الانتقام من وسط بيروت
وقف الرجل في صبيحة 13 يونيو، يعاين دمار وسط المدينة، مبهوتا. تماما كما بهتنا أمام الشاشات ليل تلك الصبيحة. وقف الرجل أمام آثار الحرائق التي التهمت محلات بيروت بما فيها محله.
نحن كنا شهود زور الشاشات تلك العشية. شاهدنا عشرات الشبان، وبينهم صبايا، يكسرون ويضرمون النار في الوسط (قدرت خسائرها من بداية الانتفاضة بنحو 700 مليون دولار) دون استعجال أو خوف. بينما وقفت عدد من الأجهزة الأمنية تراقب، قبل التدخل لتفريقهم بالغاز المسيل للدموع بعد فترة الفرجة!
يردد المعتدون على وسط بيروت شعارات تفيد أن “أرض سوليدير اغتصبها رفيق الحريري”. علّق أحدهم: “على أساس الرمل العالي والأوزاعي وحارة حريك شاريينها بعرق جبينكم”! ومن المعروف أن بعض هذه الأراضي ملك مطرانية بيروت للموارنة. ناهيك عن الاعتداءات الحاصلة في بلدة لاسا على أملاك الكنيسة، ومنع المزارعين المسيحيين من الاستفادة من الأراضي الزراعية التي قدمتها المطرانية لهم لزراعتها دون مقابل بسبب الأزمة. وامتنع القضاء عن التدخل، تاركا الأمر للجنة أمنية، وهي لجنة تابعة لقوى الأمر الواقع الحزبية.
هذا بينما تتعدّد الروايات عن أسباب تأخّر القوى الأمنية في تطويق المخرّبين بوسط بيروت. لكن وزير الداخلية محمد فهمي يكرر تأكيده على “حماية المتظاهرين السلميين، وقمع المشاغبين والمندسين”، مشددا على أن “القوى الأمنية ستعمل على ملاحقة المخلين بالأمن… وإحالتهم إلى القضاء المختص”.
شتم الرئيس
لم يقبض على أحد، بل العكس تتم ملاحقة المتظاهرين السلميين. وبدل تأمين رغيف الخبز والمحروقات، أصدر القاضي غسان عويدات قرارا يتعلق بالمدونات المعارضة لرئيس الجهورية. من بين المُلاحَقين الفنانة التشكيلية، باسكال طراف، المطلوبة للتحقيق بخصوص موقف على أحد مواقع التواصل الاجتماعي يطال “فخامة الرئيس”. أشارت إلى أن من حقق معها كان في منتهى التهذيب واللياقة، وطلب منها محو “البوستات” وعدم التعرض للرئيس بعد الآن.. وعندما سألها ماذا ترسمين الآن في هذا الوضع؟ أجابته أرسم امرأة مشقفة، مجروحة، منزوفة، أحضروا لها طبيبا فاشلا وبدل أن يداويها انتزع منها أوتار صوتها وأسكتها وشلّ لسانها. ولكنها لم تُشفَ وما زالت تنزف. “هذا البلد موجوع ومنذلّ، نحنا اللبنانية موجوعين ومذلولين. إذا سكتوني أنا، ما توقفوا. كفوا”. وأوقف الناشط ميشال شمعون بنفس التهمة وتسبب ذلك بمظاهرات احتجاجية.
هنا، قرر عدد من الناشطين تسليم أنفسهم للقضاء المختص لأنهم يشتمون الرئيس هم أيضا. عبّر عنهم المحامي أيمن رعد بقوله:
“حرية التعبير مبدأ مقدس في جميع أنحاء العالم. ما حصل أنهم قرروا القيام بهذه المبادرة كي لا يتعب رجال القضاء والأجهزة الأمنية بالبحث عنهم. جاءوا يسلمون أنفسهم لإفساح المجال للقضاء كي يهتم بالكشف على قضايا الفساد. الملاحقة تحصل بسبب ما تعدّه مراجع السلطة شتائم شخصية تلحق بالرئيس وبالسياسيين. نحن كمحامين لا نقبل الشتم بالطبع، لكن المتظاهرين يقولون إن حرية التعبير سقفها عالي، نشاهد ما يحصل في دول العالم مثل فرنسا وما يتعرض له الرئيس أو أي موقع آخر، لأنه في الوقت الذي يقبل أي شخص تَسَلُّم موقع عام عليه أن يقبل بالنقد والنقد اللاذع والشتم أيضا لأنه هو من وضع نفسه في موقع عام. وإذا لم يستطع تحمل ذلك يمكنه الاستقالة، وحينها يحق له مقاضاة من يتعرض له ويصبح التعرض شخصيا”.
من جهة أخرى، تقدم المخرج يوسف ي. الخوري بدعوى ضد الأمين العام لـ “حزب الله” حسن نصرالله بتهمة التعرض لمقام وهيبة رئيس الجمهورية.
تعتبر الدعوى أن المؤتمر الصحفي الذي عقده المدّعى عليه حدّد فيه كل الخطوات التي على الدولة والشعب التزامها، وهو بذلك يجهض دعوة فخامة الرئيس إلى الحوار الوطني.. لأنه يحتل بقوة سلاحه قرار السلطات اللبنانية، ولا أحد يقوى على مناقشة توجّهاته…
نصرالله و”أوامر اليوم”
لقد اضطر نصرالله أن يصبح في الواجهة بعد أن “قدم لبن العصفور” لسعد الحريري لاستلام رئاسة حكومة، التي ستكون صورية بالطبع، فرفض. وبهذا انكشفت سيطرته على مراكز القرار أمام اللبنانيين، ولم يعد محور خطابه التهديد والوعيد، بل أصبح التقرير والتوجيه.
انبرى في خطابه الأخير، بعد تمارين التخويف والتهديد بالفتنة والحرب الأهلية، ليعلن “أمر اليوم” وقد كان متعدد الأذرع.
لكن جوهر الرد تناول مسألتين يعتبرهما مهدِّدَتين. مظاهرة 6 يونيو التي حملت شعار تطبيق 1559 الذي يحمي الحدود من التهريب. وقانون “قيصر” الذي يفترض بنا، كي لا نكتوي بناره، تطبيق القرارات الدولية إياها تحديدا. لكن ذلك سيحمي لبنان ويترك “حزب الله” ،يواجه وحده العقوبات، كونه المشارك في قمع وإيذاء السوريين. من هنا رفضه للعقوبات والتوجه نحو إيران والصين التي يتظاهر مواطنيها تحت شعار: “نحن نحب إسرائيل”. علق البعض: إن كيفية فهم نصرالله للاقتصاد العالمي تشكل خطرا على لبنان أكثر من ترسانة سلاحه.
أما باقي مقررات المرشد فهي:
استقالة الحكومة: شائعات لا صحة لها. مع أمر بالابتعاد عن احتقان الأجواء. التظاهر أو الاحتجاج طبيعي، لكن ممنوع إدخال 1559، “تظاهروا ضد السلاح لكن لا يسمح الخلط بينه وبين الاقتصاد”!
وصحيح أنه لا يريد الفتنة، لكن ذلك لا يمنعه من التهديد العلني بالقتل. من يطالب بتطبيق قانون “قيصر” أو أي قرار دولي كالقرار 1559، لأنه: “يضعنا بين خيارين يا منقتلك بالسلاح أو بالجوع، نقول له: سيبقى السلاح بين أيدينا ونحن سنقتلك، سنقتلك“.
