(ينشر « الشفاف » مقالة راغدة درغام الممتازة (ونأسف لعدم استئذانها)، ليس لأنها صرخة وجدانية كما قد يُخيّل، ولكن لدقّة معلوماتها. فعلاً، سياسة الإليزيه الماكروني (وليس كل الإدارة الفرنسية) منحازة إلى إيران وغير راغبة بمواجهتها! الرئيس بايدن، حسب تقديرات أوروبية، قادر على إسقاط نظام خامنئي.. الآن! إذا أراد! ولكنه يتخبّط، ولا يحسم، ويرغب بالخروج من الشرق الأوسط! هذه معلومات مفيدة، وليست دعوة لليأس! ماكرون وبايدن قابلان للتأثّر بما يحدث في لبنان! المقاومة اللبنانية ضد عبيد إيران، وعملائها، ستعدّل موقف الغرب حتماً! قاوموا!)
*
مرة أخرى، تتأبط الدبلوماسية الفرنسية سياسة التعويم والترميم الفاشلة وتأخذ لبنان الى شوطٍ جديد من الانزلاق في الهاوية.
ليس مهماً أن يتكرّم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بمساعدات إنسانية أو ببهورة فرض عقوبات سخيفة سطحية وتجميلية. السيد إيمانويل ماكرون مذنب لأنه قام بامتصاص زخم الغضب الشعبي من تفجير مرفأ بيروت قبل سنة في 4 آب (أغسطس) 2020، فتجوّل طاووساً في شوارع بيروت موزِّعاً الوعود بالمحاسبة وعدم الإفلات من العقاب. فعل ذلك فيما كان في الوقت ذاته يعقد الصفقات السياسية وغير السياسية مع شخصيات حزبية كان الناس يطالبون بمساءلتها ومحاسبتها ومعاقبتها لتورّطها في تخزين مواد النيترات المتفجِرة في مرفأ مدني وقبالة بيوت الناس، مرتكبة جريمة ضد الإنسانية.
ريش الطاووس الفرنسي ازداد نشراً وبهجةً بعدما أوكل اليه الرئيس الأميركي جو بايدن مهمّة إدارة ملف لبنان باعتباره دون أولوياته الإيرانية. كلاهما، بايدن وماكرون، يرتكبان اليوم خطيئة بحق لبنان لأنهما باتا طرفاً في تعويم الطبقة السياسية المستبِدّة وتعميق تسلّط “حزب الله”. باتا شريكين في إبعاد العدالة والتحقيق الجدّي في جريمة تفجير المرفأ فأصبحا فعليّاً متواطِئَيْن مساهِمَيْن في نجاة الزمرة الفاسدة المتسلِّطة والمستبدّة من المساءلة والمحاسبة والعقاب. فلا عبقريةً في الخضوع لإملاءات رئيس جمهورية، أو رئيس تيّار، أو رئيس برلمان، أو رئيس ميليشيا تابعة لإيران، أو الى مشروع رئيس حكومة. ذلك أن المزيد من مهزلة التنازلات الفرنسية باسم الدول الأوروبية، أو الإنزلاقات الأميركية الناتجة من سياسة الابتعاد من لبنان لتجنّب المواجهة مع إيران المشرفة على “حزب الله” ونشاطاته، إنما توطّد مأساة لبنان وتعرّضه لمخاطر أكبر.
على روسيا أيضاً أن تقلق بدلاً من استرخائها في تفويض إيران إدارة وابتزاز دولة مستقلة، بكل وقاحة، باسم “الاستقرار”. فاستمرار تقويض السيادة وقضم الموارد والمواد الأساسية عبر التهريب السافر الى سوريا لن ينقذ سوريا من تداعيات انهيار اقتصادها وانهيار جارتها. لذلك على سيد الكرملين فلاديمير بوتين أن يفكّر بعمقٍ في مصير استثماره في سوريا، أمنياً واقتصادياً وسياسياً، في ظل استمرار تدهور لبنان الى القاع. كما على الرئيس الصيني، شي جين بينغ، أن يراجع اندفاع بلاده لاعتناق العقيدة الإيرانية القائمة على التوسّعيّة وتمزيق السيادة في الدول العربية، كلبنان، لأن بين طيّات الصمت الصيني على الأداء الإيراني بذور توريطٍ لبكين قد لا تريده لمشروعها المدعو “الطريق والحزام” الذي لا يبدأ أو ينتهي في طهران.
