤوسهم عصاباً من القماش الأخضر كتبوا عليه ((يا حسين.. الموت لأمريكا وإسرائيل ومن والاهما)). ثمّ توّجوا هذه الأعمال في تمردهم الأخير مطلع العام الحالي2007 م، بتنفيذ هجمات على مراكز القوات المسلحة والأمن وتوجيه إنذار طالبوا فيه المواطنين اليهود بمغادرة منازلهم والمناطق التي يعيشون فيها، حيث اضطرت السلطة الى نقلهم في بادئ الأمر الى مدينة صعدة لحماية حياتهم ثم نقلتهم ـ بعد انتشار المواجهات العسكرية مع المتمردين في بعض مناطق صعدة ـ الى العاصمة صنعاء وقامت بتوفير مساكن لهم تابعة للمؤسسة الاقتصادية العسكرية، بالاضافة الى صرف معاشات شهرية لهم، الأمر الذي يقدّم خدمةً مجانية ومباشرة للمشروع الصهيوني العالمي الذي يسعى إلى تبرير وجود إسرائيل ونقل اليهود إليها بذريعة اضطهاد اليهود ومعاداة السامية وحرمانهم من حقوق المواطنة في البلدان العربية والاسلامية .
ما من شكٍ في أنّ المخاطر والتداعيات المحيطة بتجدد فتنة التمرد المذهبي في صعدة تقدم دليلاً إضافياً على خطورة الثقافة الدينية المتطرفة التي تؤسس نسقاً مغلقاً وأُحادياً للوعي والممارسة.
ولعله من المفيد أن تستفيد أحزاب المعارضة من أخطائها السابقة في التعامل مع فتنة الحوثي بصعدة عندما توّهمت بأنّ الأحداث المسلحة الناجمة عن هذه الفتنة يمكن أن توفر لها فرصة ذهبية لتصفية حساباتها مع الحزب الحاكم، وإظهار القضية وكأنّها صراع بين حكومة المؤتمر الشعبي العام من جهة، وجماعة مدنية تمتلك الحق في التعبير عن آرائها وأفكارها.
ولا ريب في ان درء المخاطر المترتبة عن استمرار هذه الأحداث والمواجهات العسكرية بين الدولة وجماعة الشباب المؤمن الشيعية، يستوجب التحلي بمسؤولية وطنية عالية، تستهدف الحفاظ على الوحدة الوطنية للمجتمع اليمني، وقطع الطريق على محاولات جعل اليمن هدفاً مباشراً للمخططات الرامية إلى إشعال الحروب الطائفية في المنطقة العربية، تمهيداً لتفتيتها وتمزيق نسيجها الاجتماعي الوطني.
بوسعنا القول ان مخاطر ما جرى ويجري في بعض مناطق صعدة في اليمن يضع على عاتق الدولة والنخب الوطنية الفاعلة في اليمن واجب الحذر من الوقوع في فخ المشاريع التي تستهدف تحويل الدول العربية إلى كانتونات طائفية متناحرة، وصولاً إلى إخضاع المنطقة العربية للأطماع الخارجية التي تتربص بثرواتها ومواقعها الإستراتيجية. وتأسيسا ً على ذلك يجب التعامل مع أحداث صعدة بوعيٍ وطنيٍ يأخذ بعين الاعتبار خطورة الخطاب السياسي الطائفي الموبوء بالأمراض الناتجة عن النزوع إلى الإقامة الدائمة في الأنفاق المظلمة للماضي، وإحياء الصراعات القديمة والدامية على السلطة بين مركز دولة الخلافة وأطرافها منذ رفض الشهيد الحسين بن علي أداء البيعة للخليفة يزيد بن معاوية، ومصرعه المأساوي إلى جانب العديد من أبنائه وأفراد أسرته بسبب موقفهم الرافض لبيعة يزيد بن معاوية، وإطلاق صفة “الروافض” – بالمعنى المعاصر للمعارضة السياسية – عليه وعلى أتباعه، بالإضافة إلى ارتكاب خطيئة الدعاء على والده الإمام علي بن أبي طالب بواسطة خطبة الجمعة في جميع مساجد دولة الخلافة طوال عقود عديدة من القرن الأول الهجري، حتى جاء الخليفة عمر بن عبد العزيز ليضع حداً لآثار تلك المأساة التي ورثها عن أسلافه من الخلفاء والفقهاء والقُضاة وقادة الجيوش والجواسيس في العهد الأموي، وإعادة الاعتبار لتاريخ الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه وتكريمه، ومنع لعنه والدعاء عليه وعلى أولاده وآل بيته في خطب الجمعة من قبل فقهاء السلاطين. الأمر الذي أسهم في تعزيز وحدة المسلمين لحقبة تاريخية طويلة ازدهرت فيها الحضارة الإسلامية، واستحق خلالها الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز لقب خامس الخلفاء الراشدين.
