هل العروبة هوية من الماضي أم ذريعة للقطيعة الثقافية مع العالم؟ أم أنها لا تزال تصلح للتأسيس للمستقبل؟
العروبة التي تمترس العرب خلفها: يمين ويسار، شمال وجنوب، مسلمون وقوميون، هل هي منجزة ثابتة كي تصبح دهرية؟ أم أنها ككل الهويات قيد البناء والتراكم في دينامية تتبلور وتتعلق بالزمان والمكان والاجتماع السياسي لمجتمعاتنا؟ أهي مرتبطة بشرعية الأنظمة وحسن إدارتها للمنظومة السياسية الاجتماعية كحامل لتفعيل القيم وإنجاحها، أم معطى جوهري قائم بذاته؟
وبالتالي هل تكفي مجموعة القيم الثقافية والحضارية والأبعاد التاريخية للأمة، وحدها، كي تنجز النهضة أو الوحدة العربية المنشودة؟
هذه بعض الأسئلة ـ الإشكاليات التي طرحت طوال يومين في 4 و5 أكتوبر الماضي وحاضر فيها أكثر من 20 مشاركا من دول المشرق والمغرب مرورا بمصر.
ذكّر البعض أن فكرة العروبة برزت بعد الدولة العثمانية متزامنة مع التقسيم الذي أراده الاستعمار. وظلت فكرة غلابة وصاعدة وزادتها مشكلة فلسطين إلحاحا. لكنها كانت فكرة دون فكر. بنية لها عدة عناصر، ولكن العنصر الفاعل فيها هو الإسلام. لماذا؟ لأنها تطورت من أجل خدمته في الوعي العربي.
ظلت العروبة فكرة جامعة وأملا منشودا في خطابات المسؤولين وفي وعي الجماهير إلى أن تعرضت للانجراح لأول مرة مع انفصال الوحدة بين مصر وسوريا. فبعد أن بدت الوحدة ممكنة التحقيق. جعلها الانفصال غير بديهية. وبرزت التحالفات والتحالفات المضادة.
قامت الوحدة على مبدأ ـ موقف جوهراني قيمي: نحن عرب، جزء من أمة واحدة، تجمعنا القيم الأساسية الحضارية: لغة ـ ثقافة ـ قيم وتاريخ مشترك. اكتفت الوحدة بالشعارات الكبرى ولم تهتم بالتفاصيل المعاشة: مثل التنسيق لتوحيد برامج التعليم أو شكل النظام السياسي ـ الاجتماعي! أو تحقيق التنسيق والتعاون الاقتصادي كالسوق العربية المشتركة التي نشأت “نظريا” منذ العام 1964!
جوبهت جميع الصعوبات والمشاكل التي تعرضت لها “الأمة” بالإجابات الكلية. يحال كل شيء إلى قيمة عليا بعيدة عن التصورات والبرامج التي تنقلها إلى الواقع. صحيح أن القيم الحضارية موجودة كمنظومة تربط الشعوب؛ لكن المصالح المشتركة وحدها والجزئيات الضمنية هي ما قد يحقق الوحدة.
ففشلت العروبة وأصيبت الشعوب بالخيبة. وبرز “الإسلام وحده كحل”. قام الحلف الإسلامي: مؤتمرات قمة، تحالف مع أميركا، إخوان مقابل يسار. ثم حرب أفغانستان وظهور الإسلام الجهادي.. ومعه تغير الوعي.. حتى ياسر عرفات بدا شيوعيا حينها.
فانكب الجميع على التراث لملء الفراغ الفكري واللادينامية المجتمعية. التوجه نحو الماضي، للبحث في التاريخ عن شيء مفقود في الحاضر لإعادة إنتاجه. نشأت حينها الثنائيات المتعارضة: تقليد/ حداثة، تجديد/ سلفية. وجدوا نثرات من الحداثة ونوع من الندية لطمأنة الذات: ابن رشد، ابن خلدون…
لكن ما الذي جاءت به هذه العودة؟ لم تأت بغير النص، الذي يتم تداوله، فيقرأ ويؤول دون أن ينتج المفهوم الذي لا ينبثق من النص المتعالي وحده خارج الواقع والوقائع.
