رفضت سيسي أن تتقاضى الخمسين يورو المتفق عليها. قالت إنها أقرت أخيرًا بتأييد مهمتنا، بل وتحولت من السخرية منا، إلى الرغبة في مشاركتنا البحث عن كانديد.
وفوق ذلك أصرت على أن تصحبنا في رحلة القطار إلى فيينا عاصمة النمسا، على نفقتها الخاصة، لكي تساعدنا في العثور عليه. بالطبع، أدهشني ذاك التحوُّل المباغت من ناحيتها تجاهنا، ولكنني امتنعت عن التساؤل عن كنه تلك الغرائب المتكررة، خاصة وقد بات إلحاحها علينا، هو الحدث الطبيعي الوحيد في رحلتنا المذهلة هذه.
اضطررنا إلى الذهاب إلى محطة القطار الفرعية، إذ كانت المحطة الرئيسية مغلقة، بسبب تدفق المهاجرين السوريين من تركيا إليها، في طريقهم إلى فيينا التي أعلنت قبولها لهم. تكدسوا بالمحطة في انتظار ترحيلهم إلى فيينا، حتى أنّ السلطات قررت تشغيل المحطة حصريًا لخدمتهم، فحولت جميع الرحلات المعتادة إلى محطات فرعية.
استغرقت الرحلة نحو خمس ساعات أو ست، وتوقف القطار كثيرًا في الطريق، حيث عبر قطع عدة مدن ريفية صغيرة، لا تظهر أسماؤها فوق الخرائط السياحية التي حملناها. مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية الخضراء اخترقها القطار، امتدت ما بين بيوتات من طابق واحد تجمعت في قرى صغيرة حول قضيبي السكة الحديدية، كانت تظهر بين الحين والآخر.
وصلنا إلى فيينا أخيرًا، وحالما خرجنا إلى الشارع طالعتنا الحضارة الأوروبية العريقة؛ وقد تمثلت أمام أعيننا بناياتها الحجرية العتيقة، والشوارع اللامعة النظافة، والناس بأناقة ملبسهم، وتحضّر سلوكهم الهادئ، ووجوههم المتبسمة، وإطلالاتهم المنفتحة، على عكس التجهم البادي فوق وجوه أهل المجر في بودابست.
لم نكن مهيّئين للبحث عن كانديد في فيينا! لم نمتلك خطة معيَّنة للبحث، ولكنّ سيسي طمأنتنا بخبرتها الطويلة بالمدينة التي زارتها مرارًا، خاصة منذ أن دخلت المجر إلى حزمة الاتحاد الأوروبي.
من ناحيتي، كنتُ قد بدأت الاعتياد على فكرة وجود كانديد في عالمنا الآني، رغم أن أحدًا منا لم يره. كما أنني ـ لسبب أو لآخر ـ بت أثق في رؤية “سيسي”، أو بالحري في بصيرتها! فعندما قررت اصطحابنا إلى هنا، بات ذلك توكيدًا على أننا نبحث عن مخلوق مادي معلوم الأصل، نتفهم مساره، ونتوقع اتجاهاته، حتى وإن لم يشِّ بتفاصيلها درويش قوطي، أو راهب بوذي، أو كاهن كاثوليكي. أدركتُ أنني لم أعد مجرد مرافق لأمير، أتابع لحظات بحثه المُستغرِق عن ذلك السراب حينما يظهر، ثم قلقه المجنون حين يختفي. صار لوجود سيسي معنا مدلولٌ لديَّ يفيد بأننا بتنا على الطريق الصحيح. وقد أكدت سلامة أفكاري تلك، حين قالت مخاطبة أمير، دقائق عقب وصولنا إلى فيينا:
“لكن يا سيد أمير، ما أتذكره عن كانديد، هو أنه كان يعيش في قصر البارون ’ثاندر ـ تن ـ ترونخ‘، أبو ليدي كوناجوند ـ زوجته فيما بعد، في مقاطعة ’ويستفاليا‘، وهي تقع في ألمانيا، وليست بالقرب من فيينا أو براج كما قال القسيس!”
توقف أمير عن المسير، ثم جعل حقيبة ملابسه تنسحب من قبضته فتسقط فوق الرصيف بجانبه، وبدأ يحك ذقنه بأصابع يمناه، ويفكر. ثم سرعان ما انكب فوق الحقيبة ينبش خلالها للحظات، سحب بعدها كتابًا متهالكًا، لمحت عنوانه “كانديد” لفولتير، وبدأ يقلب أوراقه ويقرأ بنهم الأوراق الأولى منه. بعد برهة توقف، ثم نظر نحو سيسي، والكتاب مفتوح بين يديه، وقال:
“معكِ كل الحق يا سيسي!”
