حينما دشن المجاهدون الأفغان حربهم على حكومتهم الموالية للإتحاد السوفيتي في ثمانينات القرن الماضي، كانت أولى الدول التي استشعرت الخطر هي باكستان بحكم إلتصاق ولاياتها الشمالية بأفغانستان، ناهيك عما يربط سكانها « البشتون » بإخوتهم من البشتون الأفغان من روابط عرقية وثقافية وقبلية. وبمعنى آخر شعرت إسلام آباد بالخطر من تداعيات الأوضاع المضطربة في جارتها، وتوقعت أن تصبح ملجأ للملايين من الأفغان الفارين وتتحول أراضيها إلى مسرح للإضطرابات، وهو ما حدث فعلا، حينما تلقى المجاهدون دعما غربيا واقليميا سمح لهم باستخدام الأراضي الباكستانية الوعرة في الشمال لشن هجمات ضد حكومة كابول الشيوعية.
تلك الحالة قد تتكرر في الهند التي تشعر حكومتها بالقلق من تدهور الأوضاع في جارتها ميانمار منذ قيام العسكر هناك بالإنقلاب على الحكومة الديمقراطية المنتخبة في مطلع فبراير المنصرم، لا سيما إذا تحولت المواجهة بين نظام ميانمار العسكري وقواها المدنية إلى حرب أهلية على النمط الأفغاني. فحينئذ ستجد الهند نفسها أمام موجة نزوح ميانمارية نحو أقاليمها الشرقية والشمالية، حيث السكان يرتبطون بروابط عرقية وثقافية مع الكثير من الجماعات الميانمارية، وقد يتطور الأمر إلى قيام النازحين باستغلال الطبوغرافيا الصعبة في شمال وشرق الهند لشن حرب عصابات ضد عسكر ميانمار. والمعروف أن الهند وميانمار تشتركان في حدود غير مسورة بطول 1640 كم تمر عبر ولايات أروناتشال براديش وناغالاند وميزورام ومانيبور التي تقابلها في الجانب الآخر أقاليم كاشين وساجانغ وتشين الميانمارية.
صحيح أن ميانمار تجاور تايلاند أيضا ويرتبط سكانها البوذيون بروابط دينية مع التايلانديين، إلا أن احتمال تأثر تايلاند بحالة فوضى وحرب أهلية محتملة في ميانمار يبدو أقل. فمناهضو العسكر في ميانمار لا يتوقعون ترحيبا بهم من بانكوك لسببين أولهما أن السلطة في بانكوك بيد حكومة عسكرية معروفة بصرامتها، وثانيهما هو أن بنود ميثاق منظمة آسيان التي تتمتع تايلاند وميانمار بعضويتها تمنع الأعضاء من التدخل في شؤون بعضهم البعض. هذا ناهيك عن خوف بانكوك من ردود فعل بكين التي تربطها بها علاقات وثيقة، والتي تدعم النظام الجديد في رانغون. ولكل هذه العوامل، فإن دعم بانكوك للثوار الميانماريين أمر غير وارد.
ومن المعروف أن باكستان أيدت المجاهدين من منطلقات إسلامية، أما الهند فقد تؤيد الثوار في ميانمار من منطلقات إرساء نظام مدني ديمقراطي، خاصة وأن هذا البلد المجاور كانت يوما ما جزءا من الهند البريطانية. ولهذا يبدو ان هناك إتفاقا أنجلو ــ أمريكيا على استثمار تلك الرغبة الهندية وموقع الهند الجغرافي في تحويل الهند إلى ساحة لإنطلاق الجماعات المناوئة لعسكر بورما مع تشكيل حكومة وحدة وطنية ميانمارية في المنفى مقرها نيودلهي.
ولعل الاتصالات المكثفة بين وزراء خارجية الهند وبريطانيا والولايات المتحدة في الاونة الأخيرة ــ بما فيها محادثاتهم على هامش اجتماعات وزراء خارجية مجموعة السبعة في لندن يومي 3 و5 مايو الجاري ــ لها صلة بما نقول، بعدما أوغل الجيش الميانماري في قمع المحتجين المدنيين العزل. كما وان انسحاب شركة هندية كبرى مثل شركة أداني لتشغيل الموانيء وإدارة المناطق الإقتصادية الخاصة وأعمال المناولة والشحن البحري من ميانمار مؤشر على أن الأوضاع في ميانمار في طريقها إلى التصعيد المنظم. وفي هذا السياق كتب الدبلوماسي الهندي السابق “إم. كي. بدرا كومار” مقالا شبه فيه انسحاب الشركة الهندية من ميانمار في هذا التوقيت بما تقوم به الأفيال عادة من الانسحاب من غاباتها إلى مناطق مرتفعة إذا ما استشعرت بخطر قادم على نحو ما قامت به أفيال سريلانكا قبيل موجة تسونامي الآسيوي الكبير في ديسمبر 2004.
ومما ورد في العديد من التقارير الصادرة من ميانمار أن هناك بالفعل جهود تبذل لخلق تكتل شعبي واسع يضم كل الأعراق والديانات المتضررة من سياسات وقمع العسكر في هذا البلد سيء الحظ، شاملا الانفصاليين والمتمردين من المسلمين والمسيحيين وغير البوذيين، رغم كل ما بين هذه الجماعات من كراهية وعدم ثقة وتباين في المصالح. ولعل ما يؤكد صحة هذه التقارير أن “إتحاد كارين الوطني”، وهي جماعة مسلحة ميانمارية متمردة، قادت مؤخرا اول هجوم مسلح كبير على الجيش منذ انقلاب جنرالاته، لتتبعه هجمات كر وفر متتالية. هذا ناهيك عن إعلان حكومة الوحدة الوطنية المناهضة للعسكر عزمها على تأسيس “جيش الإتحاد الفيدرالي” من المنشقين عن قوات الأمن والجماعات العرقية المتمردة والمتطوعين الراغبين في مقارعة العسكر.
جملة القول أن نيودلهي ستخطيء كثيرا إذا غيرت سياساتها تجاه ميانمار بطريقة تواكب فيها المشروع الغربي للتدخل في الأخيرة باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان. فهذا المشروع محفوف بالمخاطر وسوف يجر عليها ما جرّ الجهاد الأفغاني على باكستان من متاعب وفوضى أمنية.
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين