لم يسبق للفلسطينيين أن وجدوا أنفسهم كالأيتام على مائدة اللئام كما حدث منذ انكسار موجة الانتفاضة الثانية. ولم يسبق أن كان الإحساس جارحاً ومؤلماً كما حدث في السنوات القليلة الماضية.
محامي العقارات، وسفير ترامب السابق في إسرائيل، الذي يشبه كائناً فضائياً نشر كتاباً بعنوان “المرزبّة: كيف جلبت القطيعة مع الماضي السلام إلى الشرق الأوسط” تكلّم فيه عن عبثية محاولات ومبادرات “السلام” السابقة، وأسباب فشلها.
أما لماذا عبثية، فيمكن حتى للأهبل أن يعثر بين السطور على فلسفة “سلام إبراهيم” وصنّاعه وشركاه: “الأرض مقابل السلام”، والحقوق غير القابلة للتصرّف، والشرعية الدولية كلام فاضي، وما من طريقة لصنع السلام سوى التلويح بدفتر الشيكات والمرزبّة، يعني: إنكار حقوق الفلسطينيين، والتعامل مع قضايا الاستعمار والتحرير كقضايا عقارية.
ثمة الكثير من الجهل، وخفّة اليد، والبذاءة والانحطاط الأخلاقي في لغة الكائن الفضائي المذكور. والأدهى أن صفات كهذه لا تنحصر فيه، أو تقتصر عليه، بل هي ما وسم، وما زال، تحوّلات وسياسات وشخصيات في الإقليم والعالم.
لذا، لا أجد عبارة تختزل مشاعر الفلسطينيين على مدار العقدين الماضيين، خاصة في السنوات الأخيرة، أكثر بلاغة من “يا وحدنا”، الصرخة التي أطلقها محمود درويش في حرب وحصار بيروت 1982. والفرق بين صرختين تفصل بينهما اليوم مساحة زمنية عمرها أربعة عقود:
أن الفلسطينيين كانوا موحّدين تحت راية منظمة التحرير في زمن “يا وحدنا” الأولى، بينما شتت الإسلام السياسي، وانهيار الحواضر، وطمع الهوامش الصحراوية فيهم، شملهم في زمن الثانية، وبينهم الآن من لا يعترف بشرعية المنظمة، ووحدانية تمثيلها للشعب، ومن يسعى للاستيلاء عليها وراء الستار، وفي وضح النهار.
ومع تدهور المنظمة، وانهيار الرهان على أوسلو، ووقوع السلطة أسيرة في قبضة الاحتلال، مع ما لهذا كله من تداعيات ودلالات، يمتزج ما وسم الصرخة الأولى من مشاعر الأسى والكبرياء بمشاعر الحيرة، والشلل، وتجريح الذات، والذعر من فقدان الأمل في الثانية، في أفق يبدو قاتماً، وكأن العذاب أفقدنا الصواب.
ويحدث، في أفق كهذا، ومع أوجاع في الرأس، وجراح في الجسد، معنوية ومادية، أن تُقتل برصاص الاحتلال مراسلة لفضائية يمقتها، أي الفضائية، عدد لا بأس به من الفلسطينيين، فينقلب المشهد رأساً على عقب، يهب الفلسطينيون، في البلاد والمنافي، أمة واحدة، يعبّرون عن انفسهم، يتظاهرون، ويبكون، ويشيعونها، بعدما نصّبوها أيقونة، واسماً من أسمائهم الحسنى، كأمة واحدة.
فما الذي حدث ولماذا؟
بداية، ودون الوقوع في غواية الشعبوية، إذا كنّا في معرض التدليل على حقيقة أن الروح الوطنية أعلى من الانتماء الديني، والطائفي، والطبقي، والجهوي، والحزبي والأيديولوجي، فإن في حادثة تحويل شيرين أبو عاقلة إلى ابنة للشعب، وواحدة من أيقوناته الحزينة والثمينة، ما يكفي من الدليل والبرهان. التعالي على الانتماءات الفرعية هو ما يجعل من جماعة من الناس شعباً بألف ولام تعريف كبيرتين.
