هل تصدق أن البنود الآتية مواد من الدستور الإيراني الذي أُقر بعد الثورة عام 1979 والذي “يُعمل” به حاليا؟
* جاء في المادة التاسعة مثلا ما يلي: “لا يحق لأي مسؤول أن يسلب الحريات المشروعة بذريعة المحافظة على الاستقلال ووحدة البلاد، ولو كان ذلك عن طريق وضع القوانين والقرارات”.
* المادة 23: “تُمنع محاسبة الناس على عقائدهم ولا يجوز التعرض لأحد أو مؤاخذته لمجرد اعتناقه عقيدة معينة”.
* المادة 27: “يجوز عقد الاجتماعات وتنظيم المسيرات بدون حمل السلاح، وبشرط أن لا تكون مخلة بالأسس الإسلامية”.
* المادة 32: “لا يجوز اعتقال أي شخص إلا بحكم القانون، وبالطريقة التي يُعيِّنُها، وعند الاعتقال يجب تفهيم المتهم فوراً، وإبلاغه تحريريا بموضوع الاتهام مع ذكر الأدلة، ويجب إرسال ملف التحقيقات الأولية الى المراجع القضائية المختصة خلال أربع وعشرين ساعة كحد أقصى، ويلزم إعداد مقدمات المحاكمة في أسرع وقت ممكن، ومن يعمل خلاف هذه المادة يُعاقَب وفق القانون”.
* المادة 38: “يمنع أي نوع من التعذيب لأخذ الاعتراف أو الحصول على المعلومات، ولا يجوز إجبار الشخص على أداء الشهادة أو الإقرار أو اليمين، ومثل هذه الشهادة أو الإقرار أو اليمين لا يعتدّ به، والمخالف لهذه المادة يعاقَب وفق القانون”.
* وأخيرا المادة 39: “يُمنع بتاتا انتهاك كرامة أو شرف من أُلقي القبض عليه أو أوقف أو سُجن أو أُبعد بحكم القانون ومخالفة هذه المادة تستوجب العقاب”. انظر:
(حول الدستور الإسلامي الإيراني، الشيخ محمود علي التسخيري، طبعة طهران، سنة 2005، المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب).
وقد لاحظت كالكثيرين أن هذه المواد الدستورية قد لا تكون واردة حقا بهذا النص والمضمون في الدستور الإيراني بعد الثورة والمواد المعدلة بعد ذلك، فبعض المواد التي أوردناها من الدستور الإيراني تشبه بنود دساتير أكثر الدول ديمقراطية وليبرالية! وعدتُ إلى الأصل الفارسي للنص الدستوري، والذي طبع في طهران بعد التعديلات عام 1368 هجري شمسي، والذي يعادل 1989م تحت عنوان “قانون أساسي جمهوري إسلامي إيران”، فرأيت الترجمة صحيحة، فازدادت دهشتي، وجعلت أتأمل الفرق الهائل بين مضمون المواد الدستورية من جانب وممارسة السلطات الإيرانية على مدى أربعين عاما ونيف، من قمع ومنع واعتقال وتعذيب ورمي المتظاهرين بالرصاص من جانب آخر.
العديد من أنظمة العالم يخاف من شعبه ويتردد في إطلاق حرية التعبير والحرية السياسية والاجتماعية والفكرية، ولكن قد لا ينافس أي نظام، في بعض المجالات، جمهورية إيران الإسلامية، في أنها تجمع عدة موانع في وعاء واحد، وتعتبر أي حرية خطراً داهماً على الإسلام والتشيع والأمن الوطني، بل تتوقع الأجر والمثوبة وإرضاء الله سبحانه في قمع المعارضة وإسكات المخالفين.
وهي مثلا تمنع الحرية السياسية وبخاصة الانتخابات الحرة، وتجبر من بين سائر الدول الإسلامية النساء المسلمات والمسيحيات على الحجاب، وتراقب أغطية الرأس وألوان القمصان، وتمنع ربطات العنق، وأشكالا من البنطلونات والتسريحات، وتراقب الكتب والصحف والإنترنت وصحون الالتقاط التلفزيونية، وتمنع المحطات غير الحكومية، وتشوش على المحطات الخارجية من راديو وتلفاز، ومن النادر أن تسمع في الإعلام الإيراني أو البرلمان أو الحياة العامة صوتاً لمعارض أو كلمة لصحافي أو اعتراضا لشخصية قانونية أو دستورية أو دعوة لحضور محاضرة لفقيه أو أحد رجال الدين المعارضين شيعة كانوا أو سنّة، أو تصريحا لسياسي أو ناقد أديب!