فابتسمت سيسي متفاخرة وهي تقول:
“ومع ذلك فلقد سمعتماه معي، وهو يقول إن كانديد ذهب إلى فيينا، أو براج، مما يعني أنه لابد قرر أن يذهب إلى “ويستفاليا” عبر المدينتين الكبريين، ليبحث فيهما عن ذلك الشيء الذي دأب ينقب عنه في الأناضول، وبانكوك، وكوالالمبور، وأخيرًا في بودابست اللعينة! إما هذا، أو إنه مجنون مثلكما، ولا يعرف ماذا يفعل بوقته الثمين!”
ضحكنا من كلامها. تشجعت أنا وسألتها، وكنا قد استأنفنا المسير:
“أي شيء تقصدين يا سيسي؟ في رأيك، ما الذي يبحث كانديد عنه؟”
فأجابتني على الفور:
“هذا الأخرق ينبش في كل مكان، قاصدًا المؤمنين الحقيقيين!”
ضحكنا وقهقهنا حتى شعرت بوجع في بطني. ثم عدت أستفهم منها:
“هل لي أن أسألك إلى أين تقوديننا يا سيسي؟”
أجابت وهي تنقر بعصاها فوق بلاطات الرصيف الحجرية:
“إلى محطة الترام أوّلاً، وهي قريبة من هنا، ثم نذهب إلى فندق متواضع أعرفه، لنضع حاجياتنا، ثم نذهب إلى ’بازيليكا دي سان ستيفانو‘. فصديقكما يبدو مغرمًا بزيارة دور العبادة المهمة، في كل مدينة يزورها.”
لست أدري؛ هل كانت قهقهاتنا هي التي جعلت الشمس تطل من بين السحابات الكثيفة التي ملأت سماء فيينا، أم إن بزوغها هو ما أضفى تلك البهجة التي اشتملتنا.
لاح لي أنّ خطة البحث عن كانديد في فيينا قد تبدت معالمها. ولكنني، وبالرغم من المرح الظاهري، بت مضطربًا من نفاد أموال أمير، وعجزي التام عن مساعدته. وبالفعل تحيرت ولم أدر أأفرح لأنني موجود الآن في فيينا؛ المدينة الساحرة التي طالما حلمت بزيارتها والتغني بليالي الأنس في رحابها، أو أحزن لضيق ذات اليد الذي صرنا نعانيه، وتكاليف السفر والإقامة التي لا بد انتقصت من ثروة أمير الضئيلة. على أي حال، وكما يقولون، تستطيع أن تمضغ العلكة، وأن تسير في الوقت ذاته.
حين وصلنا، كانت الكاتدرائية مكتظة بالسائحين. رجال ونساء، شيوخ وأطفال تفرقوا إلى جماعات؛ التف البعض حول مرشد سياحي، أو تحت لوحة جدارية أو تمثال، أو مجرد جماعة تتجول ما بين المقاعد الخشبية الطويلة المتراصة إلى جانبي بهو الكنيسة الشاسع. الحق أنّ الكاتدرائية كانت بارعة الفخامة والجمال، بحيطانها المنقوشة، وعمدانها المشغولة العالية، واللوحات الأثرية التي تزين صدر مختلف الهياكل المنتشرة إلى جانبي بهوها المستطيل، صانعة عدة كنائس صغيرة، مزينة بتماثيل للقديسين رائعة الجمال، حتى كدت أنسى السبب الذي دفعنا إلى المجيء هنا في أول الأمر. بيد أننا شرعنا ـ أمير وأنا ـ نتفحص الوجوه والملامح، وإن كنا بالطبع نجهل تمامًا شكل كانديد وعائلته، فبات بحثنا عبثيًا على أيّ حال. كانت سيسي تقف إلى جانبي، تحمل صندوق الكمان بيدها، وظلت تدير رأسها نحو الأصوات من حولنا، تبحث معنا، لكن بأذنيها. تفكرتُ أنّ فرصتها في العثور على كانديد ورفاقه متكافئة مع فرصتنا، إن لم تكن أعظم، لما تتمتع به من بصيرة سحرية.
