أميركا اللاتينية، لماذا الانهيار؟
تحت هذا العنوان أفردت صحيفة “كورييه انترناسيونال” (28 نوفمبر 19) ملفا لمتابعة ما يجري في أميركا الجنوبية. يبدو أن الكيل طفح عند المواطنين لشعورهم أنهم متروكون من قبل ما اتفق على تسميته بالديمقرطيات النخبوية الزبائنية. سلطات تؤبد ترسيمات عتيقة من التمييز الاجتماعي والفساد. في بوليفيا وفي تشيلي وفي الإكوادور وفي كولومبيا. لكن أيضا نيكاراغوا (2018) وفنزويلا تعد نقاطا ساخنة.
أميركا اللاتينية تغلي بتظاهرات تعم شرايين المدن. السيناريو المتكرر منذ بداية القرن. فلا المؤسسات الديمقراطية ولا نموذج النمو استطاعا إيقاف التدهور والإحباط. حتى الآن كان يتم كبح عدوى الاحتجاجات؛ مرة بالوعود الخداعة وأخرى بأدوات السلطة القمعية.
شرارات الاحتجاج تختلف من بلد إلى آخر؛ ارتفاع سعر المحروقات أو أسعار بطاقات المترو أو التشكيك بشرعية الانتخابات… لكننا نجد دائما الخلفية ذاتها: أزمة النظام السياسي ومؤسسات الديمقراطية. سخط واستياء وعدم ثقة بالحكومة. فتمركز الثروات مع برامج التقشف وزيادة الضرائب تزيد من التفاوت البنيوي والتهميش والنبذ الاجتماعيين. ولا يكفي التراجع عن فرض الضرائب لإعادة الامور إلى نصابها. فالمشكلة على ما ردد التشيليون: “ليس بسبب الـ30 بيزيتو بل بسبب الثلاثين عاما”.
الملفت أن هذه الحركة الاعتراضية تلف الكرة الأرضية تقريبا انطلاقا من هونغ كونغ منذ 5 أشهر مرورا بإيران مؤخرا والعراق والسودان والجزائر ولبنان وحتى فرنسا وصولا إلى أميركا اللاتينية.
فما هو المشترك بينها؟ هل هي ثورات؟ وما هو دور العولمة؟
المشترك بين الاحتجاجات أنها لا تستهدف فقط ارتفاع الأسعار بل الحصول على الحقوق.
ربما يكون النموذج الأوضح هو احتجاجات هونغ كونغ التي بدأت اعتراضا على مشروع قانون يتيح تسليم المطلوبين إلى الصين. لكنها توسعت للمطالبة بحقوق ديمقراطية شاملة.
في لبنان انطلقت الثورة لفرض ضريبة غير مسبوقة على تطبيق “واتساب” المفترض أنه خدمة مجانية. وللاعتراض هنا دلالة تتخطى الضريبة، فعدا عن أنها تطال المتنفس الوحيد للتواصل وحفظ حق حرية التعبير، ترافقت مع معلومات تفيد أن الأجهزة المنوي استخدامها ستتيح الرقابة على محتوى التبادلات على وسائط الاتصال. فانفجر الوضع وتوسعت المطالبات باسترجاع الحقوق الأساسية المهدورة من حرية التعبير إلى البنى التحتية والبيئة والتعليم الجيد والبطالة وعمت مختلف المناطق والطوائف، وذلك في أول خروج من نوعه على أركان السلطة الطائفية مجتمعة.
كذلك الأمر في العراق. اندلعت الاحتجاجات مطلع أكتوبر في بغداد وجنوب العراق احتجاجا على تردّي الأوضاع الاقتصادية، وانتشار الفساد الإداري والبطالة. ووصلت مطالب المتظاهرين إلى المطالبة باستقالة الحكومة وتشكيل حكومة مؤقتة وإجراء انتخابات مبكرة. وكان الرد عليها كان بالعنف.
في جميع هذه التحركات المتزامنة نجد أن الحصول على الحقوق الأساسية هو الدافع والمحرك. ففي مطلع القرن الحادي والعشرين أصبحت شرعة حقوق الإنسان إحدى مكونات الوعي الأساسية لدى الأفراد خصوصا من الأجيال الصاعدة الذين تربوا على احترامها.
أول هذه الحقوق هي الحقوق المدنية والسياسية للمواطن الفرد وتشمل: الحق في الحياة والحرية والأمن، والمشاركة السياسية وحرية الضمير والرأي والتعبير، وحرية الاشتراك في الجمعيات والتجمع، وحق المشاركة في إدارة الشؤون العامة.
بالإضافة إلى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية: كالعمل والتعليم والمستوى اللائق للمعيشة، والمأكل والمأوى والرعاية الصحية. وصولا إلى الحقوق البيئية والتنموية.
جميعها أهداف تسعى الثورات المشار إليها في جميع أنحاء العالم لاسترجاعها.
