ينتظر اللبنانيون ربما “غودو” (الأمل) الذي لن يأتي على الأرجح، ولكن لعلّ وعسى.. أما الخراب فهو آت لا محالة.
مع ذلك، تريد سلطة “نزل السرور” هذه، كما وصفها الفنان زياد الرحباني في إحدى مسرحياته عشية الحرب الأهلية، أن تفرض شروطها في المفاوضات بشأن ترسيم الحدود والخطوط البحرية، وفي تقاسم حقول النفط والغاز مع إسرائيل، وهي لا تعرف أي خطوطٍ تريد، ضائعة بين الخطين 23 و29، ولا ما إذا كان « حقل قانا » الذي تصر عليه يحتوي فعلا على الغاز أم لا، وتهدّد بأنها لن تسمح لإسرائيل باستغلال « حقل كاريش » المتنازع عليه، فيما الدولة العبرية قطعت أشواطا في هذا الملف المصيري، وباتت على قاب قوسين من البدء باستخراج النفط والغاز. لأن التنقيب قد شارف على النهاية، وتسويقه خلال الأشهر المقبلة إلى الاتحاد الأوروبي الذي وقعت معه، قبل أيام، اتفاقا في هذا الخصوص، فقرّرت السلطة اللبنانية الفاشلة والمهترئة، وغير المتفقة على شيء، الاحتجاج والاستنجاد بالوسيط الأميركي، آموس هوكشتاين، الذي جاء وجال على السلطة متعدّدة الرؤوس، واستمع إلى آرائها واقتراحاتها التي حاولوا الإيحاء، والقول إنها واحدة موحدة ومتفق عليها. وعشية مغادرته سخر، عبر قناة “الحرة”، من كل ما سمعه، ناصحا المسؤولين: “يجب التوقف عن التفكير إذا كان هذا من حقي، بل التساؤل: ما هي التسوية التي لن تسمح لي ربما بالحصول على كل ما أريد وإنما على أكثر مما لدي الآن”، ليختم مستهزئا: “لبنان لا يملك شيئا الآن، وعليه أن يقبل ما يعرض عليه”.
وفيما راح أركان السلطة يتباهون بأنهم قالوا كلمتهم وأصرّوا على الخط 23، وعلى أن حقل قانا غير قابل للتفاوض، وأنهم لن يسمحوا لإسرائيل باستخراج النفط من حقل كاريش. غادر هوكشتاين إلى تل أبيب، على أمل أن يعود بالجواب، إلا أنه من هناك قفل عائدا إلى الولايات المتحدة، معتبرا على الأرجح أنه قال ما يجب أن يقوله، ولم يعد لديه ما يقدّمه. ولم يكلف أي من المسؤولين نفسه بالرد أو التعليق على ما ساقه هوكشتاين من كلام مهين، حتى حزب الله الذي نصّب نفسه مؤتمنا على الحدود والثروات النفطية والتحرير ومتوعدا في البداية إسرائيل، عاد وتلطّى خلف موقف الحكومة، والتزم الصمت، وتغاضى عن الإهانة، بعدما كان أمينه العام، حسن نصرالله، قد وصف الوسيط الأميركي بأنه “وسيط غير نزيه ومنحاز”. لماذا؟ هنا يبرز سؤال مهم عما إذا كان حزب الله يعتبر ملف ترسيم الحدود البحرية والاستفادة من الثروات النفطية ملفا لبنانيا حيويا استراتيجيا بامتياز، من شأنه أن ينقل لبنان من حالة الانهيار التي يغرق فيها إلى حالة الدولة المتعافية اقتصاديا أم يعتبره ورقة تكتيكية في خدمة الاستراتيجية الإيرانية التي لم يحن وقت وضعها بعد على طاولة المفاوضات مع واشنطن، المتوقفة حاليا في فيينا والمفاوضات المتعثّرة في المنطقة، سوريا وعراقيا ويمنيا.
