،1في هذه الحلقة سوف أحكي عن ذكرياتي في ثلاث أماكن قمت بزيارتها في فلسطين وإسرائيل.
أولا: كان لا بد من زيارة البحر الميت وهو بحيرة ملحية مغلقة. ويشتهر البحر الميت بأنه أخفض نقطة على سطح الكرة الأرضية، حيث بلغ منسوب شاطئه حوالي 400 متر تحت مستوى سطح البحر حسب سجلات عام 2013. كما يتميز البحر الميت بشدة ملوحته، إذ تبلغ نسبة الأملاح فيه حوالي 34%، وهي ما يمثل تسعة أضعاف تركيز الأملاح في البحر المتوسط، وواحدة من أعلى نسب الملوحة بالمسطحات المائية في العالم. كما يلعب المناخ الصحراوي للمنطقة الذي يمتاز بشدة الحرارة والجفاف ومعدلات التبخّر العالية دورًا كبيرًا في زيادة تركيز تلك الأملاح فيه. ومما زاد من تركيز الأملاح وانخفاض منسوب البحر الميت هو أنه تم إنشاء برك لتبخير المياه وإنتاج البوتاس والمواد الكيماوية الأخرى مثل المنجنيز و المغنسيوم والبروميين في مصانع البوتاس الإسرائيلية، وشركة البوتاس العربية في الأردن. وتحتاج تلك البرك إلى ضخ كثير من مياه البحر الميت وتبخيرها، مما أثّر تأثيرًا كبيرًا على زيادة انخفاض مستوى سطح البحر.
ويُعد البحر الميت مهماً جدًا للصناعة والسياحة في المنطقة، حيث تُعتبر تركيبة مياهه مختلفة عن المياه الطبيعية، باحتوائها على تركيز عالي من الكالسيوم والبوتاسيوم. ويُستغل هذا في مصانع الجانبين الأردني والإسرائيلي. وترجع الأهمية التاريخية والسياحية لمنطقة حوض البحر الميت إلى البحر نفسه وإلى شواطئه، حيث توجد بعض المعالم الأثرية والدينية الهامة في المنطقة مثل مسعدة، وخربة قمران، وكهف النبي لوط، بالإضافة إلى التشكيلات الملحية الطبيعية، وكذلك المناخ السائد فيه. فكلها جعلت من البحر الميت نقطة جذب سياحية عالمية، وخصوصًا فيما يتعلق بالسياحة العلاجية. وتحوي المنطقة على آلاف الغرف الفندقية، حيث تتركز في الجزء الشمالي الشرقي في الأردن، بالإضافة إلى الجزء الغربي المطل على الحوض الجنوبي.
وللأسف عندما ذهبنا للبحر الميت كنا في عز الصيف، وذهبنا في يوم أجازتنا من المشروع في غزة، وقدت السيارة في حر صحراء النقب من غزة إلى البحر الميت على الجانب الفلسطيني (أو الإسرائيلي، لأن إسرائيل تسيطر على الصفة الغربية للبحر الميت). ولما وصلنا هناك فوجئنا بأن درجة الحرارة على شاطئ البحر الميت أعلى كثيرا من أي مكان آخر نظرا للانخفاض الكبير عن سطح البحر. وبالرغم من الجو الحار والرطب التعيس، قررنا تغيير ملابسنا وإرتداء المايوهات والنزول إلى البحر الميت. وكانت تجربة غريبة ولكنها لم تكن تجربة سعيدة لأن البحر الميت، “ميت” بالفعل لا توجد به أي مظاهر للحياة، لا أمواج ولا أي كائنات حية! حتى أني حاولت أن أغطس تحت الماء، فلم أستطع نظرا لكثافة المياه! بل أنك تستطيع أن تجلس فوق مياه البحر الميت وتضع رجل على رجل بدون أن تغطس!!
