تستفيد الصين من انسحاب امريكا من النظام المتعدد الأطراف بدفع بيادقها ومرشحيها للمناصب الاستراتيجية سواء في الامم المتحدة او أجهزتها، او الوكالات التابعة، من أجل فرض معاييرها.
بقلم “إيزابيل لاسير” (جريدة “لوفيغارو”)
وصلت الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والصين إلى منظمة الصحة العالمية حيث هدد دونالد ترامب، الذي تُعد بلاده المساهم الرئيسي في هذه الوكالة التابعة للأمم المتحدة، بالانسحاب للاحتجاج على التحّيز الموالي للصين لمديرها، الإثيوبي “تيدروس أدهانوم غيبريسوس”.
ينتقد الرئيس الأمريكي وأعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريون “منظمة الصحة العالمية” لأنها قلّلت من أهمية هذا الوباء ولأن مسؤوليها أصبحوا “متواطئين” وبضغط من الصين في الانتشار السريع لفيروس Covid-19. أذ تأخرت “منظمة الصحة العالمية” في اعلان “كورونا” كوباء عالمي الى ١١ مارس بدلاً من اواخر يناير، بداية انتشار الفيروس. كما انتقدت المنظمة الإدارةَ الأمريكية عندما أغلقت حدود البلاد أمام المسافرين من الصين. لقد تبنّت لغة “الحزب الشيوعي الصيني” المخالفة للحقيقة! والأسوأ من ذلك ان رئيسها أشاد مرارا بالسلطات الصينية على “شفافيتها” منذ بداية الأزمة! والحال، فالسلطات الصينية أخفت الوباء منذ البداية وقلّلت عدد الوفيات!
حثّ أنطونيو غوتيريس، الأمين العام للأمم المتحدة، دونالد ترامب على “عدم تسييس الفيروس”، قائلاً إنه سيكون هناك دائمًا وقت، عندما تنتهي الأزمة، لـ”مراجعة” تصرفات الجهات الفاعلة. لكن النفوذ الصيني في بعض فروع الأمم المتحدة، بما في ذلك “منظمة الصحة العالمية”، أصبح واضحًا لدرجة أن كثيرين، ليس فقط داخل الإدارة الأمريكية ولكن أيضًا في أوروبا، يعتبرون أنه يجب التنديد به علناً.
وقد استمرّ ذلك النفوذ بالتزايد منذ أوائل عام 2010. وتشعر الصين بقوتها الجديدة ونمو نفوذها الإقتصادي، وهي تحاول أن تحتل مكانها على الساحة الدولية. والاستيلاء على السلطة داخل المنظمات الكبيرة هو طريقة جيدة للقيام بذلك مستفيدة من انسحاب أمريكا من النظام المتعدد الأطراف. فالصين، بالرغم من انها تلعب دور المحايد المتحفظ في مجلس الامن الا انها تدفع اذرعها الاخطبوطية للسيطرة على المنظمات التابعة للأمم المتحدة، مثل “منظمة الصحة العالمية”. عن طريق دفع مرشحيها الى مناصب استراتيجية شاغرة.
وهي الآن تسيطر بشكل مباشر أو غير مباشر على “منظمة الأغذية والزراعة” (“الفاو”، وكالة مكافحة الجوع في العالم)، و”هيئة التنمية الصناعية”، و”الاتحاد الدولي للاتصالات” و”منظمة الصحة العالمية”، التي كان يرأسها صيني لمدة ١٥ سنة، ويرأسها الآن إثيوبي صديق لبكين (كان عضواً في الحزب الشيوعي الاثيوبي). وحتى وقت قريب، كانت الصين تسيطر على قيادة “الإنتربول”، كما تشارك في بعض قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام، في جنوب السودان، وتزيد من مساهماتها، وتحاول فرض صِيغها على نصوص معينة. ويُحذر دبلوماسي فرنسي قضى فترة طويلة في نيويورك من أن “الصين تقوم الآن بالإستيلاء على السلطة في الأمم المتحدة”.
بعد جهودها الحثيثة للسيطرة على الطرق البحرية في “بحر الصين” و الوصول إلى تكنولوجيا G5 ، تستخدم بكين نفوذها لفرض نظام عالمي جديد “ما بَعد غَربي”! “إن هدف الصين هو فرض “لغة جديدة” في الأمم المتحدة، مفهوم الحريات وإضعاف النصوص التي تدافع عن حقوق الإنسان المنبثقة من “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان”، تلك الحقوق التي يؤكد الصينيون أنها مستمدة من القيم الغربية التي فرضناها نحن عليهم! كما تحاول الصين اظهار نظامها كنموذج للفضيلة والكفاءة على الساحة الدولية.
ويقول دبلوماسي فرنسي “إنهم يحاولون بناء تحالف مناهض لحقوق الإنسان ومعادٍ للغرب مع حلفائهم”.
العلاقة بين إثيوبيا والصين متعددة الأوجه. ويتحالف الصينيون مع كتلة إفريقية تصوّت لصالح القرارات التي يقترحونها على الأمم المتحدة”، حسب “فاليري نيكيت”، التي كتبت للتو لـ”مؤسسة الأبحاث الاستراتيجية” (FRS) دراسة مخصصة لهذا الموضوع: “ولكن لإثيوبيا مكانة خاصة في القارة الإفريقية. وتحافظ الصين على علاقات وثيقة مع القادة الإثيوبيين الحاليين وهم من الماركسيين السابقين. فالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا أو عاصمة أفريقيا كما تسمى أيضًا، تحتضن ايضاً مقر “الاتحاد الأفريقي”، هذا المبنى الضخم ذو التصميم الهندسي المميز، بني في عام 2012 بتكلفة 200 مليون دولار، دفعتها الصين التي تستثمر بشكل كبير في البنى التحتية في إثيوبيا، ذلك الاستثمار الذي ساهم في أن يصبح الاقتصاد الإثيوبي من أسرع الاقتصادات نموًا في العالم، ويتوقع صندوق النقد الدولي نمواً لاقتصاد إثيوبيا بنسبة 9%. لذلك، ليس من المستغرب أن رئيس “الاتحاد الأفريقي” دافع عن “منظمة الصحة العالمية” ضد هجمات دونالد ترامب. وبفضل دعم الصينيين، تم انتخاب “تيدروس أدهانوم غيبريسوس”، العضو السابق في الحزب الشيوعي، رئيسًا لمنظمة الصحة العالمية في عام 2017. إن أول أفريقي يرأس منظمة الصحة العالمية تجنب دائماً الانتقادات الموجهة للصين. “ومنذئذٍ، اتبعت “منظمة الصحة العالمية” جميع البيانات الصينية خطوة بخطوة، بل تُكررها مثل الببغاء. ويعني ذلك أن “منظمة الصحة العالمية” لم تلعب الدور المطلوب منها، وهذا بالضبط ما تريده بكين. وبنفس الطريقة، رفضت المنظمة منح عضوية “مراقب” لتايوان في منظمة الصحة العالمية ، بالرغم من ان (تايوان) تفتخر بأن لديها واحداً من أفضل أنظمة العناية الصحية في العالم، وانها استطاعت إيقاف انتشار فيروس كورونا المستجد دون اللجوء إلى تطبيق إجراءات مشددة”، كما تقول فاليري نيكيت.
***
منذ جائحة Covid-19 ، تقوم بكين بحملة “قوة ناعمة” ضحمة تعتمد بشكل خاص على الدبلوماسية الإنسانية. وتختار بالطبع الأهداف التي تخدم مصالحها. عندما ترسل أطباء وأجهزة تنفس صناعي إلى إيطاليا، فإنها تكسب دعم البلد الرئيسي في أوروبا الذي أيّد مشروع “طرق الحرير الجديدة”. وعندما ترسل أقنعة إلى هولندا، فهي تساعد بلدًا يجب أن يقرر في يونيو ما إذا كان سيفتح أبوابه لنظام “٥ جي” الذي تصنعه شركة Huawei.. وأخيرًا ، تسعى الصين إلى تعديل صورتها وتبييض سمعتها، الملطخة بسبب الغموض الذي سَبّب بانتشار الفيروس في العالم، والطريقة العنيفة التي استخدمتها السلطات الصينية لإسكات الدكتور لي ون ليانغ، أولُ شخصٍ يُحذر عامةَ الناس من خطر احتمالية تفشي ڤيروس المرتبطَ بالمتلازمة التنفسية الحادة الشديدة (كوفيد-19) في 30 ديسمبر 2019، والذي توفي بسبب العدوى في 7 فبراير 2020 , بعد الإفراج عنه.
***
لكن تصرفات الصين ، التي صدّرت للعالم فيروس سارس وأنفلونزا الطيور وكوفيد 19، تواجه انتقادات متزايدة حول العالم. قال مسؤول في إحدى هيئات مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة يوم الأربعاء الماضي “انه من غير النزاهة، وغير أخلاقي، أن تسمح الأمم المتحدة للحكومة القمعية في الصين بلعب دور رئيسي في اختيار المسؤولين الذين يشكلون المعايير الدولية لحقوق الإنسان والذين يبلغون عن انتهاكات حول العالم”. وأضاف “هيليل نوير”، مدير “يو إن ووتش” أن اعطاء هذا الدور للصين “يشبه اعطاء المتسبب في الحريق المتعمد منصب رئيس الإطفاء في المدينة”!
إن الصين لا تواجه أي مقاومة تقريبًا في المنظمات الدولية. “ويمكن تفسير الاحترام الذي أبدته العديد من المنظمات الدولية للصين من خلال ثقلها الجيوسياسي، وقدرتها على قول” لا “، وفي بعض الحالات ، تشكيلها لتحالفات تصويت …” ، حسب المتخصص فرانسوا جودمينت من “معهد مونتين”.
ومع ذلك ، تخفي البلدان الأوروبية بصعوبة غضبها تجاه الصين، كما تشعر بالقلق من الاعتماد الاقتصادي الكبير الذي وضعت نفسها فيه. وتقول Valérie Niquet أن “الاعتقاد بأن الصين يمكن أن تتغير هو من الأمنيات التي لن تتحقق. إن «صورة الصين بعد (كورونا) تضررت بشدة، لا أعتقد أنها ستنجح في إقناع الناس بتفوق نموذجها. لقد أُعطِيَت الصين مكانةً لا يُستَحقها. إن الصين لا تتبع أصول وقواعد المجتمع الدولي». وهي تأسف لأن الصين والولايات المتحدة يتم وضعهما في بعض الأحيان في نفس المكانة. ووفقا لها، لا ينبغي الخلط بين الجُناة. “لم تكن أمريكا هي التي جلبت الفيروس، ولكن الصين! عليك تحديد المسؤوليات الحقيقية. حتى لو كان ذلك يعني إنشاء محكمة دولية!”
لقراءة الأصل بالفرنسية:
Comment la Chine tire les ficelles de l’Organisation mondiale de la santé