لكن أكثر ما يثير دهشتي في النقاش الدائر حول ماهية الاحتجاجات هو: هل هي حراك أم انتفاضة أم ثورة؟
يرى معادو الثورة أنها ليست كذلك فهي لا تمثل أكثر من 10 في المئة من السكان! مع أن نصف الشعب اللبناني نزل إلى الشارع وفي جميع أنحاء لبنان. البعض الآخر يعارضون اعتبارها ثورة بسبب سلميتها. إنها ثورة دستورية! بالطبع ستكون كذلك وتطالب بتطبيق الدستور طالما أن ما تقوم به السلطات الحاكمة ليس أقل من انقلاب موصوف على الدستور والقوانين والأعراف.
الثورة برأيهم يجب أن تكون على غرار الترسيمة التي اعتادوا عليها في الثورة الفرنسية والثورة الروسية وعنفهما. يعتقدون أن ثورة من دون دم وعنف ليست ثورة. فنجد البعض منهم يهزأ من ثورة اللبنانيين المسالمة المرحة والتي اكتست بالمظاهر الفنية على أنواعها. متناسين ثورة ألمانيا الديمقراطية وانهيار جدار برلين، وثورة الورود في جورجيا والأغاني في إستونيا والثورة الملونة في أوكرانيا، ومؤخرا ثورتي الجزائر والسودان، حيث تمت إقالة المسؤولين من دون عنف.
تفيد دراسة قامت بها أريكا شينويث (غطت الفترة من 1900 حتى 2006) أن الاحتجاجات غير العنيفة لديها حظ مضاعف في أن تنجح أكثر من تلك المسلحة. فعندما يتحرك 3.5 في المئة من الشعب لا يمكن أن يفشلوا في إحداث التغيير.
والثورة تعريفا هي القدرة على التغيير. وعدا عن أن مختلف قطاعات المجتمع اللبناني، وخصوصا الجيل الشاب والنساء ومجمل المواطنين، كانوا أكثر من شارك ويمكن اعتبارهم ممثلين لمختلف الطبقات الاجتماعية. إذا كانت نسبة 3.5 في المئة العتبة المقبولة لما تعنيه الثورة، أليس ما يحصل هنا ثورة مستدامة؟ ألم تحدث تغييرا في قيم المجتمع العميقة والضغط السياسي والرقابة الناتجة عنها!
فلقد بينت الدراسة أن الحملات غير العنيفة أحدثت التغيير السياسي بنسبة 53 في المئة مقابل 26 في المئة للاحتجاجات العنيفة. والسبب أن الاحتجاجات السلمية تستقطب أعدادا أكبر وأوسع من المحتجين، وبإمكانها أن تحدث الاضطراب الشديد والشلل للحياة المدنية اليومية ولحسن سير المجتمع. فعدا عن أن استخدام الطرق غير العنيفة هو قيمة بحد ذاته، يشكل الاحتجاج المدني خيارا أخلاقيا أكثر فاعلية وقوة في صياغة وتشكيل السياسة العالمية في المدى الأبعد.
والإشكالية التي علينا أن نواجهها هنا تتعلق بالاعتقاد الدوغمائي والمفاهيم الجامدة لأنها لا تكتسب محتوى ومعاني جديدة مع مرور الزمن!
فهل ننتظر من جيل الألفية الثالثة الذي ولد وفي حوزته القدرات التي وفرتها الثورة الرابعة، ثورة الاتصالات السيبرانية والهاتف الذكي وغوغل والوسائط الرقمية وما يتبع، أن يحمل نفس قيم إنسان القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين الذي بالكاد تعرف على الثورة الصناعية وما وفرته وأن يتصرف مثله؟! ناهيك عن الدور الذي لعبته الحرب العالمية الثانية وما تلاها من حروب في انتشار شعار رفض العنف: “نعم للحب لا للحرب” الشهير!
الفكرة الرئيسية عند فوكو في كتابه “الكلمات والأشياء”، هي أن لكل حقبة من التاريخ عدد معين من الشروط التي تشرّط الحقيقة وما هو ممكن ومقبول قوله. وشروط الخطاب هذه تتغير مع الوقت بشكل تدريجي. والمعرفة تنتج عن مجمل العلاقات الموجودة في حقبة معينة وفي مختلف الميادين العلمية، وفي علاقتها مع الخطاب في مختلف القطاعات. وما اعتبر عين الصواب في حين قد يصبح غير مناسب في أحيان أخرى. لا وجود لعلاقات أزلية، الكلمات تخدعنا وتجعلنا نعتقد بوجود “مواضيع طبيعية” من مثل: الأسرة ـ الدولة ـ القانون. وهنا الثورة.
فليس الخطاب هو الذي يحدد الأشياء، بل الممارسة هي التي تحدد. لا وجود لما هو محدد سلفا وإلى الأبد.
الأمر الذي يرفضه الحكام في العراق، بإشراف إيراني. وفي بيروت لا يتورعون عن استخدام العنف والهجوم على الخيم ومنع الندوات بحجة العمالة والتخوين. فلسطين شماعتهم الأبدية. بالطبع يصعب على إيران التراجع الآن وعلى حلفائها التنازل لمصلحة لبنان. الرد الوحيد الحفاظ على السلمية ودوام المراقبة للمحاسبة دون انقطاع مهما تطورت الأمور.
monafayad@hotmail.com
الحرة