لا اظن ان احدا من السذاجة لدرجة الاعتقاد ان الدول، خصوصا الصغيرة منها، تستطيع ان تعمل business as usual في عصر العولمة والانترنت والمصالح الكبرى التي تتحكم بها قوى دولية واقليمية قوية، فكيف بلبنان الذي يتمتع بميزات طبيعية وجغرافية وثقافية إستثنائية، جعلته جاذبا لشتى أنواع الفتوحات والغزوات منذ فجر التاريخ.
لبنان الكبير، بحدوده الحالية والذي تأسس منذ مئة عام واختلف ساكنوه آنذاك على طبيعته الدستورية والكيانية مع تفكك الخلافة العثمانية، استطاع أبناؤه انتزاع الاستقلال وراكموا له شرعية ودورا كبيرين، فساهم بتأسيس الجامعة العربية ولعب دورا ناشطا في مؤسسات الأمم المتحدة، كما برز كثير من ابنائه في محافل ومواقع ومشاريع عربية ودولية مهمة.
والمفارقة أن اعطاب التأسيس ذات الطبيعة الطائفية والتي غالبت عامل المواطنة، لعبت دورا غير مباشر في حمايته من الديكتاتورية والانقلابات العسكرية التي سادت في سوريا والعراق ومصر ومعظم الدول العربية، خصوصا بعد نكبة فلسطين ونشوء الكيان الصهيوني. لكن لبنان المزدهر والمتقدم سرعان ما بدأ بتسديد فواتير الموقع والاعطاب البنيوية بعد هزيمة الانظمة الرسمية في ٦٧ وسطوع نجم العمل الفدائي الفلسطيني.
اقول مفارقة، لان سحق فرنسا بالتواطؤ مع بريطانيا للمملكة العربية السورية الوليدة بمشروع دستورها الفيدرالي (سوريا، لبنان، فلسطين) الديمقراطي وغير الطائفي والذي صاغته نخبة ليبرالية، تعاونت مع الشيخ رشيد رضا الذي شكل جسرا بين المتنورين الإسلاميين والليبراليين العروبيين، أدى لوأد التجربة الديمقراطية الواعدة ومهّد لنشوء الحركات الاسلامية المتطرفة والديكتاتوريات العسكرية الطاغية.
لبناننا الذي تعاقدنا عليه بعد أن مر في كثير من المعموديات والفوالق، دخل الآن في الفالق السياسي والكياني الأخطر. خصوصا أن العالم يشهد تحولات اقتصادية وجيوسياسية كبرى. وإذ يعاد رسم أطر جديدة ومستجدة للصراعات الدولية، وفتح آفاق تسويات سياسية واتفاقات تجارية تعيد صياغة المصالح الدولية للأقطاب الكبار واللاعبين الإقليميين، فإن منطقة الشرق الأوسط وامتداداته العربية ترسم الجانب الأكثر سخونة في المشهد الدولي، كما يدفع العالم العربي الواقع بين أفكاك التماسيح الثلاثة، اسرائيل وايران وتركيا، الثمن الأكثر كلفة في الصراع.
ولايحتاج المرء لكثير من العناء ليرى النظرة البانورامية الابوكاليبتية، خصوصا في المشرق العربي، وفي اليمن التعيس الذي يراد له ان ينشر تعاسته على الدول الخليجية التي تخطو خطوات اجتماعية كبيرة وتحاول محاكاة التحولات الاقتصادية والعلمية من الأبواب الواسعة، بما فيها ابواب الفضاء.
إذا كانت مصالح الدول والامبراطوريات كما تراها نخبها الحاكمة ودولها العميقة هي المحرك الأساسي لحركتها السياسية ومشاريعها ومخططاتها في الداخل والخارج، فعلى الشعوب المتضررة من هذه السياسات أن تدافع عن نفسها بكل السبل المتاحة والممكنة والعملية.
واللبنانيون الذين دفعوا أثمانا غالية في رحلة الحفاظ على الهوية الوطنية والدور المميز والانتماء العربي وصولا لصياغة دستور متوازن يحفظ هذه الثلاثية في بحر الامواج المتلاطمة وإعادة إعمار بلدهم المدمر من الحروب والاجتياحات بدعم عربي ودولي، لم يقصروا في ابتداع وسائل الدفاع المدنية عن هذه الثلاثية التي تتعرض لأشرس الهجمات.