ومما له دلالة عميقة أن تتزامن عودة الحياة إلى هاتين المنظومتين الفقهيتين المتعارضتين والمتناحرتين مع أفول غروب عصر الحضارة الإسلامية، وانقسام العالم الإسلامي بعد ذلك إلى مركز لدولة الخلافة ومراكز متمردة لدول ملوك الطوائف في أطراف دولة الخلافة، ما أدى إلى انقطاع المسلمين عن المساهمة في ميدان إنتاج الحضارة، وتغييب دور العقل وتحريم التفكير العلمي النقدي، وهيمنة ثقافة شفاهية قائمة على الحفظ والتلقين والنقل عن موروث الفكر الديني السلفي بشقيه الشيعي والسني انطلاقاً من منظومتين فقهيتين متناحرتين على قاعدة الخلط بين الدين والسياسة.
وكان من نتيجة انقسام العالم الإسلامي على تربة الصراع الطائفي إصابة دولة الخلافة الإسلامية ودول ملوك الطوائف على أطرافها، بالعجز عن اللحاق بركب الثورة الصناعية الأولى والثانية في القرون السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر الميلادي، وصولاً إلى تشرذمها وانهيارها على تخوم الثورة الصناعية الثالثة في القرن العشرين الميلادي، وسقوط العالم العربي والإسلامي تحت نير السيطرة الاستعمارية الأوروبية وتفوق الحضارة الغربية.
بهذا المعنى يتوجب على كافة القوى الحية في العالم العربي والإسلامي التنبه لخطورة خطاب الفتنة المتبادل هذه الأيام في الساحة العربية بين مختلف أقطاب المشاريع الطائفية المتناحرة. حيث يتجسد هذا الخطاب بكل وضوح في محاولات استدعاء صراعات الماضي من بطون الكتب الفقهية القديمة التي خلقها لنا الفقهاء المتناحرون الأسلاف (الروافض والنواصب) بحسب ألقابهم التي تنابزوا بها في العصور الغابرة، على نحوٍ ما نطالعه هذه الأيام في المآتم الاستعراضية ومهرجانات الندب والنواح والجزع على الموتى الأسلاف في طهران قم والنجف كربلاء وبعض ضواحي بيروت وبغداد، الى جانب صراخ الفضائيات المذهبية ومخرجات المدارس السلفية وإفرازات جماعات الإسلام السياسي الشيعية والسُّنَّية، وغيرها من الوسائل والمنابر والأدوات التي تستهدف شحن وتعبئة اللاوعي الطائفي بشقيه السني والشيعي، وما ينجم عن ذلك من ضرر بالغ بوحدة البلدان والمجتمعات العربية والإسلامية، حيث من شأن التعاطي مع الخطاب الطائفي التناحري إعادة العالم الإسلامي إلى حقبة ما قبل الخليفة عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه، وتحويله الى ساحة مفتوحة ودامية للحروب الطائفية والأطماع والتدخلات الخارجية لبعض القوى التي تحاول إدارة أزمات حقبة ما بعد الحرب الباردة، بما يمكنها من تمرير مخططات التفتيت والتمزيق والإضعاف، كمدخل لفرض سياسات الهيمنة والاحتواء والإخضاع.
في كتابه الموسوم بعنوان (طلبة العلم الشرعي) الصادر عام 2002م، كتب المفكر الباكستاني البروفيسور أحمد القريشي عن الإستراتيجية الأمريكية المعروفة بخطة بريجينسكي بشأن استخدام الإسلام السياسي، وإحياء الخطاب السلفي الطائفي الموروث عن العصور الغابرة بهدف شحن الحرب ضد الشيوعية والاتحاد السوفييتي من جهة، والتصدي لمشروع إقامة إمبراطورية إسلامية شيعية بعد قيام الثورة الخمينية في إيران من جهة أخرى.
