شاركت في مطلع الألفية الثالثة في إعداد وكتابة تقرير “المراهقة العربية” الذي غطى معظم البلدان العربية بعينات ممثلة. وقمت بدراسة الحالات الميدانية في لبنان. غطت العينة جميع المناطق والفئات والمهن من الجنسين. أذكر أني فوجئت حينها من مستوى الفقر في الشمال. ودراستي للحالتين المعتمدتين لتمثيل طرابلس وعكار، جعلتني أعي مدى الظلم والفقر والإهمال الذي كانت تعاني منه تلك المنطقة والتي تفاقمت مع الوقت. عرفت منذ ذلك الحين أن الحرمان الحقيقي موقعه الشمال.
تشير الأرقام إلى أن 51 % من سكان طرابلس يعيشون في فقر مدقع بأقل من 4 دولارات في اليوم لأسرة مؤلفة من خمسة أشخاص، بالمقارنة مع المعدل الوطني البالغ نحو 15 دولارا في اليوم. ووصلت مستويات البطالة في بعض أحياء المدينة إلى 55 %، شاهدنا عيناتها على الشاشات بمناسبة الثورة. وإذا قارنا مع النبطية الواقعة جنوب لبنان، نجد أن 25 % من سكان النبطية دون خط الفقر، وتبلغ نسبة البطالة فيها 13%.
بالرغم من ذلك، يحتكر الفقير الشيعي شعار الحرمان، وكأنها ملك حصري “لمحرومي” الثنائية الشيعية. يتم الحديث مؤخرا عن “عاشوراء” سنية، ويُحصر منبعها بالطريقة التي تم بها تكليف رئيس الوزراء. فبعد أن تعطل البلد بمناسبات عدة تحت ذريعة “الميثاقية” التي اختُرعت وتوسعت فاختُصر التمثيل السياسي بالأقوى في طائفته. فجأة تم القفز عن “الميثاقية المقدسة”، ليكلف رئيسا للحكومة رغم اعتراض الأقوياء في طائفته والشارع والقوى الثورية.
لست بمعرض الدفاع لا عن النظام الطائفي ولا عن التشويه الذي تعرض له مؤخرا. المسألة هنا تتعلق بكونهم يدافعون عن هذا النظام الذي أعلنت الثورة رفضها له. فلو كانوا صادقين في زعمهم تطبيق نفس المعايير على الجميع لتوجب عليهم إذاُ تطبيقه بدقة ومن دون تمييز كي لا يشعر أي طرف بالغبن والاستهداف.
كما أنه من الظلم حصر مظلومية الطائفة السنية، التي حوصرت بتهم “التكفير” و”التخوين” و”الدعشنة” حتى طرابلس – عروس الثورة- وُسمت بأنها “قندهار لبنان”، بكيفية تعيين الرئيس المكلف. فالإحباطات تتراكم منذ أن اغتيل رفيق الحريري عام 2005 مرورا بغزوة 7 أيار التي تسببت بمقتل أكثر من 100 ضحية. وتوالت المحطات المشابهة فوصل الأمر إبان حصار السراي الحكومية إلى الاعتداء على رجال دين سنة من صبية حي اللجى والخندق الغميق نفسه فحلقوا ذقونهم. ناهيك عن “شيطنة” السنيورة الذي أصبح الممثل الحصري للفساد الذي يغرقون به جميعهم. وليس إسقاط الحريري، في سابقة لا مثيل لها، من الرابية في لحظة دخوله البيت الأبيض هو الذي سيرفع معنويات السنة، كما اللبنانيين، ولا وضع البلد في الثلاجة لعامين ونصف من أجل الإتيان بالرئيس الذي فرضته الثنائية الشيعية.
تم إضعاف الطائفة السنية عندما وافق الحريري على التسوية التي جعلته الغطاء “الميثاقي” لفرض قانون انتخاب “أرثوذوكسي” على الطريقة “الفرزلية” سمح لحزب الله بالحفاظ على دولته وسلاحه وعلى احتكاره للتمثيل الشيعي، بصورة دستورية هذه المرة.
طبعا برر الحريري وحلفاءه التسوية – الصفقة تحت شعار تجنب الفراغ؛ فوقعنا في الهاوية.
من الطبيعي أن يورث تراكم هذه الجروح الشارع السني المرارة والإحباط الشديدين حتى الغليان. ليس لأنه يريد استعادة الحريري (سوى بجزء ضئيل منه) بل لأن الثورة لم تعنِ إسقاطه وحده لتعويم أركان السلطة الباقين.
أوضح الموقف الإيراني الفج المساند للرئيس المكلف لمصلحة من تم الإتيان به. ولم تكتفِ إيران بذلك بل اتهمت أيضا المحتجين على تكليفه بتبعيتهم لأميركا وإسرائيل!! في الوقت الذي تبحث فيه عن كيفية فتح خطوط التواصل مع أميركا عبر تبادل السجناء، أو زيارة روحاني اليابان من أجل توسيطها لحل مشكلة العقوبات!!
إنها الازدواجية الموصوفة لممارسات جبهة الممانعة. ففي لبنان أيضا يقومون بعملية ابتزاز دعائية، بحيث يزعمون مباركة الدول العربية (التي يشتمونها ويحاربونها ليل نهار) لهذا الاختيار، ويجعلون هيل شريكا مساندا لهم!!