استدعي الإسلام الجوهراني الساحر والخلاب الذي لديه جميع الإجابات الجاهزة دون إعمال التفكير والاجتهاد. أدى هذا إلى قطيعة مع الحداثة. فاقم النفط والاقتصاد الريعي هذه القطيعة.
المطلوب الطاعة فقط وانصياع الأفراد سياسيا. وهذا يحتاج إلى قيادة كاريزمية ملهمة وقدرات استثنائية لـ”القائد إلى الأبد”. لم يعد المجال السياسي العام للفرد أو للمجتمع. أصبح إرادة جزئية لفرد مقابل الإرادات جميعها. وصارت العلاقة مشخصنة وزبائنية. الدولة تذهب والشخص يبقى. استقرينا على نموذج ثقافي يستمد وعيه من خارج الوضع المعاش؛ من سلطة غيب تهيمن من خارج المجتمع.
عنى التحديث لدولة النظام العربي: الآلة العسكرية للدولة، تجسس، مخابرات، بوليس. فصلت الحداثة عن أصولها الفلسفية والوجودية المتعلقة بالفرد، وبقيت الحرية والمساواة والدولة الحديثة، دولة القانون، مجرد شعارات حتى في الخطاب الليبرالي عربيا.
هناك الآن الدعوة إلى الإصلاح. المطلوب تجديد الدين وليس فقط الإصلاح. أي تخليص الفكر من الأوهام التي يحملها. الإسلام دين يفصل بين الدين والسياسة أو الدولة. الإمام علي جاء بالقرآن وقال له انطق. فلم ينطق. فقال الكتاب لا ينطق. ينطق به الرجال. أنت من يقول وهذا فهمك.
والمطلوب التخلص من الخلط بين العلم والدين: اعتبار القرآن كتاب علم وأن تكون لديه نظرية علمية، هو حديث خرافة. النظرية العلمية نظرية نسبية وتاريخية وفي سيرورة مستمرة. بينما صفة الدين الثبات والارتفاع فوق الأزمنة. الكتاب يحث على العلم ولكنه ليس كتاب علم.
أين نحن مما يجري في العالم الآن؟ كيف يكون التجديد؟ وعبر أية آليات؟
هناك العولمة التي لا نملك ترف الاختيار بين قبولها أو رفضها. العولمة تسير من دوننا لأننا خارجها. وإذا كان من تجديد ممكن للعروبة الآن فيتطلب أن يقترن بتقبل واقع أن العالم تغير ويتغير بسرعة هائلة ووعي أننا نعيش خارج السياق العالمي.
اللغة العربية مهددة صحيح، والبعض يقول بموتها؛ لكن ليس لأنها لا تدرس في المدارس والجامعات كما يجب؛ بل لأنها أصبحت خارج التطور والسباق في المجال العلمي وفي الإنتاج المعرفي.
الحديث الآن ليس عن اقتصاد المعرفة بل عن رأسمالية المعرفة على المستوى العالمي. نحن مجرد مستهلكين لما تنتجه المعرفة فقط لا غير. نستهلك سلع الإنتاج التكنولوجي للسباق المعرفي. وبالتالي الثقافة واللغة العربية ضعيفتان لضعف المجتمعات الناطقة بها ولعجزها عن الدخول في الاقتصاد العالمي.
الرأسمالية المعرفية تفخخ الاقتصاد العالمي. اخترعت رأسمالية السوق في البندقية بين عامي 1050 و1750، ثم الرأسمالية الصناعية في انكلترا مع الآلات. نحن الآن في المرحلة الثالثة للرأسمالية، رأسمالية المعرفة؛ أي اقتصاد المعرفة والذكاء الاصطناعي والبيغ داتا، التي تعرف نموا متسارعا وتغير جذريا التراتبية بين الأفراد والمؤسسات والعواصم والأمم. إنها مرحلة عظمة وانحدار أمم.
