تعهد الرئيس الفلبيني المثير للجدل “ريدريغو دوتيرتي” خلال حملته الانتخابية التي أوصلته إلى قصر ملاقانيان الرئاسي في عام 2016 برفع علم بلاده على جزر متنازع عليها مع الصين في بحر الصين الجنوبي، والتصدي لمحاولات بكين عسكرة تلك الجزر واستغلالها من طرف واحد بإقامة المنشآت العسكرية والمدنية فوقها والإمعان في استغلال ثرواتها البحرية والنفطية (استصلح الصينيون نحو 1295 هكتارا من الأراضي في البحر لتلك الأغراض على إمتداد جزر سبراتلي وهو ما يساوي 24 ضعف ما إستصلحته الدول الآسيوية المشاطئة مثل الفلبين وماليزيا وفيتنام وبروناي خلال نصف القرن الماضي).
ومن حسن حظ دوتيرتي أنه كان هناك وقتذاك قرار نهائي صادر بالإجماع من محكمة التحكيم الدائمة (محكمة تتخذ من لاهاي مقرا لها منذ تأسيسها سنة 1899 وتضم 119 دولة لكنها لا تتبع الأمم المتحدة)، بمقتضى قانون الأمم المتحدة للبحار الذي وقعت عليه بكين ومانيلا، علما بأن الفلبين رفعت قضيتها إلى المحكمة منفردة فيما قاطعت الصين جلساتها. وقد قضت المحكمة بعد مداولات طويلة بتأييد الموقف الفلبيني قائلة أن الصين انتهكت الحقوق السيادية للفلبين في بحر الصيني الجنوبي، وأنه ليس لبكين حقوقا تاريخية في القسم الأكبر من مياه بحر الصين الجنوبي وجزره الاستراتيجية التي “تتعامل مع ثلث التجارة البحرية العالمية ونحو 4 أضعاف الطاقة المنقولة عبر قناة السويس وأكثر من عشرة أضعاف مصائد الأسماك العالمية” طبقا للخبير في الشون الآسيوية ريتشارد هيدريان.
وفيما رحبت مانيلا بالقرار وعدته إنتصارا مدويا لها وسابقة تاريخية يمكن البناء عليه في القضايا المشابهة، ردت الصين على قرار المحكمة بالإشارة إلى فقرات الإستثناء الواردة في قانون البحار لدعم حججها، ثم لجأت إلى التشكيك في كفاءة وصلاحيات محكمة التحكيم، ثم جادلت بأن التحكيم الإجباري سابق لأوانه، قبل أن ترفض الحكم رفضا قاطعا وتطالب بالتفاوض الثنائي.
وقتها أيضا كان ديتورتي في موقف قوي تسانده فيه اليابان وتايوان وأقطار جنوب شرق آسيا الشريكة لها في منظومة آسيان، ويدعمه شعبه وجيشه اللذين رأيا فيه زعيما غير مألوف جاء لينظف البيئة الفلبينية من الفساد وتجار المخدرات والمتطرفين والإنفصاليين، ويستعيد في الوقت نفسه حقوق بلاده المهدورة. غير أن الرجل، المعروف عنه التسرع والعنف اللفظي، كان غير قادر على المراهنة على الأمريكيين في ظل إدارة باراك أوباما الصديقة للصين، خصوصا وأنه كان قد دخل آنذاك في وصلة ردح شخصية مع الرئيس الأمريكي.
ولأنه كان واثقا بأن جيشه أضعف من أن يواجه جبروت التنين الصيني وقوته العسكرية الكاسحة، سيما وأن اقتصاده ضعيف ومختل، فقد أثر عدم الإصطدام ببكين ممنيا النفس بالتفاهم مع الصينيين على حساب الأمريكيين، جذبا لإستثماراتهم من أجل إصلاح البنية التحتية المنهارة في بلاده ولاسيما شبكة المواصلات المهترئة. ولهذا السبب قام بخمس زيارات مذاك إلى بكين لكن دون أن يحصل على الكثير مما تمناه، وهو ما جعل شعبه وقادته العسكريين ومنافسيه السياسيين يطالبونه اليوم، وهو على أعتاب نهاية ولايته الرئاسية، الوفاء بوعوده لجهة مواجهة الصين، والضغط على الأخيرة بمساعدة الحليف الأمريكي لتفعيل قرار محكمة التحكيم سالف الذكر، خصوصا في ظل العلاقات المتدهورة بين بكين وواشنطون ووجود رئيس أمريكي في البيت الأبيض لطالما شبهه الفلبينيون به لجهة الحدة وردود الأفعال القوية البعيدة عن الدبلوماسية. حيث صدر عن الناطق الرسمي باسم الجيش الفلبيني البريغادير “ايدغارد اريفالو” بيانا ناريا يتهم فيه بكين بالمراوغة ويدعو رئيس البلاد إلى تبني رد حازم.
كل العوامل السابقة، معطوفا على إستياء الشعب الفلبيني من مواصلة الصيادين الصينيين عمليات الصيد البحري في المياه الإقليمية الفلبينية على حساب قوتهم اليومي، ناهيك عن إستثمار السيناتور “بانفيلو لاكسون” (مرشح محتمل في الانتخابات الرئاسية القادمة) الموقف لصالحه، دفعت دوتيرتي للتصريح في خطاب ألقاه في السادس من أغسطس الجاري خلال منتدى للغرف التجارية والصناعية الفلبينية والصينية، بأنه سوف يطرح بقوة ودون تردد أو دبلوماسية موضوع السيادة على الجزر المتنازع عليها خلال زيارته المرتقبة لبكين هذا العام، وأنه سوف يطالب مضيفيه الصينيين بتنفيذ الحكم الصادر في يوليو 2016 لصالح بلاده، مشيرا إلى أنه بهذا ينفذ وعدا قطعه على نفسه باسترداد حقوق الفلبين قبل نهاية ولايته. هذا التطور أشاع جوا من الإرتياح “الآني” في صفوف الفلبينيين وجنرالات الجيش ونواب المعارضة.
فهل يا ترى سيفعلها الرجل؟ أم أنه سيتحاشى فتح الملف مع نظيره الصيني “شي جينبينغ” الغارق في دوامة الإحتجاجات الشعبية في هونغ كونغ؟ أم أنه سيعود لطرح فكرة الإستغلال المشترك للمناطق المتنازع عليها؟ علما بأن هذه الفكرة، لقيت معارضة شديدة وقت طرحها سابقا، بل عدّها فليبينيون كثر مخالفة دستورية.
Elmadani@batelco.com.bh
أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين