يخطئ المتابعون للمشهد السياسي الاميركي عندما يكتفون بمتابعة سياسات الحزبين الرئيسيين اذ يفوتهم الالمام بالصورة الشاملة للحياة السياسية ويهملون قوى مؤثرة تلعب دورا لا يستهان به، يتصاعد احيانا حسب الظروف المتغيرة لتصبح هذه القوى لاعبا اساسيا على الساحة السياسية.
ونقصد هنا بشكل خاص قوى اليمين المتطرف الاميركي الذي رافق التاريخ الاميركي منذ القدم، ومن اهم تجلياته انصار التفرقة العنصرية الذين تأطروا في منظمات ومجموعات تغطي جميع الولايات ويتغير تأثيرها في الحياة السياسية الاميركية صعودا او هبوطا حسب المتغيرات المتعددة في المراحل المختلفة.
أحصت منظمة المجتمع المدني SPLC المتخصصة بملاحقة مجموعات الكره “Hate Groups” كما تسميها، ما يزيد عن 830 مجموعة فاعلة في جميع الولايات الاميركية، منها بشكل خاص منظمة « الكوكلاكس كلان »، الاسم الذي يطلق على عدد من المنظمات الأخوية القديمة التي تؤمن بتفوق الجنس الأبيض وتعادي السامية والكاثوليكية، وكانت تستخدم الحرق على الصليب ضد مخالفيها وخاصة الافارقة، ولها مجموعات لا تزال تعمل حتى اليوم باساليب ملتوية لتفادي الملاحقة. وهناك النازيون الجدد و“القوميون البيض“ وانصار تفوق الجنس الابيض، وانصار الهوية المسيحية، والكونفدراليون الجدد، ومعادي المهاجرين، ومعادي المسلمين، وغيرهم. علما انه وفقا لإحصاءات السكان عام ٢٠١٦، يشكل البيض ٦٢ % من إجمالي السكان وذوي الأصول اللاتينية (هسبانيك) ١٨ % بينما ذوي الأصول الإفريقية نحو ١٣ % وذوي الأصول الأسيوية نحو ٧ %. غير أن معدل وفيات البيض زاد عن معدل مواليدهم، كما يحصل نحو مليون مهاجر سنويا على الجنسية الأمريكية معظمهم من غير البيض.
وهناك منظمات برزت مؤخرا في احداث متعددة اهمها الهجوم على الكونغرس في يناير الماضي، كحركة“ كيوآنون“ Q-Anon التي تؤمن بنظرية المؤامرة التي تقول ان هناك خطة سرية مزعومة لما يسمى “الدولة العميقة“ في اميركا ضد الرئيس ترامب وأنصاره حاكها الديموقراطيون. وانه تم اختراق الحكومة الأمريكية من قبل حلقة دولية من مشتهي الأطفال وعبدة الشيطان وقد تم وضع ترامب في السلطة لمحاربتها. وقد شق المؤيدون للحركة طريقهم إلى الكونغرس بفوز مارجوري تايلور غرين المؤيدة لكيو آنون في جورجيا في انتخابات العام 2020، ويتهيأ آخرون للترشح في الانتخابات التشريعية القادمة. وبحسب مرصد «ميديا ماترز» فقد ترشح نحو 40 شخصا يؤيدون نظريات «كيو آنون» لانتخابات الكونغرس عام 2022، وهو رقم قياسي يشير إلى تصاعد حضورها ضمن البيض المتشددين جمهورها الرئيسي. وقد صنف مكتب التحقيقات الفيدرالي المنظمة كمنظمة خطيرة.
وكذلك منظمة Proud Boys أو “الأولاد الفخورون“ التي تأسست عام 2016 بالتزامن مع ترشح ترامب للرئاسة، وهي جماعة يمين متطرف توصف بأنها «جماعة كارهة للنساء معادية للمسلمين وللهجرة، وتتشكل من ذكور بيض فقط، تتبنى الأيديولوجية الفاشية الجديدة و“الدفاع عن قيم الغرب“، مؤيدة لترامب الذي مدحها خلال مناظرته مع بايدن. وصف اعضاؤها أنفسهم بـ “الشوفينيين الغربيين“ وأعلنوا استعدادهم لتنفيذ أعمال عنف نيابة عن الرئيس ترامب. ونفذوا هجمات عنيفة ضد أعضاء حركة “حياة السود مهمة“BLM في المظاهرات المناهضة للعنصرية.
جماعات تفوق العرق الابيض White Supremacists، تضم طيفا من المجموعات والمنظمات ومنها “حراس القسم“ التي تجند المحاربين القدماء، و“حليقو الرؤوس“ الذين يتميزون بحلق رؤوسهم كليا والاكثار من الوشم على اجسادهم، واحذيتهم ذات رؤوس معدنية مدببة لمهاجمة خصومهم. و“النازيون الجدد“ الذين يوجهون كراهيتهم لجميع الاقليات وخاصة اليهود بدعوى رفضهم الاندماج في العرق الابيض، ويعتقدون ان اميركا تدهورت اوضاعها من فقدان التجانس والوعي العرقي. وكذلك “اليمين البديل“ Alt- Right، واتت تسميتهم من اتهامهم اليمين التقليدي وخاصة الحزب الجمهوري بالضعف امام اليسار الليبرالي، ويعتقدون ان “الهوية البيضاء“ تتعرض لهجوم من الاعراق غير البيضاء بغرض تقويض سلطة البيض وحضارتهم، فالعرق بالنسبة لهم مسألة مهمة كاساس للهوية، واميركا يجب ان تعود لاصولها الانجلو ساكسونية البروتستانتية. ويكاد شعار ترامب “جعل اميركا عظيمة مجددا، MAGA تعبير آخر ملطف عن نفس المعنى. ويتواصل العديد من مجموعات اليمين المتطرف الاميركي مع امثاله في دول اوروبية تشهد بدورها صعودا كبيرا في قوتها ونفوذها في الساحة السياسية الاوروبية.
ذكرنا بعض مجموعات اليمين المتطرف الاكثر شهرة ولكن حصرها جميعا مسألة صعبة. كما لا يعرف العدد الدقيق لاعضاء هذه المجموعات ولكنها تقدر بمجموعها بمئات الالوف.
ومن الضروري الانتباه لاحد الاوجه المهمة لقوة اليمين المتطرف، وهو الميليشيات المسلحة التي تستغل سماح الدستور للاميركيين باقتناء وحمل السلاح من مسدسات وبنادق آلية، لتشكيل مجموعات مسلحة تعمل بين العلنية والسرية، وتقوم احيانا بعمليات مسلحة اكبرها كان تفجير اوكلاهوما عام 1995 واطلاق الرصاص في كنيس بترسبورغ عام 2018. وبعضها متخصص في مهاجمة المظاهرات التي ينظمها انصار الدفاع عن حقوق الاقليات والديمقراطيين الليبراليين عموما. واذا احصيت عدد هجماتهم فانها اكثر من هجمات المتطرفين الاسلاميين في اميركا. وبعد ان كانت العديد من المجموعات المسلحة توصف بأنها “خفية“ و“مستترة“ اصبحت في عهد الرئيس ترامب اكثر جرأة في ظهورها العلني وفعالياتها. فهي تتدرب على القتال في مناطق ريفية وتكثف انشطتها عبر الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. ومن المجموعات المسلحة العديدة برزت اسماء مثل Boogaloo Bois التي تدعو لحرب اهلية عرقية وللاطاحة بالحكومة الاميركية ومجموعة “الثلاثة بالمئة“ وغيرهم.
العديد من المحللين السياسيين الاميركيين استهانوا بقوة ونفوذ اليمين المتطرف الى ان فاز ترامب بالرئاسة مما مكن من صعود اليمين المتطرف ليصبح قوة لا يستهان بها في الساحة السياسية. واوضح تعبير عن ذلك انه وصل الى حد الهجوم على مبنى الكابيتول رمز الديمقراطية الاميركية العريقة، محاولا الانقلاب على السياسيين من الحزبين التقليديين لانجاح ترامب مرشحهم المفضل بحجة ان الانتخابات سرقت وزورت، رغم انف نتائجها التي اكدت فوز بايدن. وقد تأكد من التحقيقات الجنائية مشاركة ابرز المجموعات اليمينية في الهجوم من ملابسهم ولافتاتهم واعلامهم وعلامات اخرى. فقد سعت بعض جماعاتهم لاخفاء حضورها فيما تباهت اخرى بانتماءاتها. ومن المتوقع ان التحقيق سيظهر ان الهجوم على الكابتول لم يكن مظاهرات سلمية تحولت عفويا للعنف لاحتلال المبنى، ولكنها عمل مدبر، شبه انقلاب مخطط له مسبقا من قيادات يمينية متطرفة وجماعات موالية للرئيس ترامب، التي يعتمد عليها اكثر من اعتماده على الكثيرين من الحزب الجمهوري المعارضين لبعض سياساته رغم التوافق في السياسات العامة المحافظة واليمينية.