أمضينا وقتًا طويلًا داخل ’بازيليكا دي سان ستيفانو‘ ولم يتوقف سيل السياح الجارف، وبالطبع لم نتمكن على أيّ حال من التعرف على كانديد وحاشيته، رغم أنه من الجائز جدًا أنه مرّ بواحد منَّا، أو بنا كلنا، بل وحك كتفه حكًا بأيّ منَّا، وهو يجتازنا دون أن نتعرف عليه. أخيرًا شعرنا بالجوع، فخرجنا إلى الميدان الواسع، وبدأت روائح المطاعم المتناثرة تدعونا إليها.
توقفت سيسي في مكانها، وما هي إلا لحظة حتى كانت قد أخرجت كمانها من صندوقه، الذي تركته مفتوحًا أمام قدميها، ثم شرعت تعزف موسيقاها الدافئة الإيقاعية.
ابتعدنا قليلًا، ثم توقفنا لنستمع إلى عزفها. وسرعان ما التف المارة حولها، ثم شرعوا يتقدمون الواحد بعد الآخر، فيقذفون قطعًا من العملة، أو أوراقًا نقدية أحيانًا. بل وتقدم أمير أيضًا، فألقى بقطعة عملة معدنية، ولمحت سيسي تبتسم له، وهي تنحني برأسها قليلًا.
بعد نحو ساعة توقفَت، ثم مدت يدها تجمع النقود التي امتلأ بها الصندوق المفتوح، وقالت:
“الآن، دعوني أعزمكم على الغداء!”
وبينما نحن نلوك شطائر اللحم المدخن والجبن التي ابتاعتها سيسي لنا، إذ قالت:
“ينبغي عليك يا أمير، أن تبدأ في مشروعك في الرسم، بينما أعزف أنا موسيقاي، فالظاهر أننا سوف نقضي بعض الوقت هنا، حتى نعثر على صديقكما بين كل هؤلاء السياح، والأسعار هنا أعلى منها في بودابست!”
بالفعل ابتاع أمير كراسة رسم ومجموعة أنابيب ألوان سريعة الجفاف، وفرشات للرسم، بالإضافة إلى مجموعة من أقلام الفحم. أدرك البائع أنه محترف للرسم فمنحه تخفيضا بثلث الثمن.
في صباح اليوم التالي قالت لنا سيسي ونحن نتناول وجبة الفطور المجاني في الطابق الأرضي من الفندق:
“أتريدان أن تزورا قصر ’شونبروون‘ حيث أقامت الأميرة إليزابيث الشهيرة بـ ’سيسي‘، والتي تُسُمّيت على اسمها؟”
أجبت على الفور:
“بالطبع! ولم لا؟”
شعرت بأني تسرعت في الرد، إذ لم أنتظر تعقيب أمير على سؤالها، بينما هو الذي يدفع ثمن رحلتنا، ومن ثَمّ فهو يملك حق تحديد الأماكن التي يود أن يذهب إليها لعلنا نجد كانديد. ولكني ـ على الجانب الآخر ـ كنت قد أدركت سر ثقتي العمياء في مقترحات سيسي؛ فهي كانت في الحقيقة تذكرني بفطنة ثريا؛ زوجتي الراحلة، وبصيرتها. افتقدت برحيلها عني تلك السخرية اللاذعة، وتلك البديهة السريعة، وذاك المرح الذي تشيعه من حولها. والآن وجدت كل ذلك، بل وأكثر، في تلك الغجرية الكفيفة التي تجالسنا على المائدة الآن. ها هي على بعد بضعة سنتيمترات مني، تمضغ الأكل، وتتكلم، وتضحك، وتشاكس، فكيف لا أوافقها على زيارة قصر الأميرة سيسي إذن؟ ومع كل ذلك فلقد ارتحت، حين تبدّى حماس أمير للذهاب كذلك.
استقللنا المترو إلى “قصر شونبروون”. وحين دلفنا من البوابة الرئيسية، لاح القصر عند طرف بعيد للغاية من حديقة منمقة ممتدة الأطراف، تتوسطها بحيرة فسيحة، بداخلها تمثال حجري لنافورة تضخ ماء. منظر بديع استقبلنا، وكأننا ولجنا إلى باطن صورة زيتية، من رسومات عصر النهضة. وجدنا مبنى حديثا، قائمًا إلى يسار البوابة الحديدية ذات الأعمدة المجدولة، أدركنا أنه مكان اقتطاع التذاكر الخاصة بزيارة القصر. تبين لنا أن سعر التذكرة الواحدة يزيد عن سبعة عشر يورو، فتقهقرنا مفسحين الطريق لبقية السائحين.
