يبدو أن العبارة الشهيرة المتداولة في الأوساط السياسية والاجتماعية، وفي منصات التواصل الاجتماعي، والتي تدّعي أن الغالبية العظمى من المواقف الشعبية المؤيدة للتطبيع في المجتمعات الخليجية جاءت « إما خوفا أو خنوعا »، وأن التطبيع لن يكون إلا بين الأنظمة ولا شأن لغالبية الأفراد به، يبدو أن هذه العبارة قد اهتزت اليوم وتفككت وأصبح من الممكن تفنيدها!
فرغم وجود معارضين للتطبيع في الإمارات وفي البحرين بل وفي مختلف دول الخليج، وقد تختلف النسبة المعلنة عن نفسها بين أكثرية هنا وأقلية هناك، لكن من الملاحظ في هذه الأوساط، وكذلك داخل المنصات، وجود تأييد شعبي ونُخبوي واضح وصريح للتطبيع، ويتم تبرير التأييد في كثير من الأحيان من منطق المصلحة السياسية والاقتصادية بل وحتى من منطلق ديني. فهناك الكثير من النُخب التي أيدت التطبيع بنحو سياسي واقتصادي واع دون أن تتم محاصرة مواقفها بالتهديد والوعيد، على الرغم من وجود فئة لا تستطيع إلا أن تتبع الموقف الرسمي من التطبيع وليس بمقدورها معارضته.
ورغم أن للنخب الرافضة للتطبيع أسبابها السياسية المصلحية أو الأيديولوجية (الدينية والعروبية)، إذ يمكن إلى حد ما استيعاب الرفض الإسلامي، وكذلك الرفض العروبي للتطبيع، لكن ما لا يمكن فهمه هو رفض البعض للتطبيع انطلاقا مما يسمونه بالأسباب “الإنسانية”!
فالقضية الفلسطينية وأسبابها والحلول المطروحة لمعالجتها ليست القضية الإنسانية الوحيدة في العالم. إذ هناك العديد من القضايا المشابهة لها والتي كان يجب أيضا الدفاع عنها لأسباب إنسانية، كالدفاع عن القضية الكشميرية وعن القضية الكردية وعن قضية الصحراء الغربية في المغرب وعن قضية « سبتة » و »مليلة » في إسبانيا. فأين المواقف الإنسانية تجاه هذه القضايا؟
أما أرقام ضحايا الحروب والنزاعات الداخلية التي جرت وتجري في دول عربية وإسلامية عدة، فقد تجاوزت بكثير أعداد من قتلوا وجرحوا وتشرّدوا وتهجروا من الفلسطينيين، ففي سوريا لوحدها هناك قتلى وجرحى بمئات الآلاف وتهجير للملايين خلال ١١ سنة فقط، وهي ارقام تتجاوز كثيرا أرقام الفلسطينيين. فهذه الأحداث والأرقام تكشف إلى أي حد يبدو مصير الإنسان العربي أو المسلم رخيصا إنسانيا، وإلى أي حد تبدو عبارة “الدفاع عن الإنسان الفلسطيني إنسانيا” متناقضة، كما تكشف أن الأيديولوجيا الدينية وكذلك العروبية هي أخطر ما يهدد الإنسان العربي والمسلم، وبالذات الإنسان الساعي لحياة كريمة.
ما يمكن اعتباره مثيراً في مواقف الكثير من الشخصيات والنُخَب السياسية والثقافية الكويتية المعارضة للتطبيع والتي تدّعي بأنها تدافع عن القضية الفلسطينية من منطلق “إنساني”، هو عدم تبنيها رأيا مساندا واضحا وصريحا تجاه القضية الإنسانية الأولى في الكويت بما يضاهي تشدّدها تجاه القضية الفلسطينية، وأقصد بذلك قضية « البدون ». فتبني الموضوع الفلسطيني بصورة إنسانية يقتضي حسب المنطق وحسب الوازع الأخلاقي تبنى مختلف القضايا الحقوقية المحلية وتلك المتعلقة بالحريات، فهي تمثل الاختبار الحقيقي الذي يمكن من خلاله قياس صدق شعار الدفاع عن القضة الفلسطينية بصورة إنسانية.
لذلك، من المعيب أن تكون القضية الفلسطينية وحقوق الإنسان الفلسطيني ومستقبل دولة فلسطين هو الهمّ الأول أو الأساسي أو حتى الوحيد لبعض هذه الشخصيات والنخب، فيما لا صوت يضاهيه للدفاع عن حقوق وحريات الإنسان الكويتي « البدون ». فكيف يمكن أن نفسّر هذا الإصرار “الإنساني” المفاجئ للدفاع عن الموضوع الفلسطيني من دون ربط ذلك بعوامل لا تلتقي مع التفسير الإنساني في الشأن المحلي بل هي أقرب إلى عوامل أيديولوجية؟
لا يوجد هناك أي شك في أن القضية الفلسطينية هي قضية إنسانية قبل أي شيء آخر، لكن هل “اللاتطبيع” هو الوسيلة الوحيدة للدفاع عن هذا الشأن الإنساني؟ وهل يجب الدفاع وفق المصلحة الوطنية وضروراتها، أم لا بد أن نخضع الموضوع للحلول الغابرة وللشعارات البالية ولو جاء ذلك على حساب المصالح الوطنية؟ بطبيعة الحال، تتعدد وسائل الدفاع عن القضية الفلسطينية، ومن يحدّدها في وسيلة واحدة منعكسة في عدم التطبيع وفي المطالبة “بتجريم” التطبيع و”تخوين” من يدعو إليه، فهو ينتمي من حيث لا يدري إلى الفكر المؤدلج وإلى مؤسسة الأيديولوجيا التي لا تتوانى عن حذف الآخر غير المتوافق مع حلولها المؤدلجة أو “المقدسة” إن صح التعبير.