لذلك فإن الميزة الوحيدة للبحر الميت أنك لا تستطيع أن تغرق فيه حتى لو حاولت الإنتحار!! إلا بالطبع إذا شربت مياه البحر الميت بكمية كبيرة. وعندما تخرج من البحر الميت تشعر بشعور غير مريح لأن كل جسمك يصبح “لزج” وكأنك نزلت في بحر من الطحينة، يعني بالفعل البحر الميت يعمل “من البحر طحينة” على رأي المثل المصري! لذلك كان يجب أن نأخذ دشا بالمياه العذبة والصابون والليفة للتخلص من شعور “اللزوجة” على الجسم..
ووجدنا بعض السياح الأجانب الذين يغطون أجسامهم بالطين المستخلص من البحر الميت على أساس أنه يعالج بعض الأمراض الجلدية وأهمها مرض الصدفية، ووجدنا أن المحلات الإسرائيلية تبيع أي شيء
يتعلق بالحر الميت في زجاجات، فتجد زجاجة مياه مالحة وأيضا زجاجة طين وزجاجة أملاح مستخلصة من البحر الميت، وهذا ذكرني بأعجب هدية وجدتها في القدس: أن بعض المحلات الإسرائيلية تبيع هواء القدس في زجاجات ومكتوب عليها (ذكرى هواء القدس المقدسة). ووجدت بعض المتدينين من كل الأديان يشترون هواء القدس المعبأ في زجاجات للتبرك به!!
ولا أنصح بزيارة البحر الميت لأي صديق إلا إذا كان يعاني من أمراض جلدية وبعد إستشارة طبيبه!!
…
والزيارة الثانية كانت لميناء « أشدود » على ساحل البحر المتوسط، وهو أكبر المواني الإسرائيلية ويقع شمال غزة وجنوب تل أبيب. وكان هناك سببان لزيارة « أشدود »: أولهما بحث إمكانية شحن بضائع المشروع عن طريق البحر بدلا من البر، سواء شحن البضائع من مصر أو من تركيا أو اليونان أو أي بلد قريب جنوب البحر المتوسط، وعرفنا أنه لا توجد خطوط ملاحية مباشرة بين مصر وإسرائيل في ذلك الوقت.
والسبب الثاني كان شراء ملابس شتوية، حيث أنه مرت علينا أيام شديدة البرودة في شتاء عام 1994 ولم نجد ملابس شتوية مناسبة في غزة .ققررنا أنه ما دمنا سوف نزور « أشدود » في زيارة عمل يصبح مناسباً أن نشتري ملابس شتوية.
وعرفنا أنه يوجد « مول » ممتاز في مدينة « أشدود ». فذهبنا إلى « المول »، وطبعا فوجئنا بضخامة المول وتنوع المحلات والبضائع، فاشترينا لوازمنا، وإشتريت أنا شخصيا جاكيت مبطناً ثقيلا جدا أشبه باللحاف، وكنت أشعر بأني أحمله فوق كتفي ولكنه كان يدفئ جدا وظل عندي لمدة تقرب من عشرين سنة. وكنت ألبسه عندما أزور نيويورك أو أي من المناطق الشمالية الباردة في أمريكا، ومنذ عدة سنوات تبرعت به لأولاد الحلال.
وأثناء تجولنا في المول إقترب منا (وكنا ثلاثة، أنا والمهندس محمد بدر والمهندس تامر) شخص يتكلم اللغة العربية، ويبدو أنه يهودي عراقي وعرف من “سحنتنا” بأننا مصريون لأنه سألنا: “أنتم من مصر؟“ فأجبناه: “أيوه“! فسأل: “هل لكم سيارة بأرقام مصرية خارج المول؟” فقلنا: “أيوه“، قال: « إلحقوا البوليس الإسرائيلي يفتش سيارتكم ».
خرجنا مسرعين من المول وتوجهنا للسيارة ولم نجد أي بوليس حول السيارة. ولكن عندما وصلنا للسيارة وجدنا ورقة على زجاج السيارة تحت المسّاحة مطبوعة بثلاث لغات تقول: “لقد اشتبهنا بهذه السيارة لذلك قمنا بتفتيشها، ولم نجد شيئا، ونعتذر عن ذلك. إذا لاحظتم فقد أي من متعلقاتكم، رجاء الإتصال برقم التليفون —– أو التوجه إلى قسم الشرطة في العنوان —“!
وفتحنا السيارة فلم نفتقد أي شيء، ولم يكن هناك أي تلفيات بالسيارة.
…
وهذا الموقف ذكرني بموقف مشابه حدث لي في القاهرة عام 1984 حيث كنت أحضر محاضرات في علوم الكومبيوتر في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، في مبناها القديم في ميدان التحرير. فقد ركنت سيارتي في موقف مخصص للسيارات في الشارع الجانبي، وعندما انتهت المحاضرات، خرجت فلم أجد سيارتي. وكانت سيارة مرسيدس جديدة نسبيا، اشتريتها من تحويشة العمر بعد عملي في الخليج لمدة ست سنوات. وأول ما جاء في خاطري أن سيارتي قد سرقت، ولكن ما طمأنني قليلا هو أني لم أجد أي سبارة في موقف السيارات! فأخذت أسأل أولاد الحلال وحتى أولاد الحرام (لا فرق عندي)، المهم أن أعرف ما حدث للسيارة! وأخيرا اهتديت إلى جندي مرور، فأخبرني بأن الرئيس حسني مبارك كان يمر في الشارع الذي أوقفت فيه سيارتي، فجاء رجال أمن الرئاسة والمرور ورفعوا كل السيارات في الشارع. فإطمئنيت قليلا على أن السيارة لم يتم سرقتها وأنها في حوزة الحكومة، وأن ما لدى الحكومة لن يضيع! وأخبرني الجندي أن سيارتي في الغالب عند « مرور الزمالك » في الضفة الأخرى من نهر النيل تحت « كوبري 6 أكتوبر ». فإستأجرت تاكسي وأخذت أبحث عن السيارة حتى اهتديت إلى مكانها أخيرا. ووجدت أن رجال المرور لم يستطيعوا فتح باب السيارة بطريقة سلمية، فاستخدموا العنف لفتح السيارة لجهة باب السائق، ما أحدث تلفيات شديدة استلزمت تغيير الباب، ولما أشتكيت إلى ضابط المرور من التلفيات التي حدثت للباب، سألني: “مش حضرتك سليم والحمد لله؟” قلت له: “الحمد لله، الذي لا يحمد على مكروه سواه“! وإنصرفت، وحمدت الله على سلامتي الشخصية و« طز » في السيارة!
وأترك للقاريء التعليق والمقارنة بين موقف سيارتي في أشدود الميناء الإسرائيلي وموقف سيارتي في القاهرة موطني ومسقط رأسي.
…
وثالثا: قمت أيضا بزيارة مدينة رام الله لمقابلة المسؤول عن وزارة الإسكان في السلطة الفلسطينية الجديدة (الدكتور زكريا الآغا). وهو طبيب وكان عضو فريق المفاوضات في واشنطن، كما كان مسؤول حركة فتح في غزة. وكانت مقابلة تعارف في الأساس، وتكلمت معه عن مشروع الإسكان الذي نقوم بتنفيذه في غزة. وكانت زيارة قصيرة ولكنها كانت هامة للتعرف على برامج الإسكان لدى السلطة الفلسطينية الجديدة.
و« رام الله » مدينة جميلة وصغيرة تبعد حوالي 15 كيلو متر فقط من مدينة القدس وبها المقر المؤقت للسلطة الفلسطينية. ومدينة « البيرة » ملاصقة لمدينة « رام الله »، ورغم أنها أكبر من حيث عدد السكان إلا أن « رام الله » أكثر شهرة نظرا لأهميتها السياسية.