بعد صدور ذلك الكتاب بشهرين، قال المستشرق اليهودي الأمريكي برنارد لويس في مقال شهير نشرته صحيفة «الواشنطن بوست» إنّه أشرف شخصياً على رأس مجموعةٍ من الخبراء والمستشرقين الأميريكين والبريطانيين على إعداد مناهج التعليم في المدارس والمعاهد الدينية في جنوب شرقي آسيا والشرق الاوسط واليمن والخليج، وتمويل آلاف الكتب التي تسترشد بموروث الفقه الإسلامي السلفي المتشدد، مشيراً إلى أن هذه العملية تمت في أروقة جامعات أمريكية وباكستانية وخليجية، حيث تمت طباعة هذه الكتب في المدن الباكستانية وبعض المدن العربية بتمويل حكومي أمريكي تؤكده وثائق وزارة الخارجية الأمريكية التي نسقت هذه العملية مع مكتب إسلام أباد التابع لصندوق الإنماء الاقتصادي الأمريكي USAID حيث تم دفع مبلغ وقدره واحد وخمسون مليون دولار سنوياً على مدى عشر سنوات من حساب هذا الصندوق، إلى جامعة نبراسكا خلال الفترة 1984 – 1994م، بالإضافة إلى طباعة بعض المناهج بتمويل حكومي غير مباشر من بعض دول الخليج تحت واجهة مؤسسات دعوية وجمعيات خيرية إسلامية. حيث كانت محصلة هذه العملية إعداد مناهج دراسية وطباعة وتوزيع كتب فكرية وتعليمية ذات طابع ديني تحض على التشدد والانغلاق والجهاد والتكفير والتحريض الطائفي وإثارة الكراهية والنعرات ضد أتباع الأديان الأخرى وبين أتباع المذاهب الإسلامية المختلفة في آن واحد.
صحيح أنّ جانباً من هذا المخطط نجح في تسهيل مهمة الحركة “الصحوية” السلفية ضد الشيوعية والاتحاد السوفييتي تحت واجهة الإسلام السياسي منذ أن أطلقت المخابرات الأميركية أذان (صلاة) الجهاد ضد الوجود السوفييتي في أفغانستان من واشنطن في مطلع الثمانينات. لكنه من الصحيح أيضاً أنّ الجانب الآخر في إحياء موروث النعرات الطائفية بين الشيعة والسنة تحت مسمى «الروافض والنواصب» ارتد على المخطط الأمريكي نفسه، حيث اندلعت نار الفتنة الطائفية في وقتٍ مبكرٍ داخل صفوف المجاهدين الأفغان الذين انقسموا الى سنة وشيعة منذ البداية. وقد جاء مقتل الشيخ عبدالله عزام وهو سني على أيدي مجموعة سنية بسبب رفضه التضييق على أنصار أحمد شاه مسعود في المناطق الشيعية بشمال أفغانستان، وجماعات شيعية أخرى في الوسط، ليدل على أبعادٍ خطيرة ومزدوجة لمخطط إحياء النعرات الطائفية الذي تبنته المخابرات الامريكية في مطلع الثمانينات من القرن العشرين المنصرم !
سيلاحظ القارئ الكريم انني أسهبت في الحديث ً عن الأبعاد الطائفية لحركة التمرد المذهبية التي فجرتها جماعة (الشباب المؤمن) وأتباعها من ضحايا التعبئة الطائفية في صعدة. ويعود ذلك الى حرصي الشديد على وضع المواجهات العسكرية بين الدولة والمتمردين من أتباع هذه الجماعة الدينية المتشددة في سياقها الموضوعي باعتبارها عملاً خارجاً عن القانون والشرعية الدستورية ومعادياً للديمقراطية والوحدة الوطنية بكل ما ينطوي عليه ذلك التمرد من أفكارٍ وأهداف وتوجهات وشبهات.