الروح الوطنية، بهذا المعنى، لا تميّز بين رجل وامرأة، ولا تمنح لأحد أولوية على الآخر، فكلاهما لا يستمد قيمته من معطى سابق، وجوهر ثابت. وبهذا المعنى، أيضاً وأيضاً، وفي حالة شيرين، بالذات، تضيف الأمة الفلسطينية نقطة إضافية إلى رصيدها الوطني، فيها ما ينتمي إلى ميراث “حارسة نارنا المقدسة”، لا إلى بدعة صور الورد بدلا من الصور الشخصية في ملصقات للدعاية الانتخابية.
وإذا كنّا في معرض التدليل على حقيقة أن هوية الأمة الفلسطينية أصلية وأصيلة، قوية وراسخة في الزمان والمكان، على الرغم من مرزبّة الكائن الفضائي، وطعنات الظهر الغادرة من القريب والبعيد، وخيبات الأمل، والانكسارات، فإن في الحادثة نفسها ما يكفي من الدليل والبرهان. وإذا كنّا في معرض التداوي من جراح نرجسية بقليل من الزهو، فلنقل على طريقة محمودنا، وبعبارته “لا شيء يكسرنا”.
بيد أن هذه الدلالات لا تختزل المشهد برمته:
فشيرين أبو عاقلة كانت وجهاً مألوفاً لدى ما لا يحصى من الناس، ولم تكن ذات نبرة خطابية، ولا كانت جزءاً من مشروع لتعويم الإسلام السياسي، بل أدت دورها، الذي انطوى على قدر من المخاطرة، بمهنية وصدق، ناهيك عن براءة الملامح، وبساطة التعبير والأداء.
وعلاوة على هذا كله، تصادف أن عملية قتلها وقعت أمام الكاميرا، أيضاً، في مخيم جنين، الذي صارت له مكانة أيقونية في سردية الدم والبقاء منذ “جنين ..جنين” لمحمد بكري، ومروراً بمسرح الحرية، وحتى مقتل شيرين.
وعلى الأرجح، أثارت محاولة إغماض عين الكاميرا بالرصاص عصباً نافراً في الجسد الجمعي للفلسطينيين، فهم يموتون كل يوم، ولا يأبه أحد، إلا أن عين الكاميرا تشهد على جنون القاتل، وتواطؤ العالم، كما تشهد لهم، وما أدراك كيف يكون الحال إذا صارت حتى شهادة الكاميرا عصيّة المنال.
وقد اجتمعت كل هذه الدلالات، والتفاصيل الصغيرة، معطوفة على إحساس مروّع بـ”يا وحدنا” لتصنع ما يشبه صعقة كهربائية في الجسد الجمعي للشعب، فهبت واستجابت كل خلية في جهازه العصبي الواحد الموّحد في وقت واحد.
ثمة ما يتعلّق بموقف الإسرائيليين من الوحدة الرمزية المفاجئة للفلسطينيين، وطريقة انتخابهم لأيقونة وطنية. لا يوجد في الكون من يفهم الآخر أكثر منّا ومنهم. وهذا يستدعي معالجة لاحقة. وثمة مسألة تتعلّق بجواز الترحّم على امرأة عمّدها الشعب ابنة وأيقونة. وهذه تستحق معالجة لاحقة لتحرير خطاب الوطنية من لغة المُدوّنة الفقهية وحقلها الدلالي.
لدينا وعلينا الكثير. فالأيقونة لا تحتمل بلاغة تقديس مُفتعل، بل تستحق خطاباً يضيف إلى رأسمالها الرمزي، ولا يعتاش أو يسطو عليه.
khaderhas1@hotmail.com
- كاتب فلسطيني