فقد تصدوا للنظام الامني السوري اللبناني، وصولا لاستشهاد الرئيس الحريري ورفاقه وإطلاق انتفاضة الارز المليونية التي شكلت جاذبا للشعوب العربية، وساهمت لاحقا في إطلاق دينامية الربيع العربي المستمر فصولا، رغم التعثر والتعقيدات والقمع الدموي. ونستذكر بمرارة في هذه الأيام زينة الشباب سمير قصير، المناضل والمثقف اللبناني بخلطته السورية الفلسطينية، والذي افتتحوا باغتياله مرحلة تصفيات وارهاب قادة وكوادر ثورة الارز، وصولا للأطباق السياسي الكامل على البلد الذي تحول رهينة للنظام الايراني ومشاريعه في المنطقة بواسطة طرف لبناني مدجج يعلن جهارا ولاءه للولي الفقيه في ايران. علما ان فرض حزب الله مرشحه الجنرال عون رئيسا بعد فراغ طويل ومكلف، ادى عمليا لمحو الخط الذي رسمه المجتمعين العربي والدولي بين الحزب والحكومة اللبنانية وترنح عليه طويلا الاقتصاد اللبناني، خصوصا ان تسويات هذا الانتخاب رفعت منسوب الفساد والزبائنية وزادت من حدة المذهبية والفئوية بالتوازي مع تفكك السيادة وتضخم واهتراء القطاع العام وازدياد العجزين المالي والتجاري، وصولا لشبه انهيار للقطاعات الأساسية، بدءا بالقطاع المصرفي الأكثر رمزية وتأثيرا في النظام الاقتصادي اللبناني، لأن تداعيات انهياره تطال جميع القطاعات الاخرى، كما تطال معظم اللبنانيين الذين شكل هذا القطاع ملاذهم الآمن على مر الزمان.
أعطت انتفاضة ١٧ت١ التاريخية في ٢٠١٩ معطى جديدا في الحياة السياسية والمدنية والحزبية، رغم التعثر والانكفاء بسبب القمع والسلبطة والاحتواء، كما بسبب الارتباك في توجيه البوصلة السياسية، دون أن ننسى التأثير السلبي لجائحة كورونا، فضلا عن جائحة النرجسية عند كثير من الشعبويين والانتهازيين والمتحجرين. وقد برز في حراكات الانتفاضة نخب شبابية متعلمة من الطبقة الوسطى الأكثر تضررا من تداعيات الازمة، وبدت هذه النخب اكثر انفتاحا واستيعابا لمتطلبات القفزات العلمية والثقافية، كما تشكلت مجموعات ومبادرات واحزاب وجبهات سياسية جديدة ومتجددة، بعضها يشكل الوجه الآخر لقوى السلطة ولا يرى ضيرا في خضوع السيادة اللبنانية لفائض القوة الفئوية.
ان اهتراء المشهد السياسي اللبناني، بمظاهره السيادية والبرلمانية والحكومية والقضائية والاقتصادية والمالية والنقدية والاجتماعية، وتفاقم الانقسامات الفئوية والمذهبية، فضلا عن واقع الحريات الهش واستمرار الإفلات من العقاب مع إيقاف المحكمة الخاصة بلبنان وعدم تسليم المدان سليم عياش، وعرقلة التحقيق في جريمة المرفأ المروعة وما رافقها من جرائم اغتيال لبجاني وابو رجيلي ولقمان سليم، يؤشر نحو انهيار لا قعر مرئي له.
واذ تتحمل الطبقة السياسية مجتمعة وخصوصا طرفي “ذمية مار مخايل” المستندة على التبعية والانتهازية وعلى فائض القوة المسلحة، المسؤولية الاساسية لما وصل اليه البلد المتداعي، فان النخب اللبنانية في القطاعين العام والخاص تتحمل جانبا من المسؤولية، اما استكانة او مشاركة او مداراة للعقلية الغنائمية التي استشرست في السنوات الأخيرة.
تعالوا نستعرض ماذا تفعل قوى الاعتراض والمعارضة المتعددة أمام هذا الاهتراء.
المجموعات والقوى السيادية المستقلة تعمل لإنشاء جبهة المقاومة المدنية السلمية للاحتلال الايراني بواسطة حزب الله للبلد. هذه القوى تؤيد مواقف ومبادرات بكركي حول الحياد، مستندة على الدستور بصفته سلاح الذين لا سلاح لهم بوجه فائض القوة، وتكاد لا ترى طائلا في التركيز على اي عمل سياسي أخر ، وهي ترى ان المجتمع الدولي لا يستطيع ان يترك لبنان يتحول الى قنبلة موقوتة على الساحل الشرقي للمتوسط الغني بالغاز والنفط والتاريخ.