قد يستحق اللبنانيون ما أتى عليهم من مذلّة وانهيار لا يحدث سوى نادراً في التاريخ. فهم شعب يحترم الفساد، وهم قطيع في المعادلة الطائفية والمذهبية التي تشكّل أساس النظام الفاسد في البلاد. بل إن خامة الشخصية اللبنانية المدلّلة والقابلة للشراء والتي لا مرجعية ذات تهذيب مدني لها، ساهمت جذرياً في التدهور والانزلاق الى الحضيض. فلا حاجة باللبنانيين الى المكابرة والمزايدة وإلقاء اللوم على الخارج، ذلك لأن العَفَن داخلي، ولأن نزعة الأهلية بالاستحقاق التلقائي entitlement مرض مزمن إنما يفضح الشخصية اللبنانية المراوِغة والخادعة للذات.
من ناحية، لربما الأفضل أن يغسل العالم أياديه من هذا البلد الفاشل لعلّ أهله وحكامه يستيقظون الى مرارة الاضطرار الى الإصلاح الحقيقي- إصلاح الذات وإصلاح البلاد. لربما هذا هو الدواء الضروري بدلاً من جرعة التخدير والاتكال الدائم على الترميم والتعويم والثقة المفرطة بالنفس أن هذا الشعب وهذه المنظومة فوق المحاسبة.
من جهة أخرى، لقد دفع اللبنانيون ثمن استهتارهم وانصياعهم حيناً، ودفعوا ثمن الجرأة على المواجهة والتحدّي حيناً آخر. فعندما انتفضوا حقاً، تمكّنوا عام 2005 من إسقاط حكومة وفرض مغادرة الجيش السوري مواقع احتلاله للبنان. تمكّنوا من بدء عملية المحاسبة والعدالة الدولية عندما أتت منظومة التسلّط والاستبداد بأدوات إخماد وقمع الانتفاضة عبر سلسلة الاغتيالات.
التحقيق الدولي بدأ بمهنية، كما يجب. لكن الاعتبارات السياسية للدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي، وللأمين العام للأمم المتحدة حينذاك كوفي أنان، أسفرت عن وضع العصا في دولاب التحقيقات، فأتى البلجيكي سيرج برامتز ليدفن التحقيق في أدراج مكتبه ليتسبّب ليس فقط بتعطيل التحقيقات، وإنما ساهم في ضخ الثقة في أولئك القائمين على الاغتيالات. فاغتالوا أنظف الناس، النقيب في فرع المعلومات بقوى الأمن الداخلي وسام عيد الذي اضطلع بدور كبير في مساعدة لجنة التحقيق الدولية الخاصة باغتيال رفيق الحريري، والذي قدّم الى المحقق برامتز تقريراً قرّر برامتز تجاهله، فرماه في أدراج مكتبه. والتاريخ يسجّل له هذه الخطيئة.
خوف اللبنانيين من حربٍ أهلية يكبّلهم وكذلك خوف الثائرين من الموت والدماء. لذلك كل هذا القدر من الانصياع لما تمليه القيادات السياسية والرضوخ للأمر الواقع بالرغم من مراراته وظلامه القاتم. إنما هذا ليس مبرّراً للاستسلام ولا لمطالبة الخارج أن ينقذ لبنان.
الخارج بالطبع مسؤول جزئياً عمّا حدث ويحدث لهذا البلد الجميل الذي استباحته سوريا وإيران وإسرائيل كما سبق واستباحه “بعث” العراق في معركته مع “بعث” سوريا الحاكمينِ في بغداد ودمشق. في زمنٍ ما كان لبنان محطة أساسية للاستخبارات الأميركية والبريطانية والروسية وغيرها، وكان يعتبر فرنسا “الأم الحنون” الى أن جاء رجال سخفاء للحكم في فرنسا مثل نيكولا ساركوزي الذي التهمه الفساد فعقد الصفقات مع بشار الأسد على جثث اللبنانيين وأسقط المحاسبة والعدالة رافعاً راية الإفلات من العقاب.
اليوم، لا يوجد في فرنسا رجال حكم على مستوى الرئيس جاك شيراك. هناك حفلة تهريج صاخبة في كل مكان، بما فيها لبنان. لذلك، نحن نطالب السلطة في فرنسا أن تسدِل السِتارة على سياساتها الاعتباطية التهريجية، وأن تكفّ عن امتصاص النقمة الشعبية إرضاءً للطبقة السياسية التي تعقد معها الصفقات. كفى إذلالاً للشعب اللبناني عبر تعويم الطبقة الحاكمة تحت ذريعة هنا وتبرير هناك. كفّوا عنّا، أيها السادة القائمون في باريس على صنع السياسة الأوروبية – الأميركية بكثير من “الطاووسية” وبقليل من الإصلاحات المؤسساتية الضرورية لاستئصال المرض الخبيث الذي صنعته المؤسسة الحاكمة والمستبدّة بلبنان.
والرجاء من رجال ماكرون ورجال بايدن ونسائهم في الفريق المعني بالشرق الأوسط على السواء، الرجاء أن تكفّوا عن إضافة الإهانة الى الجرح بحديثكم عن عقوبات على المعرقلين لتأليف حكومة تقتصر على حرمانهم من زيارة بلادكم وقصورهم هناك. هذه عقوبات تفترض ألا بأس باللعب على سذاجة اللبنانيين، إلا أن هذا التلاعب بتطلعات الناس إنما يعرّي مكر السياسة الفرنسية – الأميركية – الأوروبية.
الجدّيّة تتطلّب استراتيجيا تشمل حشد كل الحكومات الغربية -وعلى رأسها سويسرا حيث هرّبت زمرة الحكام والمنظومة الفاسدة أموالها- اتخاذ قرارات تجميد أموال كامل الزمرة التي صادرت لبنان، وجوّعت شعبه، ونهبت أمواله، وحرمته من الدواء والتعليم، وهجّرت شبابه، وما زالت تتشبّث بالحكم بتسهيلات فرنسية – أوروبية – أميركية.
لا يا سادة، نحن لسنا ساذجين. انتم الشركاء في الجريمة البشعة بحق لبنان لأنكم متواطِئون في عدم الكشف عن حقيقة ما حدث في 4 آب (أغسطس) 2020، ولأنكم كذبتم في زعمكم العزم على الإصلاحات، ولأنكم دخلتم لعبة المساومات الوسخة على هذه الوزارة أو تلك بدءاً من تلبية إصرار الثنائي الشيعي -“حزب الله” و”أمل”- على امتلاك وزارة المالية ما ساهم في سقوط رئيس الحكومة المكلّف السابق سعد الحريري على رأسه وهو يلبّي تلك “المبادرة الفرنسية” المرتبكة.
وها أنتم الآن تأتون بسياسي مخضرم يتّقن لعبة الأخذ والعطاء، رئيس الحكومة المكلّف نجيب ميقاتي، ليدخل مسرحيّة المساومة مع رئيس الجمهورية ميشال عون العاجز عن التفكير سوى بمصلحة صهره ورئيس تياره جبران باسيل وطموحاته للرئاسة.
هكذا أسقطتم صدقيّتكم أيها السادة في باريس ولندن وجنيف وبرلين ولاهاي وواشنطن لأنكم رعاة صفقات مُرعِبة تطيح بأدنى متطلبات العدالة واللاافلات من العقاب وتصادق على استمرارية الحكم الفاسد واستبداد الميليشيات. أنتم المهرولون الى صفقة تحيي الاتفاق النووي JCPOA مع طهران قد قرّرتم إلحاق لبنان كمجرد ملحق في حساباتكم الضائعة والخائبة. لذلك تركتم القرار والقيادة لـ”حزب الله” ووضعتم لبنان بين مخالب “الحرس الثوري” الإيراني والمخالب الإسرائيلية.
لن يفيد لبنان أن يعرض الرئيس الفرنسي عليه القيام بدور لدى إسرائيل لتهدئة الأمور على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية لا سيّما إذا كان في ذهن إمانويل ماكرون مقايضة توسّله لإسرائيل بتوسّله لميشال عون أن يسهّل تأليف الحكومة.