نستطيع ان نجْمل سياسات اليمين المتطرف الاميركي التي تجمع معظم منظماته ومجموعاته رغم تشعباتها المتعددة، بمعــاداة الأجانــب ورفض فكرة التعددية الثقافية وتصوير المهاجرين كمهددين للهوية الوطنية ومتسببين للبطالة والجريمة، ومستغلين لما توفره دولة الرفاه. ومنع الهجرة من البلدان ذات العروق الملونة، ومنع الملونين الاميركيين واليهود والاقليات الدينية غير البروتستانتية من الوصول لمواقع السلطة والنفوذ، وعلى هذا الاساس قاوموا بشدة وصول جون كينيدي الرئيس الكاثوليكي الاول وباراك اوباما الرئيس الاول من اصل افريقي. بالاضافة لمعارضة سياسات الرعاية الاجتماعية ومقاومة تعديل الدستور للحد من اقتناء وحمل المواطنين للسلاح، ورفض حرية الاجهاض ومعارضة اعطاء حقوق مساوية للمثليين. وتتأرجح مواقفها من النظام الديمقراطي بين محاولة الاستفادة مما يوفره من امكانية النشاط العلني، وبين تفضيل العنف لتحقيق الاهداف بشكل اسرع من الوسائل الديمقراطية. فالفرق بين اليمين التقليدي واليمين المتطرف أن الأول يسعى دوما لتحقيق اهدافه من خلال الوسائل الديمقراطية، فيما الثاني يدعو للتدخل القسري واستخدام العنف لتحقيق نفس الاهداف. وعندما تفضل بعض مجموعات اليمين المتطرف الوسائل الديمقراطية فهي تتبع اسلوب ثبت نجاح استعماله من قبل اليمين المتطرف الاوروبي الذي بات مشاركا في حكومات وبرلمانات ومنها حتى البرلمان الاوروبي. وهي من خلال تنسيق بعض مجموعاتها مع اليمين المتطرف في اوروبا يمكن ان تصل لحد المطالبة بفرض هيمنة العرق الابيض على العالم.
بعد تاريخ طويل، وجدت منظمات اليمين المتطرف في الرئيس ترامب قائدها الذي يمكن ان يحقق اهدافها او معظمها ان تُركت له الفرصة من قبل الكونغرس والرأي العام الاميركي. ولكن ترامب رغم اعتماده على مؤيديه من اليمين المتطرف كقوة لا يشك بولائها له بعكس بعض قيادات الحزب الجمهوري، فإنه لم يجرؤ بعد على تبنيها علنا خوفا من خسارته قطاعات واسعة من ناخبيه اليمينيين الذين يعارضون اليمين المتطرف وسياساته. واكتفى برفض انتقادها وامتدح بعضها كوطنيين اميركيين. وكان يمكن له ان يغير سياسته تجاهها فيما لو نجحت محاولة انقلابها بعد احتلال مبنى الكابتول ورفض نتائج الانتخابات التي اعطت الفوز لبايدن.
اما الرئيس بايدن فقد اعترف في خطابه في احتفال القسم بان اليمين المتطرف بات خطرا وعدوا لابد من مواجهته. ويتعرض حاليا لانتقادات بسبب عدم اتخاذه لاجراءات كافية رادعة ضده. فيما يرى البعض الآخر ان التصدي للمتطرفين يخشى ان يتحول الى طريقة للتخلص من معارضي النظام . لكن عدد من منظماته وخاصة المسلحة منها، لا يمكن التعامل معها في حدود حرية التعبير وحرية التجمع التي يكفلها الدستور والنظام الديمقراطي. فربما يتطلب الامر تصنيفها ووضعها في قائمة الارهاب مثل منظمات الاسلام السياسي الارهابية، وبالتالي التعامل معها حسب قوانين الارهاب وليس ضمن القوانين الديمقراطية. وحتى الآن لا يوجد قوانين تجعل الانضمام لهذه الجماعات اليمينية المنظمة وخاصة المسلحة منها، جريمة بحد ذاتها، فالقانون الجنائي الاميركي يمكن من توجيه تهم جنائية لحوادث محددة وللاشخاص الذين ارتكبوها وليس للمنظمة التي ينتمون اليها، وهي نقطة ضعف في القوانين تمكنها من الاستمرار رغم تجريم اعمال محددة لها.
ahmarw6@gmail.com