لذلك، ومن وجهة نظر المؤدلجين، يُعتبر طبيعيا “تجريم” و”تخوين” المختلف في الرأي وفي الحلول المطروحة لمعالجة القضايا والمسائل، بعدما بات فهم المصلحة الوطنية وغير الوطنية منحصرا في التفسير المتوافق ومنطلقاتهم الأيديولوجية. فأي اختلاف مع هذه المنطلقات، أو أي تغيير في الأولويات، بحيث يصبح التفسير مغايرا أو يصبح موقع المصلحة الوطنية متقدما علي موقع المصلحة الأممية المؤدلجة، دينية كانت أو عروبية، فذلك سيكون مدعاة لإلغاء صاحب هذا الرأي سواء “بتخوينه” أو بإصدار تشريع “يُجرّم” مطالبه.
ويبدو واضحا وجليا من خلال تتبّع العديد من المواقف المعارضة للتطبيع، أنها تُقاد من قبل أيديولوجيا الدين السياسي وجمع من العروبيين الأمميين، ممن يرجمون الواقع والمصلحة الوطنية بحجر الشعارات البالية ولو جاء ذلك على حساب مصلحة المواطن والوطن، فالمهم بالنسبة إليهم هو انتصار الأيديولوجيا و”القضية الأولى” ولو تعارض ذلك مع الحلول التي يطرحها أصحاب القضية من حل الدولتين والتفاوض مع الإسرائيليين بل وإقامة علاقات مع الحكومة الإسرائيلية.
كذلك يبدو جليا لدى الكثير من المراقبين أن غالبية الإسلاميين ممن ينتمون لخطاب الإسلام السياسي ولمشروع الدولة الإسلامية، لا يدافعون عن القضية الفلسطينية باعتبارها قضية المسلمين، إنما يدافعون عنها باعتبارها جزءا من “مشروع الهيمنة” الديني، وأن القضية الفلسطينية هي مجرد عنوان في إطار دعم “الدولة الإسلامية”، وإلا فأين هم من حقوق المسلمين وقضاياهم في مختلف البقاع، كقضية المسلمين الشيشان، وقضية المسلمين اليوغور في الصين، وقضية كشمير، وقضايا الحكم الذاتي لمسلمي شرق آسيا؟
لم تعد شعارات الستينات والسبعينات والثمانينات من القرن الماضي تستطيع أن تجاري تطورات وتغيّرات الواقع الذي نعيشه اليوم. فصور الحياة في مختلف جوانبها بما فيها السياسية قد تغيرت، والتحالفات القديمة تلاشت، خاصة بعد انهيار الإتحاد السوفييتي والغزو العراقي للكويت، فظهرت أفكار وثقافات جديدة، وانبثقت تحالفات مغايرة وأصبح هناك توزيع للقوى مختلف، وباتت مصلحة الكويت تحتّم تجاوز الكثير من القديم وبناء واقع سياسي يتوافق مع الجديد. لذا لا يمكن التعويل على فترة الستينات والسبعينات والثمانينات وظروفها وأحداثها وتحالفاتها بوصفها ثوابت لا يمكن مسّها ولابد من الاستمرار في البناء عليها.
من هذا المنطلق فإن السعي لتحقيق مصالحنا الوطنية لا يمكن أن يظل ثابتا في منطلقاته وفي أدواته التنفيذية، بل يجب الاستفادة من آليات السياسة بصورة واقعية وحسب مفاعيلها القائمة على أن الثوابت قد لا تصبح صالحة لكل زمان إنما تغيّرها المصالح وتتحكّم فيها الظروف، ولا ضرر من الإقدام على خطوة التغيير في عالم فن الممكن، بل لا بد من تبني الجرأة في الإقدام إذا توفرت الأسباب لتجاوز المنطلقات والشعارات القديمة في حال كانت الاستراتيجيات والمصالح تحتّم ذلك.
إن اللجوء إلى التطبيع هو جزء من فن الممكن، وقد تعارف عليه بين مختلف الدول التي لديها سجل محترم في مسائل الدفاع عن الإنسان وقضاياه الحقوقية، فلماذا يمكن أن يُعتبر عملا مستنكرا إذا أصبح كويتيا إذا ما صبّ نهره في مجرى المصلحة الوطنية؟ خاصة حينما نعي أن التمسك بعدم التطبيع قد يلحق الضرر بالمصالح الوطنية من خلال تعارضه والتطورات والتغيرات والتحالفات الجديدة، بل حينما يصبح حجر عثرة في طريق الدفاع عن حقوق الفلسطينيين، وحجر عثرة كذلك في طريق العديد من المخاطر التي تهدد الأمن الإقليمي بل وفي طريق تطوّر الحقوق والحريات. ويبدو أن الجماعات السياسية المؤدلجة الدينية والعروبية وتلك المتأثرة بهذا النوع من الأفكار والمواقف والسياسات، هي التي تصر على خطف جميع المواقف، واعتبار من يقف في الضد منها بأنه خائن أو مجرم لا محالة.
*كاتب كويتي