كان مسموحًا لنا بالمكوث في حديقة القصر، دون أن نبتاع تذاكر. عند عتبة النافورة الجميلة، أخرجت سيسي الكمان، وفتحت الصندوق أمامها، وعلى بعد أمتار منها، جلس أمير فوق السور الحجري، نافضًا كراسه وشارعًا يعمل بأقلامه الفحمية، في خطوط متفاوتة الدرجات من السواد، وفي خلال دقائق كانت سيسي تتألق فوق صفحة كراسه، وهي تعزف بينما مكث “قصر شونبروون” قابعًا من ورائها. انتزع الورقة من دفتره، وعرض لوحته مستندة إلى السور الحجري. وبعد برهة بدأ يرسمني أنا أيضًا وقد أجلسني إلى السور بينه وبين سيسي، التي كانت تعزف خلفي.
تجمع السياح حولنا، وبدأوا ينفحون سيسي عملاتهم، ثم سرعان ما اصطفوا في طابور قصير ينشدون من أمير لوحة “بورتريه”، والقصر الأصفر الجميل في الخلفية.
خلال ساعة ونصف، كانا قد جمعا ثمن تذاكر الدخول، ووجبة الغداء. لكن المفاجأة السارة جاءت حين ذهبنا لابتياع التذاكر، إذ أفادت الموظفة باستحقاقي أنا لتخفيض محترم لسبب سنِّي، واستحقاق سيسي ذلك أيضا لكونها معوَّقة.
دلفنا إلى داخل القصر، وأعطوا كل واحد منا سماعة متصلة بجهاز مسجل بالعربية لي ولأمير، وبالمجرية لسيسي، يصف لنا تاريخ كل غرفة من غرف القصر ومحتواها. كم كانت سعادتي حين وجدت نفسي في “غرفة المرايات” التي استضافت في عام 1772 موزارت، حينما كان طفلًا في السادسة من عمره ، وهو يقدم بها أول عرض لعزفه البيانو. وفي “غرفة لاك العجوز” اجتمع نابليون بونابارت بقادة جيشه. شاهدت لوحات للإمبراطور “فرانز جوزيف” الذي تزوج من “إليزابيث” الشهيرة بـ “سيسي” التي كانت تصغره بأعوام كثيرة، والإمبراطورة “ماريا تيريزا” وهي أم “ماري أنطوانيت” التي صارت فيما بعد زوجة لـ “لويس السادس عشر” وقد أعدم الاثنان بالمقصلة، إبان الثورة الفرنسية. كان النظام بديعًا، والسياح يرفلون في هدوء بين حجرة وأخرى، وحتى الأطفال الذين كانوا في معية آبائهم، لم يتركوهم يعبثون بالتماثيل الأثرية، أو يتقافزون فوق الأسِرة، أو المقاعد المتناثرة.
لكننا بالطبع لم نفلح في أن نعثر على كانديد وأسرته، بين مئات من السياح الذين اكتظ بهم القصر، واجتزناهم واجتازونا خلال جولتنا.
لكن مع ذلك تركَت الزيارة في النهاية وقعًا حسنًا علينا جميعًا. بَيد أننا شعرنا بجوع شديد في أعقابها، فتوجهنا إلى أقرب مطعم لتناول الغداء.
كان أمير مبتهجًا بعودته إلى الرسم، وضمان دخل أعانه على مصاريف رحلتنا. وفي الواقع شعرت أنا أيضًا ببعض الراحة، وإن كنت خجِلًا لكوني عاجزًا عن أن أضيف بعض المساعدة من ناحيتي أيضًا.
أما سيسي، فلقد قالت بعد انتهائها من ارتشاف آخر جرعة من كأس البيرة:
“لا أمل في أن نجد صديقكما في هذه المدينة اللعينة! فهو يبدو مغرمًا بدور العبادة والمتعبدين بها، والناس هنا انصرفوا عن كل ذاك منذ عقود؛ فحتى الكنائس تحولت إلى متاحف فنية، وقاعات للحفلات الموسيقية.”
وسرعان ما أجابها أمير:
“وماذا نفعل إذن، وهل الحال أفضل في براج مثلًا؟”
فردت المرأة على الفور:
“نعم، أعتقد أنه أفضل كثيرًا، لسببين؛ أولًا لأنّ براج لم تدمر كما دمرت فيينا أثناء الحرب العالمية الثانية، مما جعل أناسها أقل نقمة ضد الله ـ إذا كنت تؤمن بوجوده بالطبع، وثانيًا لأن الشيوعية كانت قد أمسكت بتلابيب الناس هناك، لذا فلمَّا انحسرت عنهم، تركت فراغًا روحانيًا اشتاقوا إلى أن يملؤونه بالتدين من جديد.”
