جدل في فصل الدين عن الدولة وحرّية العقيدة ومساواة الجميع على اختلاف مذاهبهم
نُفي ابن رشد إلى بلدة يسكنها اليهود وأُخرجَ من المسجد بعد أن أمر المنصور بمنع الفلسفة وإحراق كتبها
مع أن فرح أنطون (1874- 1922) شكّل صوتاً مهمّا في محاولات النهوض العربية في العصر الحديث إلاّ أن اسمه لا يحظى بالشهرة نفسها التي حامت حول بعض معاصريه كالشيخ محمد عبده وقاسم أمين.
كتاب أنطون (إبن شد وفلسفته) التي أصدرته « دار الفارابي » في بيروت، يكشف لقارئه: كيف أنّ العرب، والمسلمين منهم خصيصاً، لم يستفيدوا من فكر هذا العقلاني الكبير الذي يشير اسمه إلى الهويّة المسيحية العربية؟
في هذا الكتاب، على وجه الخصوص، يستطيع القارئ أن يتعرّف على أبرز ملامح فكر أنطون وتميّزه عن بقية معاصريه، وأبرزهم محمد عبده الموصوف بـ(الأستاذ). الكتاب يتناول حياة وفلسفة ابن رشد وزمنه، من خلال مقالات نشرها أنطون في مجلة (الجامعة)، مع ردود، أولى وثانية وثالثة ورابعة وخامسة وسادسة، عليها من قبل الشيخ محمد عبده نشرت في المجلة نفسها، وقام أنطون بتلخيصها وعرضها بشكل موسّع وواضح قبل أن يعقّب عليها في جدل ملفت ومثير في حججه ومعلوماته.
في هذا المستوى، يكون الكتاب قد قدّم ثلاثة أعلام فكرية مهمة، في تاريخ الثقافة العربية، هم ابن رشد وفرح أنطون ومحمد عبده، ليس من خلال التعرّف على جوانب من تاريخهم وسجالاتهم، فحسب، بل والاقتراب من أفكارهم التنويرية التي شكّلت انعطافات غير مسبوقة نحو تعزيز مكانة العقل، والنظرة العلمية للكون والحياة. هذه الأفكار، الرُشدية تحديداً، على الرغم من مواضيعها الميتافيزيقية والكونية والإنسانية الكبرى، نجدها في متناول سهل، بلغة فرح أنطون المبسّطة والعميقة في آن وأحد.
هكذا يمكن للقارئ أن يتفهم جدل المعرفة لدى ابن رشد، حول: العالم ووجوده، الإنسان وحرّيته، العقل الخالد العام والفاعل الذي ينفصل عن المادة ويضم كل تجارب النّاس ويبقى خالداً، والعقل الخاص المنفعل الفاني مع جسم الإنسان، وما يجمع الحكمة والشريعة ويصل ما بينهما. وكذلك آراء أنطون في: فصل الدين عن الدولة كضرورة نهضوية، وحرّية العقيدة وحقوق الإنسان وتأكيد مكانة العقل. أو كما دعا عبده: للعودة إلى الإسلام الأول النقي، والتوجه بعد ذلك نحو الغرب؛ وتبشيره بمستقبل يسود فيه دين الإسلام وحده، وقوله بعدم فصل الدين عن الدولة.
العدو المشترك
من أبرز السجالات، ما بدا في محاولة محمد عبده العمل “على هدم المسيحية كدين لا عقلي”، من موقع (عقلي إسلامي)؛ ليرد عليه فرح أنطون: “أن مثل هذه المهمة زائفة عقلياً، لأن هدم أسس المسيحية كدين هو بمثابة هدم أسس الدين عموماً، أي كل دين، بما في ذلك الإسلام”. وذلك “لأن كل دين يقوم على أساس ما ورائي لا عقلي”.
و”إذا كان الأمر كذلك، فليحُجِم محمد عبده وغيره من مثل هذا النقد المسدود الآفاق، ويجلس على مائدة الحوار الوطني العلماني العقلاني مع الآخرين لحل مشكلاتهم المشتركة والالتفات إلى الكفاح ضد العدو المشترك، التخلف والانقسام في الداخل، والأغوال الهائلة المسلحة بالأسلحة الجهنمية في الخارج”. وليتضمن الحوار “الإقرار بمجتمع مدني يقوم على الحرّية والتآخي والإنسانية، ومن ثم على فصل الديني عن الزمني، والعلم، والعقل، والوطنية”.
وإذْ يعترض محمد عبده على احتمال ذلك الفصل بين السلطتين اعتقاداً بأن: “المَلك الذي يحكم الأمة كيف يمكنه التجرد من دينه…؟”. فإن الإجابة الأنطونية تنطلق من تحديد دواعي ذلك الفصل، وهي: “إطلاق الفكر الإنساني من كل قيد خدمة لمستقبل الإنسانية”، و “الرغبة في المساواة بين أبناء الأمة، مساواة مطلقة بقطع النظر عن مذاهبهم ومعتقداتهم ليكونوا جميعاً أمّة واحدة”، وأنّ “الأديان شُرّعت لتدبير الآخرة لا لتدبير الدنيا”، حسب أنطون، وسيستمر “ضعف الأمة إلى ما شاء الله ما دامت جامعة بين السلطة المدنية والدينية”، فمع تعدد العقائد تكون “استحالة الوحدة الدينية”.