في ظل ما سبق لا يزال جمهور الثنائية الشيعية ينادي بمظلوميته ويتمسك بسردية الحرمان متهمين النظام اللبناني بها، متناسين أن قياداته الشيعية ركن أساسي في هذا النظام.
وبالمناسبة يشير السوسيولجي شوقي الدويهي إلى أن القادمين من الريف المسيحي والسني من غير المتعلمين لم يجدوا حينها أعمالا أفضل من العتالة على البور أو الأعمال الهامشية الأخرى. لكن لا شك أن تلك “المساواة” في الظلم كانت قبل احتلال إسرائيل للجنوب الأمر الذي ساهم في تكوين الكتلة الضخمة للنزوح نحو العاصمة من الفلاحين والتجار الصغار الذين انقطعت أرزاقهم جراء الاحتلال.
لا شك أن للذاكرة، كسردية يعاد بناؤها، دورا هاما. فلقد تكرست سيرة الظلم والتهميش منذ أن أطلق السيد موسى الصدر “حركة المحرومين”. وصحيح أن المارونية السياسية لم تول عناية خاصة لاستقبال النازحين الجنوبيين جراء النكبة. لكن علينا ألا ننسى أن حقبة فؤاد شهاب عوّضت حرمان الأطراف بخطة إنمائية للمناطق الريفية ومنها الجنوب فعرف بداية النهضة التي ظهرت آثارها في السبعينيات. ناهيك عن المساعدات العربية لمجلس الجنوب التي أنعشت الجنوب بالرغم من الهدر المعروف.
إن رفع شعار المظلومية الشيعية باسم الاضطهاد الموروث من أزمنة الإمبراطورية العثمانية لا يجد ما يبرره الآن. الدولة اللبنانية كانت أول من أعطى الشيعة مكانة المواطنة المتساوية مع مكونات المذاهب الأخرى في المنطقة. وقانون 6 و6 مكرر كان بهدف حفظ المساواة بين الطوائف.
لذا لا تشكل تعبئة الشيعية السياسية لجمهورها سوى الخلفية والأداة للتحكم بهم وبالسلطة السياسية من خلال الاستقواء على الآخرين بذريعة الحرمان. فيما المظلومية انزاحت نحو السنة.
فمتى يستعيد الشيعة وجههم الحقيقي وموقعهم مع مطالب الثورة لتأمين حقوق الجميع بالعيش الكريم؟
إن ممارسات الثنائية الشيعية باسم التشيع هو تزوير للتاريخ. فالتشيع منذ ولادته كان مذهب أقليات ومستبعدين ومضطهدين، ما عدا إيران منذ القرن السادس عشر. وقوة الشيعة لم تكن في تدينهم فحسب بل أيضا في توجههم المتسائل والمتهِم للقوى الحاكمة ولسلطات القرار وفي إخلاصهم لتقاليد الصراع ضد الظلم. فبعد اغتيال علي وابتعاد الحسن ومقتل الحسين بدأت الشيعية تتخذ سماتها الأساسية كحركة سياسية دينية، وستصبح ملجأ للمستائين في الإمبراطورية الجديدة، وللذين لا يطيقون الهيمنة الأموية أو لا يتحملون، لأسباب عرقية، هيمنة العرب، على غرار إيران.
ولقد استغلت إيران بقوة، كون الشيعة العرب كانوا دائما أقلية مستبعدة، اجتماعيا وسياسيا في بلدانهم، فعززت طموح بعضهم بالاستقواء عبر استلحاقهم بها. ما سمح بالظن بأن هؤلاء الشيعة يشكلون “طابورا خامسا” لطهران!!
برهنت الثورة في العراق أنه رهان ساقط وأن العراقيين يرفضون هذا الاستتباع ويطالبون بالتخلص من الهيمنة الإيرانية ومن أزلامها في الحكم. إن البحث عن مخارج لما يحصل في العراق وفي لبنان من دون الأخذ بعين الاعتبار العقبة التي يشكلها نفوذ إيران في البلدين، سيكون قاصرا عن يجاد حلول.
صحيح أن الوضع في لبنان مختلف عنه في العراق، إذ تختلط التبعية لإيران بمكون “مقاومة” إسرائيل. مع ذلك يتبين أن إيران تتعامل مع لبنان كرهينة تحت غطاء دعمها للمقاومة. ولا يزال التصريح الذي أدلى به قرباني عن “تدمير إسرائيل من لبنان” ماثلا للعيان بالرغم من محاولات نصرالله تكذيبه.
من هنا يبدو أن أنظار شيعة الثنائية تتجه دوما إلى الوراء للتمسك بالمظلومية التاريخية وتجيشها سنويا، لتبرير استقوائهم على الآخرين وللاحتفاظ بمصادر الهيمنة على الدولة.
وهم بذلك يفوتون فرصة استعادة دورهم الوطني التاريخي لأنهم يقفون في صف الفاسد والمستبد باسم الحرمان.
ثورة الشعب اللبناني ترفض جميع أنواع المظلوميات وتتطلع نحو مستقبل نتخلص فيه من أدران الماضي الطائفي لبناء دولة وطنية للجميع في نظام ديمقراطي تعددي يؤمن الحقوق المتساوية للجميع.
monafayad@hotmail.com
الحرة