ومن حق كاتب هذه السطور أن يقرأ هذه الأحداث من خلال الربط بين التمرد المتجدد في صعدة منذ مطلع العام الجاري 2007، وما يحظى به من تناولاتٍ إعلامية وسياسية خارجية مكثفة، وبين ما جرى ويجري من أحداثٍ وتداعيات في الساحة العربية على تربة «الصحوة السلفية الدينية» للمنظومات الفقهية الطائفية المتناحرة التي صبغت حقبة طويلة من التاريخ الإسلامي بالدماء وأنهكتها بالجراح والانقسامات والصراعات، الأمر الذي يستوجب التحذير من أية مراهنة على استخدام المشاريع الطائفية لمواجهة التمرد الحاصل في صعدة حتى وإن ارتدى ثوباً طائفياً.. فالطائفية لا تصلح لمواجهة الطائفية. والخطاب السلفي الطائفي المضاد، ليس مؤهلاً لمواجهة الأبعاد الطائفية لفتنة صعدة على نحوٍ ما نقرأه في بعض الصحف اليمنية المحسوبة على بعض مراكز القوى في السلطة، وبعض التصريحات التي تصدر عن شخصيات حزبية وسياسية ودينية غارقة في سلفيتها المنغلقة، حيث نلاحظ الإفراط في تحقير المذهب الجعفري الإثني عشري وسب أتباع الحسين بن علي من « الروافض» الذين رفضوا مبايعة الخليفة الأموي يزيد بن معاوية، على غرار ما كان يفعله الفقهاء والقضاة الأمويون في أزمنة الفتنة الطائفية قبل الخليفة عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه. لأنّ ذلك يسهم في استفزاز وإثارة الملايين من أتباع المذهب الجعفري الاثني عشري في العالم العربي وهم شريحة كبيرة في الخليج ولبنان والعراق والشام، وسوف يؤدي الى تقديم خدمة غير مسبوقة للمشاريع الطائفية التي تستهدف إخراج الشيعة كمواطنين عرب من النسيج الوطني للمجتمع العربي، وصولا ً الى دفعهم للبحث عن ملاذ خارجي وولاء إقليمي على حساب هويتهم الوطنية وولائهم الوطني .
لا ريب في أنّ عملية إثارة وإحياء النعرات والثقافة الطائفية تندرج ضمن مخططات ومشاريع التفتيت والتقسيم الجاري تنفيذها في الشرق الأوسط باتجاه إحياء دول ملوك الطوائف. ولا فرق هنا بين أن تتم عملية إحياء هذه الثقافة والنعرات الطائفية بواسطة التعليم الديني السلفي المذهبي المتعصب، أو الإعلام الطائفي العدواني الصارخ، وبين أن تتم عن طريق خطاب سياسي ينطوي على التكفير والتحقير والتخوين، واستدعاء الدعوات القديمة من غياهب القرون القديمة، لمحاربة وتحقير من أسماهم فقهاء يزيد بن معاوية بالروافض الذين رفضوا اختزال مبدأ الشورى في الإسلام بمبايعة ولي العهد ليصبح خليفة على المسلمين بعد وفاة أبيه.
والحال أنّ الإفراط في مواجهة المشاريع الطائفية الحديثة بخطاب طائفي سلفي قديم، ينذر بمخاطر إجبار الشيعة الذين يشكلون شريحة كبيرة في المجتمع العربي وأغلبية في بعض البلدان العربية الصغيرة على البحث عن هوية وملاذ خارجي على حساب انتمائهم الوطني. الأمر الذي من شأنه إضعاف وحدة المجتمع العربي وتهديد سيادته الوطنية وأمنه واستقراره وضرب قواعد العيش المشترك بين الطوائف المختلفة على قاعدة المساواة في حقوق وواجبات المواطنة التي لا يعترف بها السلفيون المتشددون .
صحيح أنّ هناك أفكاراً خاطئة ومعادية للعقل في الفقه الشيعي والسني على حدٍ سواء.. لكنه من الصحيح أيضاً أنّ بعض معتقدات الشيعة التي لا يقبلها العقل بحاجةٍ إلى نقاشٍ ونقد بوسائل الفكر والنقاش الحر بما فيها تلك المعتقدات التي تجد ــ أيضا ً ــ مرجعا لها في النصوص السنية مثل الحديث المزعوم الذي أورده البخاري وابن مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه والذي يتنبأ بظهور الائمة الاثنى عشرة دون أن يحدد أسماءهم كما يفعل الشيعة طبقا لحديث مشابه ينسبونه أيضا للرسول. ناهيك عن أنّ بعض معتقدات أهل السنة ايضاً تدعو صراحةً الى تغييب العقل وتغليب النقل وتجعل دور العقل ثانوياً بعد النقل، بكل ما يحتويه هذا النقل من أفكارٍ وخرافات وآراء فقهية لا تصمد أمام العقل النقدي الذي يحاربه الفقه السلفي الديني بشقيه السني والشيعي.
لا يمكن إنكار حقيقة أنّ جزءاً كبيراً من الصفحات الدامية والأكثر قساوة في تاريخ الحروب بين دولة الخلافة ودول ملوك الطوائف على أطرافها كان يغذيها فقهاء متشددون من مختلف المذاهب المتصارعة، استناداً إلى ثقافة دينية منغلقة ومتعصبة أسهم في ترسيخها الرواة الذين نقلوا إلينا روايات وأحاديث وأفكاراً وتصورات لا يقبل العقل معظمها. واستناداًً الى هذه الروايات المنقولة بعد مئات السنين على وقوعها تعرض الذين انتصروا للعقل والعلم من الفقهاء والمفكرين والفلاسفة وعلماء الطب والفيزياء والكيمياء والرياضيات والفلك المسلمين للتكفير والقتل والتصفية الجسدية والسجن فيما تعرضت كتبهم للحرق .
