ملكية إثيوبيا لسد النهضة لا تعفيها من أعباء قانونية دولية أهمها عدم الإضرار بالغير، وخاصة دولة مصب النهر، وهي مصر.
لم تشارك إثيوبيا في اجتماع واشنطن، أواخر فبراير الماضي، حول سد النهضة كي لا توقع على الاتفاق لاعتراضها على قواعد ملء السد رغم موافقتها المبدئية. ومقابل قيام مصر بالتوقيع بالأحرف الأولى على الاتفاق الذي أسفرت عنه جولات المفاوضات حول سد النهضة تحت الرعاية الأميركية باعتباره اتفاقا شاملا وعادلا ومتوازنا، صعّدت أديس أبابا من موقفها إذ أعلن وزير الخارجية الإثيوبي غيتداحشو أندراغو، في الثالث من مارس الحالي، عن قرار بلاده “البدء في ملء سد النهضة اعتبارا من يوليو المقبل”، مضيفا أن “الأرض أرضنا والمياه مياهنا والمال الذي يبنى به سد النهضة مالنا ولا قوة يمكنها منعنا من بنائه”.
في نفس السياق اعتبرت رئيسة إثيوبيا، ساهلورك زودي، في رسالة وجهتها إلى الشعب الإثيوبي أن “سد النهضة الإثيوبي الكبير، هو نموذج لوحدتنا، أكثر من مجرد مشروع تنموي، وسلاح إثيوبيا الكبير للتغلب على الفقر وإحياء الأمل في التنمية المستقبلية”.
زيادة على البعد التنموي وحاجة إثيوبيا الماسة إلى الكهرباء واعتماد مصر على مياه النيل بنسبة تقارب التسعين في المئة، لا يمكن إخفاء البعد الاستراتيجي في الصراع حول مياه النيل ومحاولة محاصرة مصر وإضعاف موقعها الجيوسياسي في التوازنات الإقليمية.
هكذا يرتسم في أعالي النيل تحد استراتيجي كبير للقاهرة لاسيما على مستوى القرن الأفريقي ومنظومة البحر الأحمر، ويمكن له أن يمس أمنها الغذائي واقتصادها، لكنه يمثل أيضا اختبارا لأديس أبابا ودورها الإقليمي كعاصمة للاتحاد الأفريقي، ويتصل عن قرب بتوازنات داخلية هشة.
هذا العامل الداخلي كان السبب العلني وراء رغبة رئيس الوزراء آبي أحمد في تأجيل التوقيع على الاتفاق إلى ما بعد الانتخابات التشريعية في أغسطس 2020، لتجنب المزايدة عليه من قبل بعض الطبقة السياسية والمجموعات العرقية المعترضة في الأساس على إصلاحاته ونهجه.
ومما لا شك فيه أن مسعى توحيد البلاد ضد الخطر الخارجي وأهمية مشروع السد في التنمية الغائبة لن يحجبا النزاعات العرقية والانقسامات المهددة للبنية الإثيوبية. لكن مراقبين حياديين يخشون من لعبة توزيع أدوار داخل إثيوبيا في التسويف وفرض الأمر الواقع لجهة بدء ملء السد وتشغيله قبل العودة إلى طاولة التفاوض. في المقابل، تستغرب أوساط أخرى تصرف رئيس الحكومة الذي نال جائزة نوبل للسلام تبعا لدوره في إنهاء الحرب مع أريتريا، والذي يغامر بتفجير نزاع أخطر مع مصر.
وفي هذا السياق يصح التساؤل عن احتمالات وجود تحريض خارجي أو أياد خارجية في تحريك هذا الملف، لكن دور البنك الدولي الواقع عمليا تحت النفوذ الأميركي، كما الوساطة التي قبل الرئيس الأميركي دونالد ترامب رعايتها وإيكالها للمقرب منه وزير الخزانة (وليس لوزارة الخارجية لأسباب غامضة) يدلل على حرص أميركي على مراعاة مصالح دولتين صديقتين وضمان الاستقرار.
أما بشأن دور إسرائيلي مفترض نظرا لدور تاريخي في الدول المحيطة بالعالم العربي (إثيوبيا، كينيا، إيران وتركيا) أو لدور مستجد من تشاد إلى القرن الأفريقي، لا يمكن الجزم بأي تورط مباشر. غير أن خبراء مصريين لا يستبعدون هذا الاهتمام الإسرائيلي عن قرب بهذا الملف رغبة في إبقاء مصر مقيدة استراتيجيا لكي لا تفكر في لعب دور ريادي عربي.
بغض النظر عن العوامل الداخلية والمواقف الإقليمية والدولية حيال هذا الموضوع الحساس والمتصل بالصراع على الموارد والطاقة المائية والهيدرولوجية، يحضر القانون الدولي بقوة في حل هكذا نزاعات لأن الأنهار الدولية كما النيل لا تتمتع فيها دول المنبع أو الممر بسيادة مطلقة من دون مراعاة حقوق الدول المحاذية ودول أو دولة المصب.
منذ أبريل 2011، وبعد التأكّد من تصميم أديس أبابا على بناء سد النهضة الكبير، بدأ ماراثون التفاوض الشاق للوصول إلى اتفاق بين الدول المعنية أي إثيوبيا والسودان ومصر. وحسب مفاوض مصري كان “السودان عمليا الحليف الاستراتيجي لإثيوبيا والمناكف لمصر”، لكن مصدرا سودانيا يعزو ذلك إلى أولوية المصلحة الوطنية للسودان كدولة ممر في تلبية احتياجاتها الكبيرة.
إلا أن مجمل الصعوبات لم يمنع من التوصل في شهر مارس سنة 2015 إلى التوقيع بين الأطراف الثلاثة على اتفاق المبادئ العشرة حول سد النهضة. وبالفعل لا يعد هذا الاتفاق معاهدة دولية ملزمة ويأتي تتويجا لجهود ومسارات متراكمة منذ اتفاقية 1902 واتفاقية 1929 واتفاقية 1959 (اتفاقية حوض النيل) واتفاقية عنتيبي 2010.
لذا كان يتوجب استكمال إعلان المبادئ ببروتوكول حول التشغيل وتفاصيله. بيد أن الأهم في إعلان 2015 ما ورد في البند الخامس بخصوص التعاون في الملء الأول وإدارة السد إن لناحية الاتفاق على الخطوط الإرشادية وقواعد الملء الأول لسد النهضة والتي ستشمل كافة السيناريوهات المختلفة، بالتوازي مع عملية بناء السد، أو لجهة الاتفاق على الخطوط الإرشادية وقواعد التشغيل السنوي لسد النهضة، والتي يجوز لمالك السد ضبطها من وقت إلى آخر.
وهذا يعني أن أديس أبابا التزمت مبدئيا بعدم المباشرة بملء السد من دون اتفاق حتى لا يحصل إجحاف بحقوق مصر. في هذا السياق يقول أستاذ القانون الدولي، الدكتور أيمن سلامة، إن التصريحات الإثيوبية الأخيرة التي تزعم بأن سلطاتها مطلقة في إدارة وتشغيل وملء سد النهضة باعتباره في أرض إثيوبية وتم تشييده بأموال وطنية خالصة وأن لأديس أبابا سيادة مطلقة على نهر النيل الأزرق الذي يجري في إقليمها “لا تعدو إلا دفوعا غير مؤسسة، ومزاعم باطلة”. وهذا دقيق لأن ملكية إثيوبيا لسد النهضة لا تعفيها من أعباء قانونية دولية أهمها عدم الإضرار بالغير، وخاصة دولة مصب النهر، وهي مصر.
تتعامل القاهرة مع هذا الملف الدقيق بحذر ومرونة، وحسب مصدر دبلوماسي مصري، يتفرغ رئيس الدبلوماسية المصرية عمليا لمتابعته. علما أنه سبق لمصر كسب معركة طابا بعد تحكيم دولي وهي لا تستبعد اللجوء إلى محكمة العدل الدولية في حال فشلت الوساطة الأميركية. إذ أن النيل الأزرق ليس نهرا داخليا إثيوبيا لتبسط عليه أديس أبابا السيادة المطلقة، وفقا لاتفاقية الأمم المتحدة في عام 1982 لقانون البحار، ولأن النهر الدولي في إقليم دولة ما لا ينطبق عليه “مبدأ هارمون” الذي كان يجيز للدولة ويرخص لها الانتفاع المطلق بالنهر الدولي في الجزء الذي يجري في إقليمها دون اعتبار لحقوق الآخرين.