تأملنا كلماتها في صمت، وكنت متعجبًا من ثقافة هذه المرأة الكفيفة وذكائها وهي التي لاقيناها تتكسب من عزف موسيقى الغجر في شوارع بودابست. يبدو أن أمير كان قد اتفق معي على احترام رأي سيسي، لذا فقد سألها بعد لحظات من السكوت، بلهجة التلميذ حيال أستاذه، المستعد لتقبل أيّ نصيحة ينصحه بها:
“إذن فأنت تقترحين أن نترك فيينا، بعد يومين، مجرد يومين فقط من البحث؟”
فابتسمت سيسي وهي ترد:
“نعم، ولكني أذكّرك يا سيد أمير، بأنني أخمن مسار شخصية روائية، قفزت فجأة من بين صفحات رواية عتيقة، لتعيش بيننا اليوم، لذلك أرجو ألا تأخذ اقتراحي بمثل هذه الجدية، فهو مجرد حدس!”!”
لم يستوعب أمير دعابتها، إذ كان قد شرع يحلل الموقف من الناحية العملية ـ كعادته ـ ليقرر ماذا ينبغي أن نفعل. لكنه مع ذلك، أجابها مقرّا برجاحة منطقها:
“مفهوم.. مفهوم..”
لم يسألني أمير عن قناعتي، ولكنني لم أستأ، ربما لأني كنت رضيت ـ مثله ـ برأي سيسي. لكنه قرر ـ على أي حال ـ بأننا يحسن بنا لو قضينا الليلة في فيينا، إذ كان المساء قد اقترب، وكانت أجرة الغرفة قد احتسبت بالفعل. كما حبذ هو أن نذهب إلى براج في الصباح لنبحث عن مكان مناسب للسكن، قبل أن تبدأ رحلتنا في البحث عن كانديد هناك. سعدت لمَّا وافقَت سيسي، بل وأبدت رغبتها في مرافقتنا.
حال هطول المطر الغزير، دون أن نخرج إلى الشوارع ليلًا لتعزف سيسي، ويرسم أمير البورتريهات، بغية جمع بعض النقود اللازمة لاستكمال رحلتنا. لكنّ أمير في حديث مقتضب، دار بيني وبينه ونحن نستعد للنوم، طمأنني إلى أنه ما زال معه قدر كاف من النقود، وأنه ما اشتكى حاله وقرب نفاد أمواله، إلا ليمنع سيسي من استغلالنا عند لقائنا الأول بها، وقبل أن يطّلع بنفسه على ترفعها ورقيّ أخلاقها.
كان لتلك الكلمات أثرٌ طيب عليَّ، إذ خلصتني من بعض شعوري بالذنب تجاه أمير، وقائمة مصروفاته المتنامية. ولكنني ـ مع ذلك ـ كنت أفتش في داخلي عن أي شيء يمكنني أن أفعله، لأكسب بعض النقود، ولو كانت يسيرة، أو على الأقل أوفر في النفقات، فأساهم بها من ناحيتي أنا أيضًا.
خطر لي أخيرًا، أنني أستطيع أن أطهو طعامًا بالغرفة التي سوف نبيت بها في براج، فربما يجنبنا هذا تكاليف الأكل بالمطاعم. فاتحت أمير فضحك مني، ولكنه وافق على اقتراحي، إذ تفهم الوازع من ورائه، فلم يشأ أن يعارضني، احترامًا لي، فيما أظن.
وبالفعل، توجهنا في الصباح إلى محطة القطار، وابتعنا تذاكر تقلّنا أول قطار متجه إلى براج. ولحس الحظ لم تكن الأسعار ملتهبة، كما حصلنا ـ سيسي وأنا ـ على تخفيض لا بأس به.
في الوقت الذي كنا ننتظر فيه موعد القطار، أخرجت سيسي الكمان وبدأت تعزف، فتشجع أمير وفتح كراسه، وأخذ يرسم بورتريه لها وهي تعزف. وبينما كنت أتأمل سباحة أنامله برشاقة فوق الورق، إذ اقترب منا رجل عملاق، يتطلع هو أيضًا إلى رسم أمير، ثم علق ـ بالعربية ـ قائلًا:
“والله هذا رسم محترفين يا (زلمة)!”
