في الفيديوهات التي تتناقلها وسائل الإعلام الرقمي في اللحظات التي أعقبت الانفجار المرعب، تشاهد الناجين يهرعون لمساعدة الجرحى والمصابين متغلبين على صدمتهم وخوفهم. مدهشة ثقافة التعاون والتعاطف السائدة، وكأنها امتصت وصادرت كل أحاسيس التعاطف ولم تترك شيئا لمعظم السياسيين من العصابة الحاكمة كإحتلال.
فورا نزل مئات الشبان والصبايا وسائر الأعمار، ومنهم من أتى من الخارج، للإسعاف والمواساة والمساعدة وكنس الركام. في لبنان نستخدم جملة (شي بكبّر القلب). تشعر حقا أن قلبك اتسع وامتلأ حبا لهؤلاء المنتمين إلى المجتمع المدني وإنجازاتهم في ظل غياب وتقصير أجهزة سلطة غابت عن السمع وانشغلت بقمع التظاهرات.
مؤخرا نزل أفراد من الشرطة عند المفارق يسجلون الأضرار. كيف يسجلونها نسأل السكان: لا ندري! يتفق الجميع أن أرقام الخسائر غير دقيقة، لا جهة مركزية تسجلها بشكل سيستيمي ولا تنسيق.
أسير في شارع الجميزة، الأحب إلى قلبي، الذي كان مفعما بضجيج حياة تنبعث أغان وأصوات وأحاديث عبر مشاة الأرصفة ورواد المقاهي والمطاعم على أنواعها والغاليرهات والمحال ودور العبادة والمدارس والمباني الاثرية. يغرق اليوم في صمته الكئيب. غادرته الحياة مع رحيل 97% من ساكنيه، (تقدير نقابة المحامين الذين يسجلون خسائر السكان لرفع قضايا لحفظ حقوقهم). الوف المنازل متضررة. أكثر من 600 منها مصنفة أثرية، مهددة.
اختفت الأصوات. كأنما امتصتها أشلاء البنايات المعلقة، أو سُحلت كشظايا الزجاج المتطاير كسلاح سري.
بهدلة، بهدلة، بهدلة.. تتمتم السيدة المسرعة.
السؤال الذي تغص به الحناجر: لماذا حصل لنا ذلك؟ لماذا يعرضوننا للإبادة؟ لماذا؟ نحن بشر ولسنا أرقاما! لا يمكن الاستمرار هكذا، لم نعد نحتمل.
تقتصر معظم المساعدات في الجميزة على تلك الآنية، تقديم وجبات وحاجات غذائية. توزع المساعدات في الشارع لكل من يريد دون بطاقات أو سؤال. يأتي البعض من خارج المنطقة يأخذون حاجاتهم ويمشون دون أي تحقيق من القيمين. يعترض البعض بغضب، ألا يكفي مصابنا؟ يزاحموننا في منطقتنا؟ يفضلون توزيع المساعدات على البيوت مباشرة. بعض الجمعيات تقوم بذلك.
زرت مع فريق Lebanese DNA عددا من المنازل التي تعهدوا بإصلاحها، زجاج وأعمال الباطون، لجعلها صالحة للسكن بسرعة. أصلح حتى الآن 23 منزلا من التبرعات التي تكفل بها الأعضاء. مساعدة غير كافية، لكنها تخفف العبء عن البعض وتسمح بإعادة ترتيب حياة البعض. مع أنه يصعب تخيل ذلك أمام حطام بيوت مشرعة على الخارج، لا نوافذ ولا أبواب وخزائنها مبقورة اختفت محتوياتها وأغراض مبعثرة يختلط بعضها ببعض مع الركام. يقفون وسط الحطام يبحثون عن بقايا ذكريات، لا يعرفون بم يبدأون وكيف!!
أشعرتني البيوت بثقل المعاناة ووجعها. ذهب جنى العمر. أتخيل نفسي مكانهم وأشعر بالدوار. كل مواساة ستظل عاجزة وبكماء. يقصون كيف حمل جرحاهم، تغطيهم الدماء، المصابين بإصابات خطرة وذهبوا سيراً على الأقدام من مستشفى الى آخر، فمعظمها كان متضرراً وعاجزا عن استقبالهم. لا تزال آثار الندوب حية تركت علاماتها في الأجسام.
أشاهد صور مفروشات آل معماري وثرياتهم وصالوناتهم قبل الانفجار وبعده، ولا أصدق. كيف سيستخرجون بعضا من حياتهم من هذا الخراب؟ أحد الأبناء أصبح عاطلا عن العمل والاخر متزوج وخسر 80% من قيمة الراتب؟ ولم تتوضح بعد آلية إعادة الإعمار.
