القراءة النقدية لتجارب الحرب الأهلية، تجربة اليسار، وتجربة الأحزاب التقدمية التي تحالفت بقدر ما تحاربت، وتجربة القوى السياسية التقليدية، ثم تجربة الميليشيات المسلحة يمينها ويسارها، تفضي إلى الاستنتاج بأنها كانت بالدرجة الأولى حرباً على الدولة.
“الحزب الشيوعي” كان يردد في أروقته أنه يستهدف “دولة البرجوازية” ليقضي عليها ويقيم على أنقاضها دولة “الطبقة العاملة”. الأحزاب الأخرى الدائرة في الفلك القومي لم يكن يختلف مشروعها حيال الدولة عن مشروع القوى الماركسية اختلافاً نوعياً، فكلاهما كان يريد استبدالها بأخرى ذات طابع قومي أو أممي، أي دولة تجافي مواصفات الحد الأدنى للديمقراطية المتوافرة في النظام اللبناني. هذا يعني أن ما فعلته الأحزاب في الحرب الأهلية كان شكلاً من أشكال اغتيال الدولة.
المارونية السياسية ظهرت في صورة الحريص على الدولة والنظام. غير أن وقوفها ضد التجربة الشهابية وتحريضها الطائفي عليها ينفيان هذا الحرص. ولا سيما أن نواقص الديمقراطية في تلك التجربة لا تبرر حجم الهجوم الذي قاده الحلف الثلاثي الماروني ضدها. ولا شك في أن ذلك الموقف كان نذيراً بانهيار الصيغة، ومبرراً لنهوض مشروع السنية السياسية بقيادة “الحركة الوطنية” لا بقيادة أهل السنة، وهو ليس من المارونية السياسية سوى الوجه والقفا اللذين سيبرّران نهوض مشروع للشيعية السياسية وصلت معه أوركسترا الطائفية إلى ذروتها المذهبية.
البدائل كلها، الوطن القومي المسيحي والدولة الاسلامية والدولة القومية العربية والدولة الأممية ودولة المهدي المنتظر وولاية الفقيه، ليست سوى صيغ متنوعة كانت تسعى إلى اغتيال الدولة القائمة في لبنان والمتميزة عن سائر الانظمة المحيطة.
إذن، بدت الحرب في جانب منها كأنها حرب على الدولة قبل أي شيء آخر. أما الذين زعموا حرصاً على الدولة فقد انخرطوا في الحرب من باب المحاصصة، بعضهم لتثبيت الحصص والآخرون لمعادلات تحاصصية جديدة، فتسابق الجميع على استدراج الخارج والاستعانة به ضد الدولة والسيادة الوطنية، أهل السلطة جميعهم مع سوريا، وبعضهم مع إسرائيل، واليسار مع الفلسطينيين، والشيعية السياسية مع إيران.
في أول الحرب حاولت ميليشيات زاهر الخطيب إلغاء صكوك الملكية وإحراق مستودعات الدوائر العقارية، بعد أن كانت كل الميليشيات الأخرى قد سعت إلى الاستيلاء على ودائع البنوك في قلب العاصمة. بلغت هذه الحالة ذروتها في الجبايات المالية، التي فرضتها الميليشيات على السلع ولا سيما النفط، وخصوصاً بعد تعطيل مصفاتي النفط في الزهراني وطرابلس، حيث أشرفت “حركة أمل” على إدارة الأولى وعلى الجباية المالية لصالح صندوقها، والتمويل على الحكومة.
بعد الطائف، تمكنت الميليشيات من انتزاع الحق الحصري في تجارة البترول من الدولة وتوزعته في ما بينها برعاية سورية مباشرة، وذلك بعد انتقالها من الجبهات والخنادق إلى السلطة، حاملة معها نهجها وآليات عملها، فارضة على الحكومة توزيع المال العام، من خلال الصناديق، على الأزلام والمحاسيب، بدل توظيفه لتوفير فرص عمل في مشاريع استثمارية، كما حولت الجباية المالية “التشبيحية” إلى جباية “رضائية”، من خلال حملات التمويل الطوعي والتبرعات في بلدان الاغتراب أو الهبات من برجوازيات الطوائف، مقابل خدمات وصفقات يبرمها مسؤولو ميليشيات السلطة على حساب المالية العامة.
ما فشل النظام الأمني بتطبيقه كقوات ردع نجح كنظام وصاية في جعله جزءاً من التقاليد الاستبدادية التي تعتمد تعليق الدساتير أو إلغاءها. لذلك كان أول تعديل أجراه على اتفاق الطائف هو إلغاء الفصل بين السلطات. كان للبنان رئيس فصار له ثلاثة رؤساء، مع أرجحية لرئاسة البرلمان التي لا تزول ولا تحول.
إضافة إلى هذه البدعة، الثلاثة هم رؤساء، دفعت الوصاية آليات المحاصصة إلى آخر مداها، فصار لكل رئيس وزراؤه ونوابه وموظفوه في الإدارة العامة والجيش وقوى الأمن، وصار لكل زعيم منطقة بوسع محافظة أو اثنتين كما هي الحال مع نبيه بري، أو نصف محافظة كما هي الحال مع وليد جنبلاط أو القضاء كما هي الحال مع سليمان فرنجية، وصار كل زعيم، في منطقته، يمثل جميع السلطات، فتحولت إقامة رئيس الجمهورية في القصر الصيفي في بيت الدين إلى مضافة درزية. وصار الرئيس بري يستقبل رئيس الجمهورية في الجنوب ويرحب به كما لو كان زائراً غريباً عن المنطقة، وتحت رعايته تتم مصادرة دور السلطة التنفيذية برئيسها ووزرائها ويحتفل بتدشين المشاريع الحكومية، مدارس وطرقات وجسوراً وآباراً ارتوازية وغيرها، وصار رئيس الحكومة يبرق لقائد الجيش، كأي غريب أو أجنبي أو زائر أو جار، معزياً بشهيد من الجيش اللبناني.
لم يعد مجلس النواب مصدر التشريع ولا مجلس الوزراء سلطة تنفيذية، وحلت الترويكا محل المؤسسات، ودُمِّرت منظومة القيم السياسية والأخلاقية، بعد أن صار ضابط المخابرات مرجعاً للحكام اللبنانيين بديلاً من الدستور، وفقدت السياسة بريقاً عرفته أيام الشهابية وهبط مستواها بعد أن تحول كثير من الساسة إلى سماسرة لدى ضباط الجيش السوري، بل إلى أدوات رخيصة مهمتها كتابة التقارير وتدبير المكائد والصفقات، والتنافس على نيل رضى نظام الوصاية بكل الوسائل المتاحة ومنها الرشاوى المسروقة من المال العام أو من تبييض الأموال في البنوك.
ندر وجود رجال الدولة وغلبت أعداد رجال السياسة الذين وصفهم أحد المحنكين بأنهم ليسوا “أبناء كار”، أي ليسوا من طينة رجال الدولة الذين عرفهم لبنان الاستقلال، ومع كل جيل من الخلف صار اللبنانيون يترحمون على جيل السلف.
فالاقطاع السياسي كان ينفق من ثروته على السياسة، بينما صارت السلطة مورداً مالياً لميليشيات الحرب الأهلية وزعمائها وأتباعهم من الحاشية والأزلام.
حضيض الانحدار تجلى في لغة التخاطب السياسي “الزقاقية” التي تسلّلت إلى القاموس الدبلوماسي من باب قيم ميليشيوية لا تعترف بأي قانون، وتروج للغة التحريض والسباب والشتيمة والنميمة ورشق التهم والكلام البذيء والسوقي من على شاشات التلفزة والتسابق على التحريض الطائفي والمذهبي والمناطقي. وأغلب الظن أن تلك اللغة التي شاعت في العقدين الأخيرين هي تلك التي كان يخاطبهم بها ضباط الأجهزة.
إستهدف نظام الوصاية الركن الأساس في الدولة الديمقراطية أي القضاء، ومن بعده المؤسسات التعليمية وأجهزة الدولة الإدارية، باستبعاد مبدأ الكفاءة وتكافؤ الفرص وتدمير مؤسسات الرقابة التي أنشأتها حكومة رباعية في عهد فؤاد شهاب.
بعد خروج الجيش السوري استكملت القوى اللبنانية عملية التدمير المنهجي للدولة، وحصة “حركة أمل” من هذه العملية هي الأكبر. طبعاً ما من قوة سياسية لبنانية خارج المسؤولية. مسؤولية “حركة أمل” أكبر من سواها، لأنها شغلت منذ البداية دور الوكيل المعتمد للنظام السوري في معارك المخيمات والاشتباكات مع أحزاب “الحركة الوطنية”، ولأنها استمرت، بعد دخولها في السلطة، تعمل بمنطق الميليشيا لا بمنطق الدولة، رغم أن رئيسها الحقوقي صار رئيساً للبرلمان، ولأنها وراء تعميم مفردات التحاصص من اليوم الذي طالبت فيه بوزارة الخارجية إلى اليوم، الذي تصر فيه على الحق المزعوم باسم “الشرعية والمشروعية والميثاقية” بوزارة المالية، ولأن الجهاز الأمني التابع لرئاسة المجلس متهم بالاعتداء على الثوار حتى فقء العيون.