في العام 1960، كان لكوريا الجنوبية نفس مدخول الفرد مثلها مثل الدول الفقيرة في أفريقيا السوداء ولم تلحق بالمغرب سوى في العام 1970. اليوم أصبحت عملاقا تكنولوجيا في عدة ميادين مفتاحية من الميكروبروسيسور والمعالجات الدقيقة إلى الشاشات والبرمجيات والهواتف الذكية والنووي.
في العام 1980، كان المغرب أغنى بخمس مرات من الصين. أصبحت الصين قوة عظمى علميا، بينما بقي المغرب دولة فقيرة فيها 40 في المئة من الأمية بين النساء.
هذه الانقلابات الجيوسياسية لا شأن لها بالصدفة، لكنها نتيجة جهود ضخمة في التوظيف التربوي والعلمي والتكنولوجي لبلدان شرق آسيا: سنغافورة، الصين، تايوان، هونغ كونغ، وكوريا الجنوبية. حصة الصين من الصرف العالمي على الأبحاث انفجرت: من 2 في المئة عام 1995 إلى 23 في المئة اليوم، أي اكثر من أوروبا مجتمعة وتقترب من الولايات المتحدة. إسرائيل في مصاف هذه الدول. أصبحت بلدان آسيا الشرقية عمالقة علميين بينما بالكاد وظفت بلدان أوروبا الجنوبية (إسبانيا، إيطاليا، البرتغال) 1 في المئة من الثروة الوطنية الـ PIB – على البحث.
العالم في واد والعالم العربي في واد.
هل هناك من أمل بعد للمجتمعات العربية؟
قد تؤشر الثورات في العالم العربي، التي يتكاتف النظام العربي لقمعها، إلى وجود تغيرات عميقة تعتمل في المجتمعات العربية. فخلف الانتفاضات المتجددة في العراق والسودان والجزائر ولبنان ثورات ديموغرافية أكثر مما هي سياسية. فالأجيال الشابة تشكل من 60 إلى 70 في المئة من السكان العرب. وهم محبطون من سياسات الحكومات وأركانها ومن البطالة وغياب الخدمات الأساسية والحقوق.
تبدو انتفاضتا العراق ولبنان ثورة ديموغرافية لجيل جديد لا يفهمونه. ثورة جيل الميلينيوم أو الألفية الثالثة. الجيل الذي نشأ في ظل الثورة الرقمية والثورات العربية ولم يعرف حكم صدام حسين ولا يهتم بالمرجعيات الدينية ولا بالسلطات الحاكمة.
أشار الناشط العراقي في واشنطن، انتفاض قنبر، إلى أن واشنطن بوست نشرت مؤخرا نتائج دراسة للرأي العام العراقي أجرتها على مدى 3 سنوات واستنتجت وجود انقلاب في الرأي العام الشيعي في العراق ضد إيران ويعتبرها عدوا وفقدت الحكومة شرعيتها من قبل غالبية الشيعة.
يستخدم الإيرانيون نفس آليات قمع ثورة 2009 الخضراء. ويكررون أسلوب صدام لكنهم لن ينجحوا ولن يكبحوا جيل الميلينويم.
الخلاصة
أحد مرتكزات العولمة: الفرد وحريته وقيمه الإنسانية والأخلاقية والاقتصادية، وشرط الإبداع، الذي يعني الإنتاجية بكثافة وبراعة واتقان مع احترام معايير الجودة عبر البحث العلمي والقدرة على التنافس.
لا أدري إذا كان لا يزال ممكنا استعادة الدولة من براثن صراع الهويات ما دون الوطنية وبذل الجهود الجبارة لإيجاد ديناميات مجتمعية عبر التوظيف التربوي والعلمي والتكنولوجي للاستلحاق والدخول في ركاب العولمة. دينامية الجيل الشاب في لبنان والعراق تدعو إلى التفاؤل بامكانية الاستمرار في الضغط للخروج من الثقب الأسود الذي نغرق به. لكن المشكلة في الهوة السحيقة التي تفصلنا عن وتيرة ومستوى التطور المعرفي الرقمي والسيبراني الذي وصلت البلدان المذكورة أعلاه.
monafayad@hotmail.com