اما معظم القوى و الاحزاب والجبهات الأخرى بمختلف الانتماءات والتلاوين والمواقع فتركز على موضوع الانتخابات، باعتبارها حجر الرحى في اعادة تكوين السلطة، وهي مفردة دارجة مع مفردة الارتطام. ومع أهمية الانتخابات كاستحقاق دستوري وجب المشاركة فيه ولو بورقة بيضاء، الا ان الجميع يعرف بانها لن تكون ديمقراطية فعلا بوجود فائض القوة، كما بوجود قانون مذهبي سيساهم بمزيد من الفرز الطائفي، فضلا عن أنه لا ضمانة بأنها ستحصل إذا ارتأت القوى المتسلطة بعدم إقامتها وادخال البلد بالفراغات القاتلة باتجاه اعادة تكوين يستند على واقع مهترئ وميزان قوى مختل وليس على قوة التوازن لبلد متنوع، خصوصا مع شبه انكفاء عربي وتراجع الاهتمام الدولي.
لن ينتظر اهتراء البلد دحر الاحتلال المقنع، كما لن ينتظر الانتخابات الموعودة، خصوصا ان قوى السلطة ستتابع ابتزاز المصرف المركزي (الذي بدأ بتخفيض نسبة الاحتياطي الإلزامي، ورغم ايجابية قرار المجلس بتحرير جزء من الودائع، فإنه يبقى ناقصا واستنسابيا ويعاقب من وثق بعملته الوطنية، فضلا عن أنه يلقي ظلالا على مشروع الكابيتول كونترول الذي طال انتظاره والذي يبدو مما يتسرب بأنه يشبه السلطة التي صاغته ) واستمرار النزف والتهريب والابتزاز كما يحصل باستمرار سلف الكهرباء والفيول، وربما تركيب لاحقا بطاقة تمويلية انتخابية من الاحتياط، ومن ثم ادارة انتخابات على طريقة لا يموت الديب ولا يفنى الغنم وبرعاية الطرف المسلح والاقوى. أي أن الانتخابات ربما تعيد توزيع واقتسام السلطة مع بعض التجميل ولن يعيد تشكيلها، علما ان بعض من سينتخب من المجتمع المدني سيساير حزب الله.
كما أن إدارة الظهر للصراع الحكومي وتركه يأخذ منحى طائفيا وشخصيا بين الحريري وعون-باسيل شكل خطأ كبيرا من جميع قوى المعارضة، خصوصا من القوى السيادية والميني سيادية. ذلك أنه بدا من البعض وكأنه موقف متهيب للشارع المسيحي وتحولاته الانكماشية، ما سمح بتخفيف الطوق عن العونيين، بمساواة غير عادلة للطرفين بالتعطيل، شارك فيها حتى الفرنسيين المتخبطين بالمواقف المتناقضة، وما سمح ايضا باستدراج البطرك الراعي لمواقف تتناقض تماما مع مواقفه المبدئية حول حكومة مهمة من مستقلين اختصاصيين، وحول الدعوة لتحرير الشرعية من الأسر، فضلا عن دعوة المجتمع الدولي من أجل الحياد وتطبيق الدستور، علما ان البعض حاول استدراج بكركي سابقا لادراج تعديل الدستور تحت مسمى ردم الثغر الدستورية.
لذا نجدد الدعوة لحوار بين مكونات المعارضة، خصوصا المؤمنة بسيادة البلد، حول القضايا الاساسية التي يمكن ان تسهم بفرملة الانهيار، وتعيين القواسم المشتركة ووضع خطة استنهاض للبنانيين حول المواضيع المباشرة التي يعانون منها في كل لحظة، والانخراط بموضوع الصراع على الحكومة من مدخل المصلحة الوطنية المستقلة بحكومة مهمة وليس حكومة محاصصة أو انتخابات، وهو ما سيعزز الثقة بامكانية التركيز والإنجاز ويزيد من حضور وفعالية الكتلة الشعبية المتحركة، وربما يحسن من شروط الانخراط في الانتخابات، ويقصر الطريق الطويل نحو التحرير والسيادة ووضع البلد على خارطة الدول الطبيعية من جديد، عن طريق إعادة جذب المجتمعين العربي والدولي نحو دعم لبنان وعدم تركه فريسة على طاولة اللئام.