لكن الممنوعات تتخطى كل ذلك، تحسبا لما هو قادم:
ممنوع تحميل “الشيعية السياسية” مسؤولية غزوة بيروت وإحراقها. وهو في معرض نفيه يؤكد تورطه: “اتفقنا مع (حركة) “أمل”، اعملوا معروف امنعوا الدراجات نحنا ما بدنا مشكل لا هي مصلحة البلد ولا مصلحتنا. ونحنا قررنا ننزل لمنعهم دون سلاح (بميزوا حالهم بطاقية خضرا أو صفرا مش مشكلة). لا فتنة سياسية أو طائفية، سنفعل أي شيء وقولوا اللي بدكم إياه واحكوا الي بدكم إياه. عند الضرورة سننزل شبابنا”. يعني سوف ينزل الميليشيا النظامية لضبط الميلشيا غير النظامية!
ماذا يخبرنا هنا؟ أنه حل محل الجيش والأجهزة الأمنية والمخابرات؟ وبأمر من مَن؟ وبأي قانون؟
لا يحتاج لقانون بالطبع، لأنه أصبح يمثله، فبعد أقل من 48 ساعة عزمت الحكومة على التوجه شرقا.
سجن الضاحية
هنا سأكتفي، كرد على ما تفضل به، بمقطع من مقال لعلي حسن في موقع درج، يصف فيه الوضع في الضاحية: “لقد منعتمونا من النزول إلى ساحة الشهداء ورياض الصلح مرارا، وطوقتم الزواريب واحتجزتم الدراجات، وأبرحتمونا ضربا عندما حاولنا حرق الإطارات في ساحاتنا وأحيائنا. فماذا بعد؟ تستغلون قسما منّا لكي يعيث خرابكم، لتصفّوا حساباتكم السياسية وترهبوا خصومكم، ثم تنبذوننا وتهجروننا، وتعاملوننا ككائنات غير واعية وغير قادرة على التفكير. وهكذا تُفهموننا أن أي محاولة منا، ولو لفترة قصيرة، للانتفاض، ستقابل بعسكرة داخل مناطقنا وعلى مداخلها. أتدري يا “حاج” كم هو محزن أن ترى جارك الشاب، يحمل سلاحا حربيّا، ويرتدي جعبة قنابل يدوية، ويتنقل في الحي باحثا عن “مشاغب”… بودّي أن أصف مدى الذل الذي يعانيه الشاب عندما يُفتش هاتفه وحاسوبه من قبل مجموعة مراهقين وهو تحت منزله، كيف تفتح أكياس بقالته وحقيبته، للتأكد من أنه ليس من “الثوار”. ولكنني لا أستطيع، فكلٌّ منّا عانى من ترهيب مختلف، وسيجيء يوم، تنهمر فيه هذه القصص وتصبح علنية”.
المثير للتساؤل هنا يتعلق بهذا المراهق تحت المنزل أو المهاجم الذي ينزل في اليوم الأول ليشتم عائشة ويهدد أهل عين الرمانة، وفي اليوم الثاني لإعلان أنه مسالم وجميعنا إخوة وأحبة وغير طائفيين، ثم في اليوم الثالث ليحرق بيروت! يوم يشتم ويضرب ويوم يهادن ويعتذر ومنحبكم؟
ترى كيف يكون وضعه العقلي والنفسي؟ ومن هو بنظر نفسه؟
ما الذي يجعله عجينة طيعة إلى هذا الحد؟ هل لأنه يشعر أنه نكرة وهامشي ولا لزوم له؟ وأن مجرد طلب القيادة منه تنفيذ أوامر، هو اعتراف بوجوده ودوره، فيصدع لأوامرها ليحصل على دور يعيد له ثقة مفقودة ويعلي من شأنه فيصبح بطلا مؤثرا على الواقع بإمكانه تعديل الوقائع وشغل الشاشات موثقا ذلك بالسلفي؟
من يحمي المواطن؟
علقت أستاذة تدرس في مناطق خاضعة لسلطة الثنائية الشيعية (“حزب الله” وحركة أمل): “صرت أذهب إلى موقع عملي وأنا قلقة، فقد يهاجمني أحد ممن يعرف توجهاتي أو رآني في مظاهرة ما ضد السلطة. من يحميني أنا المواطنة المسالمة التي تقوم بواجباتها وتدفع ضرائبها من هؤلاء المنفلتين من كل رقابة؟