رفعت عيني عن اللوحة لأشكره، وإذا بزياد اللبناني الذي تركنا في كوالالمبور يقف قبالتنا مقهقهًا!
توقف أمير بدوره عن الرسم ، ثم انتفض واقفًا وأخذ زياد في حضنه. لاحظت سيسي الجلبة من حولها، فكفت عن عزفها هي أيضًا. احتضنتُه بدوري، ثم سارعت أقدّم سيسي إليه، فأبدى تعجبه لكونها برفقتنا، إذ ظن في البداية أنها كانت مجرد امرأة تعزف الكمان بمحاذاتنا. ثم قدمتُه إليها، فقلت:
“زياد صديق لبناني قابلناه في إسطنبول، وشاركنا أولى خطوات البحث عن كانديد هناك، ثم سافر معنا إلى بانكوك، ومنها إلى كوالالمبور، لكنه تركنا هناك ليعاود زوجته الرقيقة مايا، وكان قد تركها لأيام بمفردها.”
سأله أمير ـ بالإنجليزية حتى تفهمه سيسي ـ أن يفسر لنا سر وجوده بمحطة القطار بفيينا في ذاك التوقيت العجيب، فأجابه زياد:
“في الحقيقة، لم أتمكن من مسامحة نفسي على ترككما، دون أن نعثر على كانديد. قضيت يومين في إسطنبول متململًا، ولاحظت مايا ذلك، فسألتني عن السبب، وشرحت لها بالطبع. فما كان منها إلا أن نصحتني بأن أسافر على الفور لألحق بكما، مضيفة أنّ الإنسان لا يحيا سوى مرَّة واحدة، وأنّ فرصة كهذه قد لا تتأتى مرَّة ثانية بالعمر. وفي الحقيقة اندهشت فعلًا من تعاطفها مع الفكرة أساسًا، ولكنني في واقع الأمر، عقدت العزم، وسافرت في اليوم التالي إلى بودابست.”
أخذ نفسًا طويلًا، بعد سيل الكلمات المتدفق هذا، ثم أضاف:
“وفي كنيسة القديس ماثياس الأثرية، قابلت الأب الكاهن، الذي حكى لي عن زيارتكم وحديثكم معه، وكنت متعجبًا فعلًا من قدرتكما على التفاهم معه، إذ لم يكن يتحدث الإنجليزية أو الفرنسية، ولولا امتلاكي بعض الكلمات الألمانية لما استطعت التفاهم معه. لكنني أدركت الآن أن سيسي أنقذتكما!”
نظر زياد نحوها مبتسمًا، وهو يومئ برأسه تحية لها، ولكنه لم يكن يدرك بعد أنها ضريرة. أكمل هو قائلًا: “وأخبرني القسيس أيضًا أنّ كانديد وأصحابه حضروا إلى الكنيسة ذاتها في اليوم السابق لزيارتكم، وكيف قال لكم إنهم اتجهوا إلى فيينا وبراج، وأبدى لي متضاحكًا تعجبه من كل ذاك الاهتمام بـ كانديد هذا الذي لم يكن سمع باسمه سوى من يومين فقط!”. ابتسم زياد بعد أن تأكد من استحواذه التام على اهتمامنا. ثم سرعان ما أكمل قائلًا: “وفي فيينا لم أجدكما بالطبع، بين ذلك الكم الهائل من السياح، حتى جئت أخيرًا إلى هنا، لأواصل البحث عنكما، وعن كانديد، في براج، تمامًا كما أعلمني القسيس عن وجهتكما!”.
جاء موعد القطار فاتجهنا نحو الرصيف، ولاحظ زياد أن سيسي صارت تتحسس طريقها بطرف عصاها، فمال إليَّ متسائلًا بالعربية:
“أهيَ..” سكت لحظة ثم أضاف: “هل هي عمياء؟”
فأومأت إليه بالإيجاب، ولكني أضفت، وأنا أهز رأسي متعجبًا:
“ولكنها تتمتع ببصيرة، تتفوق بها على عشرة منا!”
*الدكتور شريف مليكة، شاعر وكاتب وطبيب مصري من مواليد 1958، يقيم في الولايات المتحدة. يكتب في الشعر والقصص القصيرة والروايات. وله حتى الآن أربع دواوين شعرية بالعامية المصرية، وثلاث مجموعات قصصية، وسبع روايات أحدثها رواية “دعوة فرح” الصادرة عن دار العين للنشر في عام 2019.
البحث عن كانديد: الجزء السابع، الفصل السادس