تُعتبر المَلكية الفرنسية، لا سيما بين عامي 1661 و1789 الدرس الأهم في التاريخ السياسي، أي بين الصعود إلى القمة والهبوط إلى قاع الانهيار، لذا يتوقف عندها المراقبون كثيراً في محاولتهم استخلاص العِبر.
بدأت قصة نهوض وزوال الإمبراطورية في عهد الملك لويس الرابع عشر الذي لقب بـ «الملك الشمس، واستمر حكمه 54 عاماً استطاع خلالها نقل بلاده من الفوضى والجهل وجعلها منارة معرفية وأقام دولة قوية داخلياً، فاعلة خارجياً، وراسخة اقتصادياً.
تولى الحكم وهو في الخامسة. لذا عين الوصي على العرش، وقتذاك، رئيس الوزراء، الكاردينال مازارين منذ عام 1661، حتى بلوغ الملك السن القانونية. وحين تسلم زمام الأمور، طبع مصير فرنسا بطابعه إلى حد لا يمكن تصور تاريخها من دونه. فهي عرفت أثناء حكمه المجد، وارتكزت قاعدة العمل السياسي لديه على الطاعة في الداخل والسمعة الحسنة في الخارج، وكان يرى نفسه مصدر السلطات، لذا أطلق عبارته الشهيرة “الدولة أنا وأنا الدولة”.
لم يكن يميل إلى اللهو والعبث، بل تعلم من صغره العمل الجاد، فعَركته الحياة. وإثر وفاة مازارين دخل الحكم بقوة، وكان على قناعة تامة بأن يحكم بنفسه ولا يمكن لأحد أن يحل محله، لذلك قرر إبعاد وزيره الأول والأمراء والشخصيات العامة في القصر عن مركز القرار، وألغى كثيراً من المؤسسات الإدارية وقلّص دور المسؤولين عنها.
شيَّد قصر فرساي عام 1682، وجعله رمزاً للحكم الملكي المطلق. وبعد 100 عام سكنه آخر ملك، وهو الملك لويس السادس عشر وزوجته الملكة ماري أنطوانيت، اللذان أجبرتهما الثورة الفرنسية في عام 1789 على مغادرته.
هذا المجد بدأ بالزوال مع حكم لويس الخامس عشر، الذي حكم 59 عاماً، ورغم تمتعه بسمعة طيبة في بداية عهده، لكن سياسته الداخلية والخارجية أفقدته الدعم الشعبي.
إضافة إلى ذلك، فقد تميز باللهو، وكتب عدد من المؤرخين “كانت الثروات تُصنع بسنوات وتضيع بليلة في فرساي على طاولات القمار التي كثرت في مقر الحكم، وفي حين كان الفقر ينهش معظم الشعب، فإن الملك وحاشيته كانوا ينغمسون أكثر في لعب القمار، بينما مرات كثيرة كان يترك لويس الخامس عشر الاجتماعات المهمة ليذهب إلى صيد الغزلان، أو اللهو مع النساء، لذا انتشرت الرشاوى والاختلاسات وأنواع الكسب غير المشروع”.
كل هذا أدى إلى انقلاب المشاعر العامة على التاج الفرنسي، واتسعت المعارضة. وكانت الآمال مقعودة على لويس السادس عشر الذي توج سنة 1774، إلا أن سمعة فرساي بلغت في عهده مبلغاً كبيراً من السوء، بعد أن أوصلتها إلى الحضيض أخبار عشيقات الملك لويس الخامس عشر وعلاقاته الغرامية، إضافة طبعاً إلى إفلاسه الدولة بسبب خسائره في لعب الميسر.
لم تكن حال لويس السادس عشر الذي حكم 18 عاماً أفضل من سلفه، فهو ورث إمبراطورية على طريق الزوال، ولم يعمل لإصلاحها، بل استمر في حياة اللهو، هو وزوجته ماري أنطوانيت التي تزوجها وعمره 15 عاماً، وهي تصغره بقرابة العام، إذ جعلا الحكم مراهقة مطلقة، فانغمسا أكثر بالملذات. لذا لم يكن مستغرباً أن تلتصق بها العبارة الشهيرة “ليأكلوا البسكويت” حين قيل لها إن الناس تتظاهر بسبب الجوع إلى حد أن الخبز قد فُقد من الأسواق.
في عام 1789 تجمعت هذه الأسباب بأيدي قادة المعارضة الذين سعوا إلى إطاحة الحكم الملكي، وكان ملهمهم من بين قادة آخرين جان بول مارات، الذي كان كاتباً مهتماً بانتقاد السلطة التنفيذية والملك نفسه، وساعدت مقالاته في حض الفرنسيين على الثورة ضد النظام. وكذلك ماكسيميليان روبسبير الزعيم الأهم للثورة، الذي دافع عن الفقراء وضبط أسعار السلع، وألغى الرق والاستعباد في المعسكرات الفرنسية.
وبعد أربع سنوات من نجاح الثورة، أي في عام 1793، حاول لويس السادس عشر الفرار برفقة زوجته ماري أنطوانيت إلى الخارج، لكن أُلقي القبض عليهما وتم إعدامهما بالمقصلة في باريس، حيث كتبت نهاية قصة إمبراطورية ضيّعها اللهو وصيد الغزلان والقمار وعدم سماع أنين الشعب.
*أحمد الجارالله هو رئيس تحرير جريدة « السياسة » الكويتية