غير أن هذه السلطة الضعيفة والفاسدة والمهترئة، والتي خسرت في الانتخابات، أخيرا، أكثريتها النيابية التي تغنّى بها قائد فيلق القدس الايراني السابق، قاسم سليماني، عام 2018، ما زالت تمارس العنتريات على اللبنانيين، وتمارسها أيضا على بعضها، غير آبهة بالخراب الذي تأخذ البلد إليه، فها هو البرلمان بحكم المشلول، لأن لا أكثرية راجحة فيه لأي طرف، والحكومة التي استقالت، كما يقتضي الدستور عند إجراء انتخابات برلمانية جديدة، وحتى حينه لا حكومة، وعلى الأرجح لن يكون هناك حكومة في المدى المنظور. وفي حال حصل ذلك في القريب، يبدو تشكيل الحكومة مهمة شبه مستحيلة، أولا لعدم وجود أكثرية من شأنها أن ترجح كفة التأليف، وثانيا ليس أمام الحكومة الجديدة إذا شكلت أكثر من مدة ثلاثة أشهر للعمل، إذ يجب انتخاب رئيس جديد للجمهورية قبل نهاية أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، ما يفرض عندها استقالة الحكومة.
وثالثا بما أن عدم القدرة على انتخاب رئيس جديد ضمن المهلة الدستورية المحدّدة احتمال قوي جدا، ما يعني الذهاب إلى فراغ في موقع الرئاسة، وهذا يجعل من الحكومة القائمة أن تبقى وتستمر في إدارة البلاد، حتى انتخاب رئيس. من هنا، تصبح السيطرة على الحكومة التي يجب أن تتشكل الآن هدفا مفصليا بحد ذاته. ولهذا السبب، ماطل الرئيس عون في الدعوة إلى الاستشارات النيابية، لضمان أن تكون له الغلبة في تسمية الوزراء مع من سيسمّى للتشكيل، والأمر نفسه سيفعله رئيس الحكومة، بعد تكليفه، لكي يضمن تركيب فريق حكومي يكون له فيه الأرجحية. وبين الشد والأخذ والرد، ربما في حال جرى اختيار شخصية لرئاسة الحكومة، لن يكون لدى هذه الأخيرة متّسع من الوقت، ولن تسمح لها الشروط والشروط المضادّة، من التشكيل قبل انتهاء ولاية رئيس الجمهورية. إذ يدعم الفريق السياسي الشيعي الذي يمثله حزب الله وحركة أمل عودة ميقاتي إلى رئاسة الحكومة، بعد أن خرج سعد الحريري من الساحة، وتمت لهم بعثرة التمثيل السني في البرلمان. أما الأحزاب المعارضة، بدءا من النواب الجدد الذين يمثلون حركة 17 أكتوبر (2019) وقد تؤدي الفوضى والغرق في الحسابات والزواريب الضيقة إلى بقاء ميقاتي رئيسا للحكومة الحالية المستقيلة التي تصرف الأعمال، ويستمر ميقاتي في إدارة البلد في حال عدم التوصل إلى انتخاب رئيس كما حصل عام 2014 عند انتهاء رئاسة ميشال سليمان، واستمرار حكومة تمام سلام في إدارة السلطة والصلاحيات سنتين ونصف السنة حتى نهاية 2016. وفي المحصلة، ميقاتي هو الرابح من بقائه اليوم على رئاسة الحكومة المستقيلة، وهذا ما لا يريده فريق رئيس الجمهورية، ولكن ليس في اليد حيلة! غير أنه العيش على النكايات والتلهي بالصغائر والفتات من أطراف طبقة سياسية بأكملها عديمة الحسّ بالمسؤولية، وغير قادرة على اتخاذ أي قرار سوى الاستمرار بلعبة خراب البلد، بعد أن قال عون قبل سنة إن لبنان ذاهب إلى جهنم!