في ورشة إعادة البناء والترميم التي يديرها متطوعون من جمعية “فرح العطاء” في الكرنتينا، الجمعية الأكثر تنظيما والموثوقة، تصلها المساعدات مباشرة من الدول المانحة، تحلقت مجموعة من السكان في فسحة على حافة الطريق التي لا رصيف لها. فقدوا منازلهم ومحالهم. يجلسون بانتظار ترميمها. أسكنوهم في مناطق متفرقة، ينزلون منها يوميا لتفقد منازلهم يراقبون فرقا من المتطوعين الشباب.
بعضهم يتكلف 35 ألف ليرة (أكثر من 20 دولار بقليل بحسب سعر الصرف الرسمي) بدل التنقلات؛ بعد أن فقدوا جميع ممتلكاتهم ومصادر دخلهم. يجلسون في الشارع بصمت، ساهمون، ضائعون. السيدة هدى ضو جوني تشير بيدها إلى محلها المتضرر أمامها مباشرة:” أنظري فقدت كل ما أملك، لنفترض أنهم رمموا المحل، من يعيد بضاعتي (أدوات كهربائية)؟ كيف سأستعيد تجارتي وحياتي السابقة ومتى؟ أختها التي تعمل في مؤسسة إعلام كبيرة تجلس الآن برجلها المكسورة على الرصيف وتستنكر:” كيف أصبحت بلا مأوى واجلس على الرصيف ولماذا؟؟؟”
قصة جولييت صعب عودة، أرملة لعسكري، ترقد الآن في غيبوبة في المستشفى بعد وقوعها على ظهرها وإصابة رئتيها قد ينتج عنها عجز دائم وهي أم ليتيمين صبي وبنت. أصبحوا بلا مأوى. تسألني جارتها: من سيعتني بها عندما تخرج باعاقة دائمة؟ جولييت لم تكن قد قبضت تقاعد زوجها بعد عام ونصف العام على وفاته. السبب؟ عدم اكتمال الأوراق المطلوبة!! فبحسب طقوس البيروقراطية اللبنانية، كل معاملة تتطلب عددا لا يحصى من الأوراق. الأمر نفسه يطبق في الكوارث، فكل من دمر منزله؛ عليه أن يصور الأضرار ويحصل على وراق من عدد من الدوائر. حتى جثث ضحايا الانفجار لم تسلّم لذويهم قبل الحصول على “نشرة” تفيد عدم وجود مخالفات عليهم!!
دولة وقحة لا تخجل. توكل مهاهما في اسعاف الناس وتضميد جراحهم ومساعدتهم للمجتمع المدني الذي يستنفر جميع طاقاته من جمعيات ومؤسسات ومتطوعين. ثقافة تعاون تطورت مع الحروب ودورات العنف والقتل المستمرة منذ العام 1969.
لم لا ينزلون جيوش الموظفين الذين أدخلوهم جنة الوزارات والإدارات عند كل استحقاق انتخابي؟ وثلثهم عاطلين عن العمل. يعتمدون على الجيش. فالى متى سيحمل هذا الجيش جميع مهمام الدولة؟؟ بينما لا تتواصل الأجهزة مع بعضها البعض، فكل جهاز يتبع لزعيم ويغرقون بالتناقضات والمنافسات والعداوات.
يوضح تصريح شاب لإذاعة صوت لبنان، رفض الكشف عن اسمه، التناقض الوجداني الذي ينتاب المنتمين الى أجهزة الدولة والشعور بالعجز والغضب الذي يعانونه:” أخذت يوم off لأساعد اخوتي المتضررين، خسرت 5 من اصدقائي وكلهم عندهم اطفال.
ننام ونقول يا رب انتقم لنا منهم. انا ندمت عالنهار اللي تطوعت فيه في مؤسسات الدولة، طبقة حاكمة زبالة. بعد خدمتي نهارا اخلع بدلتي وانزل للمساعدة.