يقرأ الفلسفة سرّاً
يتناول أنطون نشأة ابن رشد وأسرته، وازدهار الفلسفة في الأندلس قبيل ولادته، وفي عصره، ثم اجتماع البعض على كره الفلسفة، وإنصات الخليفة المنصور إلى وشاياتهم، ليصدر منشوره بمنع الفلسفة، وأمرهِ بإحراق الكتب سوى كتب الطب والحساب والمواقيت. ومع هذا، كان المنصور يدرس كتب الفلسفة في السر ويخفي أمره. بدت محنة أبن رشد مع معاناته من الاضطهاد جراء تأويل أفكاره والوشاية به لدى الخليقة، ومن ثمّ نفيه إلى بلدة(اليسانة) القريبة من قرطبة، التي يسكنها اليهود، حيث بقي فيها حتى قبل وفاته بسنة. ولعل في ما يذكره عن بعض ما واجهه، نكتشف مدى حجم المحنة التي عاشها، إذ يقول: “أعظم ما طرأ عليّ في النكبة أنّي دخلت أنا وولدي عبدالله مسجداً بقرطبة وقد حانت صلاة العصر فثار لنا بعض سفلة العامة فأخرجونا منه”.
ورغم ارتباط ابن شد بالمسجد، كما في قوله هذا، وهو قاضي القضاة الساعي إلى التوفيق بين الحكمة والشريعة، فإنّ أقوال المشككين بعقيدته ووشايات المنتفعين من تغييبه لم تتوقف، ربّما حتى بعد مئات السنين من وفاته، ولهذا اعتبروه يهودياً حيناً، ومسيحياً حيناً آخر، وكافراً في أحايين كثيرة.
شروحات ابن رشد لأرسطو كانت هي مدخل الأوروبيين لفكر هذا الفيلسوف. وكان اليهود أوّل من نقل كتب ابن رشد إلى العبرية واللغات الأوروبية، وبذلك حفظوا معظمها من الحرق والضياع، فتاريخ الفلسفة الرشدية، حسب أنطون، إنما “هو تاريخ الفلسفة اليهودية والفلسفة الأوروبية”. قبل انتشار فلسفة ابن رشد في أوروبا، مع ميخائيل سكوت عام 1230 كانت الفلسفة فيها “عبارة عن تعاليم لاهوتية مجموعة من عدّة كتب مختلفة مما كتبه أصحاب المذاهب اللاتينية”. فلما دخلت فلسفة العرب “حصلت أوروبا بذلك على مجمل فلسفة أرسطو أي مجمل دائرة المعارف القديمة”.
القديس توما وقف ضد الفلسفة الوافدة، التي بدت قادرة على المواجهة والانتصار، لكن ذلك كان إلى حين، حيث انتشرت الفلسفة اليونانية وحلّت مكانها. مع هذا فإن الفلسفة الحديثة أزالتهما معا في ما بعد. فقد “تحملت فلسفة ابن رشد هجمات أنصار أفلاطون واللاهوتيين و « مجمعي لاتران » وترانته واضطهاد ديوان التفتيش، وردّت الجميع على أعقابهم خاسرين، ولكنّها لم تستطع التغلب على الفلسفة الحديثة الجديدة المبنية على التجربة والامتحان والمشاهدة”. فلسفة ليونار دي فنسي وبرنو وساري واكونريو و”غاليله الذي غيّر وجه الأرض باكتشافه دوران الأرض” وديكارت ولوك ولببنز ونيوتن وفرنسيس باكون.
*علي المقري*، روائي وكاتب يمني
موضوع الاستاذ والصديق القدير علي المقري ممتع؛ لافت؛ ورائع… كل المحبة والتحية له؛ ولشفاف العظيم
هذا بالضبط هو محور روايتي دعوة فرح التي تناولت في شكل مذكرات فرح أنطون، التي افترضت أنه كتبها لأخته روزا يشرح خلالها أفكاره وصراعات هجرته إلى الإسكندرية، قبل أن تلحق هي به هناك. ثم تخيلت السر وراء سفره إلى نيويورك وسر موته في ريعان شبابه، فتخيلت مرضه بالسل الذي كان سائدا في العالم في ذلك الوقت. تتناول الرواية من خلال مذكراته المخترعة تلك التفاصيل المتوالية إلى جانب كتاباته المنشورة في جريدة الجامعة التي أصدرها ردود الشيخ محمد عبده عليها المنشورة عبر جريدة المنارة التي كان يصدرها الشيخ رشيد رضا والذي كان المعلم والمرشد للإمام حسن البنا مؤسس جماعة الاخوان المسلمين… Read more »