وتفرض القيود والموانع الثقيلة على الحريات الدينية وبخاصة على غير المسلمين، حيث يتعرض بعضهم كما نذكر دائما لاضطهاد غير مفهوم، مما يتعارض علنا وبشكل صارخ مع المادة 23 من الدستور الإيراني، كما بينا منذ قليل، والتي تكاد تطلق حرية العقيدة.
تستعد إيران هذه الأيام للانتخابات البرلمانية “الحرة” التي ستجري يوم 21 فبراير 2020، وهي انتخابات سبقتها كالعادة، وكما رأى الشعب الإيراني والعالم كله عمليات فرز ومراقبة وفلترة سياسية ومخابراتية للمرشحين لعضوية “المجلس”، خوفا من وصول أي شخص غير مرغوب فيه ناقد أو معارض، وذلك بدلا من أن تسود إيران الأجواء الانتخابية والندوات والنقاشات، كما هي العادة في الدول ذات المجالس، وبخاصة أن مجلس إيران من أقدم المجالس في العالم الإسلامي، إذ يعود إلى بدايات القرن العشرين بعد ثورة 1905-1911 الدستورية.
ولهذا صرح مرشد الثورة الإيرانية السيد علي الخامنئي أنه “يجب على كل شخص محب لإيران وأمنها، المشاركة في الانتخابات، وأضاف أن مسيرات الاحتفال بذكرى الثورة والمشاركة في الانتخابات بمثابة اختبارين كبيرين أمام الشعب الإيراني”. (الجريدة 6/ 2/ 2020).
ويتساءل المراقبون ماذا بقي من حريات انتخابية، ومن اختيارات للناخب الإيراني إن كان العبور من ثقب الإبرة للمرشحين أسهل من دخول هذا المجلس بوجود كل هذه الحواجز والموانع؟! ثم ما حاجة مرشد الثورة إلى الانتخابات وآراء الإيرانين ما دام هو وأنصاره ومتشددو الحرس الثوري ورجال الدين الموالون، يعتبرون المرشد، الذي بيده فعلا كل صغيرة وكبيرة في إيران، ويعتبره الدستور كذلك غير مسؤول أمام الشعب الإيراني، ولا منتخباً منه، وأنه قائد الأمة الإسلامية التي ينتمي تسعة أعشارها إلى مذهب إسلامي مختلف.
السيد الخامنئي فوق ذلك، يقول أنصاره، مؤيد من السماء، وموجه من الإمام المهدي المنتظر وربما معصوم عن الخطأ السياسي وغيره! فكيان مرشد الثورة وثقله ودوره في النظام رغم أن 80 مليون إيراني لا علاقة لهم بانتخابه المباشر أو تعيينه، يختلف تماما عن رئيس الجمهورية الذي لا هو رئيس في الواقع ولا يدير نظاما جمهوريا!
كما أن مصيره السياسي وبقاءه رهن بيد مرشد الثورة السيد الخامنئي الذي بيده كذلك وتحت إشرافه، بموجب المادة 57 من الدستور، كل السلطات، إذ تقول المادة المطولة: “السلطات الحاكمة في جمهورية إيران الإسلامية هي السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية، وتمارس صلاحياتها بإشراف ولي الأمر المطلق وإمام الأمة… إلخ”.
من مهام مرشد الثورة بموجب المادة 110 من الدستور تعيين السياسات العامة للدولة وقيادة القوات المسلحة وإعلان الحرب والسلام، ونصب وعزل الكبار من الفقهاء والقضاة وقادة الجيش والحرس الثوري وقوى الأمن، وكذلك رئيس مؤسسة الإذاعة والتلفزيون في جمهورية إيران الإسلامية، وتنصيب رئيس الجمهورية بعد انتخابه من قبل الشعب، وأيضا عزل رئيس الجمهورية مع ملاحظة مصالح البلاد، وذلك بعد صدور حكم المحكمة العليا بتخلفه عن وظائفه القانونية، ولكن من يقف ضد إرادة مرشد الثورة في المحاكم؟!