الإصابات لا تتعلق فقط بالقتلى. تنقل إحدى العاملات في المستشفى الحكومي أنها شاهدت مصابين فقدوا أعين أو اذن أو أنف أو أيدي أو أرجل. فقد بعضهم عدة أعضاء. بحيث فكرت أنها تتمنى الموت في هذه الحالة. من قتل في الانفجار فطر قلوب اهله وقلوبنا، ولكن الحياة ستستمر بعد فترة حداد تطول او تقصر. لكن ماذا عمن سيعيشون بأجساد مشوهة وجروح نفسية لمصدومين لا ندري هل تشفى ومتى!! ماذا عن كوابيس الأطفال والإحباط وتروما ما بعد الصدمة وآثارها؟ السؤال مع فيروز:
“شو منعمل باللي بيقيوا”؟ مصدومين وبلا بيت ومتاع، بلا ثياب أو مورد أو مدخرات؟ وتعويضات مسروقة من المصرف والدولة؟
دمرالحجر، لكن الأصعب تمزيق البشر وأرواحهم ووجودهم ونسيجهم الاجتماعي وتعمق خراب الاقتصاد والقضاء على كنوز التراث. من سوف يعوّض الخسائر وكيف؟ وبحسب اي معايير؟ كيف توزع المساعدات وبحسب اي آلية؟ لماذا لا يعتمدون داتا البنك الدولي وطريقة توزيعه للمساعدات؟
الصعوبات الميدانية برزت منذ اللحظة الأولى، تخبرني كوثر شيا:” حاولنا أن نسجل اسمنا وجمعيتنا على خط 1701 للطوارئ، أو على بلدية بيروت، فلم يرد أحد. حتى التسجيل يحتاج إلى واسطة. سجلت اسمها عن طريق وسيط ربطها مع موظف في البلدية، ليتوسط لأخذ موعد مع احد العمداء ورقم طوارئ لتسجل جمعيتها وتفصح عن العمل الذي انجزته. اكتشفوا وجود 3 فرق مسؤولة عن التنظيم: الصليب الأحمر وطوارئ الجيش وبلدية بيروت لنعطيهم علم وخبر. الاتصال بالصليب الأحمر يحصل مباشرة ودون واسطة. حددنا موقعنا بعد اتصال بالنقابة تنتفض وال zone التي ننوي العمل بها كي لا يتسجل أحد غيرنا ويأخذ مساعدات لا يوزعها.
في العشرة أيام الأولى حصلت فوضى كبيرة وبدا أن “كل واحد فاتح عحسابه”.
وصلت مساعدات ضخمة، أقيمت خيم يأتي اليها الناس عشوائيا يأخذون المساعدات دون رقابة. هكذا حصلت تسريبات المساعدات التي تم تصويرها في سوبر ماركت الرمال في الضاحية الجنوبية. لم تعدّ جردة بأسماء الذين ذهبت إليهم المساعدات وهل تصل لمستحقيها حقاً.
أما عن الفيديوهات التي سربت لشاحنات محملة بالمساعدات متجهة جنوباً ، فقد اصدر الجيش بيانا اوضح فيه ان البضائع تنقل بعلمه الى صيدا للتخزين!! أضاقت الأمكنة في بيروت!! لكن سربت صور مجدداً للمساعدات تهرّب فور وصولها الى المطار. ولا يملك المعنيين سوى الإنكار، والإنكار مجدداً.
ناهيك عن السرقات في الشوارع من البيوت المهدمة حتى بوجود ساكنيها بحسب شهادة السيدة عازوري. قد يأتي شبان على اساس انهم عمال وشغيلة، لكنهم يأخذون الابواب والنوافذ خلسة ويذهبون بها. صار عملنا أن نكون حراس المنطقة في ظل غياب السلطات الرسمية!! في الكرنتينا ايضا يشكو شباب المنطقة من الإرهاق، يعملون نهاراً ويحرسون ليلاً؟ اين الاجهزة الامنية؟ أسأل الشرطي الذي ينظر اليّ بحيرة!
الخوف الأكبر ان تذهب أموال إعادة الإعمار كما حصل في الحروب السابقة، إلى جيوب من عصابات السلطة ومحاسيبهم. فتكونت طبقة من الأثرياء أصبح معظمهم في الحكم بعد اتفاق الطائف. من هنا حذر المواطن اللبناني والمجتمع الدولي.
هذا حال بلد قيل فيه يوما: نيال مين الو فيه مرقد عنزة”. كأن المستقبل لم يعد في مكان اسمه لبنان.
تنتابك مشاعر متناقضة. يطفح قلبك حزنا وغضبا ومرارة. لكن همة بعض الشباب وانتشار منظمات ال NGO’S في خيمهم المنتشرة للمساعدة، تنفحك ببعض أمل بمستقبل سيعرف هذا الجيل كيف يبني لبنان الجديد عندما يزيح عن قلب لبنان هذه المافيا التي عفنت وزكمت روائحها انوف الكرة الارضية.
monafayad@hotmail.com
الحرة