ما من شكٍ في أنّ التأمل الموضوعي لحركة التمرد المسلح في بعض مناطق صعدة التي تقوم به منذ ثلاث سنوات جماعة ((الشباب المؤمن)) بأبعادها الفكرية الطائفية وتداعياتها السياسية الدموية، تقدم دليلاً إضافياً على أنّ التعصب الطائفي المذهبي أرهق ماضينا ولا يزال يرهق حاضرنا بأفكاره ومعتقداته المنقولة عبر الرُواة الأسلاف، وصولاً إلى الاعتقاد بها كمطلقات مقدسة لا تقبل النقاش والمخالفة عبر قنوات التعليم الديني المذهبي غير الرسمية. حيث لا فرق بين التعصب الطائفي الشيعي وبين التعصب الطائفي السني، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ الأفكار والمعتقدات التي يؤمن بها الحوثيون المتمردون في صعدة يجري تعليبها في لاوعي ضحاياها عبر التعليم الديني غير الرسمي .
وكما أنّ مواجهة المشاريع الطائفية لا يمكن أن تتحقق بثقافة طائفية ومذهبية وفتاوى دينية مضادة على نحو ما يحدث في المشاهد المتعلقة بأحداث صعدة، فإنّ مواجهة مشاريع التقسيم والتفتيش والحروب الأهلية الطائفية لا تتحقق إلا بمشروع وطني ديمقراطي. ذلك أنّ حركة التحرر الوطني والقومي العربية ما كانت لتنجح في حروب الاستقلال ضد الاستعمار وركائزه العميلة بدون إشراك المجتمع في إطار مشروع سياسي وثقافي وطني وقومي استقطب المجتمع العربي بكل طوائفه وتياراته الفكرية ومذاهبه الدينية وقواه السياسية.
ولئن كان غياب الديمقراطية في المشروع السياسي والثقافي لحركة التحرر الوطني العربية أدى إلى انحرافها وسقوط منجزاتها تحت قبضة الاستبداد الداخلي بعد التحرر من الاستعمار الأجنبي، فإن التخلص من الاستبداد والهيمنة والتبعية والحفاظ على السيادة والوحدة والاستقلال وإطلاق مفاعيل النمو لا يمكن أن يتحقق بدون مشروع وطني وديمقراطي يستوعب كل القوى المعارضة للاستبداد والديكتاتورية والقمع من كافة الطوائف والتيارات في مختلف البلدان العربية.
مما له دلالة أنّ الحكام المستبدين حرصوا دائماً عبر كل مراحل التاريخ القديم والحديث، على إضفاء شرعية دينية على أنظمتهم. وكان ذلك سبباً في الاستعانة بالمذهبية لإضفاء الشرعية على تسلطهم وجبروتهم على غرار ما فعله نظام الإمامة في اليمن قبل قيام ثورة 26 سبتمبر وقيام النظام الجمهوري في عام 1962م.
ويعلّمنا التاريخ أنّ الدولة الدينية – سواء في التاريخ الإسلامي أو المسيحي – كانت وسوف تكون دولة مذهبية طائفية بامتياز، وأنّ حروب الطوائف كانت وسوف تكون أيضاً نتاجاً للدولة الدينية سواء تسترت بالإسلام أو المسيحية.. فالصراع بين إيران الصفوية وتركيا العثمانية لا يمكن قراءته بدون إدراك الأطماع والأهداف السياسية التي دفعت السلاطين الصفويين من ذوي الأصول التركية في إيران الى إعتناق المذهب الشيعي مقابل قيام سلاطين تركيا العثمانية، باعتناق المذهب السني لإضفاء الشرعية الدينية على تسلطهم واستبدادهم وفسادهم، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ سلاطين الدولتين الصفوية والعثمانية كانوا بعيدين كل البعد عن المذهب الشيعي والمذهب السني، حيث تسبب هذا الصراع في إضعاف وحدة العالم الإسلامي وتهيئته للوقوع في قبضة الاستعمار الأوروبي بعد قيام الثورة الصناعية. وهو ما يجب التنبه إليه والحذر منه عند قراءة المشاريع الطائفية التي يجري تسويقها في العديد من البلدان العربية والاسلامية .