فليس في وسع أية دولة أن تقوم بمفردها بتغيير قواعد اللعبة في لبنان. لبنان السيادي والمستقّر يحتاج ليس فقط الى قواعد جديدة وضرورية وإنما يحتاج ضمانات جماعية دولية تشمل، كما جاء في تقرير “المهمة الاستراتيجية” الروسي: أولاً، ضمان عدم اندلاع أي تهديد من الأراضي اللبنانية إلى دول أخرى مع وضع حدود على “حزب الله” كي يكفّ عن التدخّل المباشر في القرار السيادي اللبناني، بل إزالة هذا النمط من مصادرة قرار الدولة. ثانياً، تطوير لبنان ليصبح لاعباً سيادياً له دوره في العمل نحو الأمن الإقليمي، وهذا يبدو مستحيلاً إذا اعتمد على اللاعبين المحليين العاجزين وغير الراغبين بصنع الاستقرار في لبنان لا سيّما أولئك الرافضين أن تكون مؤسسات الدولة حرّة من التدخل الخارجي – والكلام عن إيران.
الجمهورية الإسلامية الإيرانية ترفض قطعاً السماح بأن يتحوّل لبنان الى بلد سيادي جاهز لممارسة دوره في توفير الأمن الإقليمي، وتريده أن يبقى ورقة صاخبة في لعبتها الإقليمية. هنا بيت القصيد، وهنا تكمن جدّيّة الأدوار الفرنسية والأميركية – إذا كانت حقاً جدّيّة.
لبنان دولة فاشلة بقرار مسبق من طهران وليس فقط نتيجة عربدة حكّامه الفاسدين. آن أوان فرض العقوبات الجدّيّة على هؤلاء الرجال – الرجال الساقطون في أحضان الجشع والسلطوية، بدلاً من تنميق مظاهرهم لإزالة بشاعتهم المؤذية. هذه هي الجدّيَّة التي يجب على كل الدول الالتزام بها، بالذات أميركا والدول الأوروبية.
أما في موضوع إيران وإسرائيل واستخدامهما لبنان ساحة صراعات لهما، فإن المسؤولية دولية بالذات على الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدائمة العضوية. هنا أهمية المفاتيح الخارجية لانتشال لبنان من حكّامه كما من القيادات الإيرانية والإسرائيلية والسورية.
فإذا كانت روسيا جدّيّة في عزمها تحويل المثلث السوري – الإسرائيلي – اللبناني إلى بقعة استقرار بدلاً من أن تكون بركان اللااستقرار، على الكرملين اعتماد سياسة ناضجة نحو إيران ونحو إسرائيل وعليه أن يدقق في تأثير انفجار البركان اللبناني على سوريا الغالية لبوتين لمصالح استراتيجية.
الصين مُطالَبة بالكف عن استثماراتها السطحية في بناء الطرق والموانئ والجسور باعتبارها الوسيلة الى قلوب الناس. حان الوقت للصين أن تنضج. علاقاتها مع إيران تسمح لها الآن بالتأثير في السياسات الإيرانية في لبنان والتي تدمّر سيادته وتقوّض امكاناته وتحوّل الصين الى شريك في الجريمة ضد اللبنانيين شعباً ودولة.
إدارة بايدن عليها مسؤولية مميّزة. فهي القادرة أكثر من غيرها على التأثير في السلوك الإيراني الإقليمي وفي احتواء الاندفاع الإسرائيلي المتهوّر عبر لبنان. ولتتفضّل إسرائيل وتستكمل حربها مع إيران، إذا شاءت، حيث تجد هناك منبع القرار لكل صاروخ يطلقه “حزب الله” من لبنان.
أوروبا يجب أن تشعر بالذنب والخجل، وبالذات فرنسا. فهي ساهمت في مصادرة نقمة شعب على حكامه، وساهمت في الانصياع لكل ما تريده طهران. انصاعت للابتزاز النووي وابتزاز “حزب الله”. وهي اليوم تجرؤ على التظاهر أن في يدها مفاتيح ضبط إسرائيل أو التأثير في إيران.
فلتنضج أوروبا التي استفاقت مبتسمة على تهويدة إدارة بايدن ووزير الخارجية انطوني بلينكن الناطق بالفرنسية. ولتنضج الدبلوماسية الأميركية إذ حان لها أن تحدّق في السياسات الخارجية الإيرانية الإقليمية بدلاً من ردّ النظر رضوخاً لابتزازات طهران النووية.