إلى جانب كل هذه السلطات المطلقة التي تفسد أفضل وأصلح شخص أو نظام يتحكم مرشد الثورة بمؤسسات اقتصادية مالية ومذهبية مليارية، وبتوزيع ضريبة الخُمسن وبالطبع الإشراف على إدارة أجهزة الاستخبارات العديدة المتشعبة، أي باختصار بيده سائر السياسات الداخلية والخارجية المدنية والعسكرية العلنية والسرية، وبالطبع لا يبقى إلا النزر اليسير والفتات للسيد رئيس الجمهورية د.حسن روحاني الذي يعيش في خوف دائم على منصبه من غضب الولي الفقيه “مرشد الثورة” الذي يسمى بالفارسية “رهبر انقلاب”، ولن يجدي الرئيس روحاني أي رهان على هيئة وسياسة أخرى داخل النظام مثل مجلس صيانة الدستور المكون من 12 عضوا لأن نصفهم يسميهم المرشد، ولن تفيد الرئيس كذلك هيئة “تشخيص مصلحة النظام” المكونة من 44 عضواً وتشكيلها بيد المرشد، وتقول المادة 12 من الدستور: “يتم تشكيل مجمع تشخيص مصلحة النظام بأمر من القائد (أي مرشد الثورة) لتشخيص المصلحة في الحالات التي يرى مجلس صيانة الدستور أن قرار مجلس الشورى الإسلامي يخالف موازين الشريعة أو الدستور”. وواضح من هذا ومن عموم المادة الدستورية أن الوظيفة الأساسية لهذه الهيئة حماية النظام السياسي من مجلس الشورى إن فلت الأمر، ومن أي محاولة لتعديل النظام عبر البرلمان وبالوسائل السلمية، وهنا كما تنص المادة الرهيبة، “يقوم القائد بتعيين الأعضاء الدائمين والمؤقتين لهذا المجمع”.
هذه هي المصيدة الدستورية التي يرى الإيرانيون وبرلمانهم أنفسهم محبوسين فيها منذ سنين طويلة دون أي أمل إزاء كل هذه الأبواب الدستورية المحكمة الإغلاق، ورغم هذا كله وضع الرئيس روحاني كل خلافاته وانتقاداته الصامتة للأوضاع جانباً في آخر تصريحاته الانتخابية لتشجيع المشاركة الشعبية، فأكد على ضرورة صمود ووحدة الشعب من خلال المشاركة الكثيفة”. (الجريدة، 6/ 2/ 2020).
ولكن حتى لو اشترك الإيرانيون جميعا رجالا ونساء شيبا وشبانا في هذه الانتخابات فستبقى القيود على حرية القرار الوطني وعلى حق المعارضة في مكانها، فلن يستطيع “مجلس الشورى” مثلاً مناقشة أي قضية أو مسألة لا تريد الحكومة والنظام مناقشتها، ولا يمكن دستوريا رفض أي سياسة تريدها الحكومة والنظام والولي الفقيه الذي بيده كل شيء.
ولا يستطيع أي تكتل برلماني تغيير السياسات الخارجية لإيران، ولا التوسع في الحريات أو تحديد سلطات النظام، ولا إعادة توجيه الدولة الإيرانية التي دمرتها السياسات العقيمة على امتداد أربعين سنة دون أي نجاح في بناء دولة إيرانية حديثة “مثل العالم”!
لا يستطيع أي عضو في مجلس الشورى التقدم مثلا باقتراح أو برنامج للخروج من سورية ولبنان والعراق وغزة واليمن وترك تلك البلاد لأهلها وللعالم العربي، والاكتفاء مثلا كما تفعل كل دول الدنيا بمساعدة البلدان المذكورة وفق القانون الدولي، دون خلق الميليشيات والتدخل في سياساتها الداخلية والتلاعب ببنيتها التحتية.
لا يستطيع أي تكتل في هذا المجلس أن يطالب بتأسيس دولة إيرانية حديثة عصرية يتمتع فيها الفرد الإيراني والمرأة الإيرانية بالحرية والكرامة والمستوى المعيشي اللائق، وبحماية القوانين العصرية وقوانين حقوق الإنسان العالمية التي لم تلتفت إليها القيادة الإيرانية منذ أربعين سنة ونيف.
لقد تم استبعاد نحو ثلثي طلبات الترشيح في الانتخابات الحالية، والتي تقدم بها مواطنون إيرانيون لدخول المجلس على عيوبه وقيوده، جميع هؤلاء تداولت أوراقهم وطلباتهم الأجهزة الـ”14″ للاستخبارات الإيرانية سراً، وبقية أجهزة الدولة كما قيل على الصعيد الرسمي، وصدر الحكم بعدم السماح لهم بالاحتكام انتخابيا وديمقراطيا إلى رأي الشعب.
تعيش إيران ظروفا سياسية وإنسانية صعبة، كما تأتي ذكرى الثورة الحادية والأربعين الإسلامية وسط دعوات للمقاطعة صادرة من الشعب إزاء هذه الانتخابات وقيودها التي أصابت حتى “الإصلاحيين” من أنصار النظام.
ولكن لا يحق للإيراني حتى أن يمتنع عن الانتخاب، فقد يعرضه ذلك للتحقيق والتدقيق ووضعه ضمن الفئة المعارضة، وإيقاف ترقياته وربما طرده من وظيفته بعد تجميد طويل! كم هو مؤلم أن يكون هذا هو مصير الإيرانيين بعد أن رموا بأنفسهم تحت الدبابات عام 1978 و1979 لإنجاح ثورتهم!
“الجريدة” الكويتية