جدل سيعيد التركيز على مسألة “توزيع الثروة” و”العدالة الضريبية” والتغييرات الدستورية ، وسيكون الرئيس ماكرون أمام اختبارات متتالية خلال الانتخابات البرلمانية الأوروبية طوال النصف الثاني من ولايته.
حبست فرنسا أنفاسها وشاركها العالم الذهول ليلة حريق كاتدرائية نوتردام في باريس، وكانت ليلة 15 إبريل 2019 في باريس تشبه صباح انهيار البرجين في نيويورك في 11 سبتمبر 2001، وبينهما تم خراب بغداد والموصل وتدمر وحلب وحمص والرقة، والكثير من جوامع وكنائس المشرق واحترق متحف ريو دي جانيرو، وحلت الكثير من الكوارث المناخية.
وكل هذا يدلل على أن بدايات القرن الحادي والعشرين التي تشهد أوج الثورتين التكنولوجية والرقمية والعولمة الرأسمالية، تشهد أيضا على الفوضى الإستراتيجية في النظام الدولي وتصدع العولمة غير الإنسانية، وتحمل ربما في طياتها المزيد من الانهيارات ليس فقط لجهة الرموز والمظاهر، بل لناحية استشراف المستقبل ومصير “الإنسان ذلك المجهول” كما وصفه ألكسيس كاريل.
بالنسبة لفرنسا بالذات التي لا يمكنها تصور قلب باريس التاريخي من دون نوتردام. بالقرب من ملتقى ضفاف نهر السين بدأ بناء العاصمة الفرنسية وكانت الكاتدرائية الحارس والبوصلة والمعلم الديني والسياحي والحضاري. لقد خلد فيكتور هوغو هذا المكان برائعته “أحدب نوتردام” وتنبأ أو تصور وقوع هذا الحريق الذي ألهبها بعد صمودها على مدى ثمانية قرون وكانت الشاهد على أمجاد وإنجازات فرنسا ونكساتها وانكساراتها. ومن المصادفات أو من الإشارات وقوع هذا الحريق قبل ساعة وربع من مؤتمر صحافي للرئيس إيمانويل ماكرون الذي كان من المقرر أن أجوبته تبعا للحوار الوطني الذي أطلقه بسبب حراك السترات الصفراء والذي أنذر بتسونامي اجتماعي وسياسي في فرنسا.
في سباق مع الوقت، ألغى الرئيس ماكرون مداخلته وأشرف على أعمال إطفاء الحريق بفضل شجاعة نموذجية لرجال الإطفاء في باريس، وسرعان ما حاول عبر الرهان على إعادة بناء الكاتدرائية خلال خمس سنوات والتركيز على “الاتحاد الوطني” الذي تكون في لحظة الحريق من أجل إطفاء “حركة السترات الصفراء”، وسيكون الجواب في موعد مظاهراتها التقليدي نهاية هذا الأسبوع. ويدل ذلك على التأرجح في حاضر فرنسا وتاريخها وعلى ذلك المزيج من غلبة المشاعر وأثر العقلانية في تكوينها ومساراتها.
ومما لا شك فيه أن استعادة التماسك والتوافق على مسائل معقدة مثل الهوية والمواطنة والعدالة ومستقبل المؤسسات والمشاركة الديمقراطية والتحديات الأوروبية والخارجية، تستوجب العمل ليس فقط عبر استنهاض “رواية التاريخ الوطني” والقيم المؤسسة، بل كذلك وفق قواعد العصر وضرورة بلورة رؤية أوضح وأعمق لفرنسا ودورها في أوروبا والعالم، ولن يتيسر ذلك من دون تواضع من قبل سيد الإليزيه يجعله يبتعد عن البونابرتية والانقسامات السياسية والأيديولوجية التقليدية ويستند إلى حد مقبول من الوحدة الوطنية والاستماع إلى آلام بؤساء فيكتور هوغو في حقبتنا هذه، حيث تقول مؤسسة “الأب بيار” (الذي اشتهر بإنقاذ المشردين من دون مأوى) أن ثلاثة إلى أربعة أشخاص من المهمشين والمنسيين من دون مسكن يموتون يوميا في الشارع في فرنسا.
يتساءل البعض، بشكل مشروع، عن الخلط بين التضامن والإحسان وبين نزعة الفرنسيين للجدل في كل مناسبة والتأفف الدائم، وكأن غالبيتهم لم تقدر عاليا موجة التعاطف العالمي مع فرنسا سواء خلال تعرضها للإرهاب في العام 2015 أو إثر حريق نوتردام، ويكفي مثال تشيلي البلد الأميركي البعيد الذي أبدى استعداده للتبرع بالنحاس والخشب لإعادة بناء هذا الصرح الكاثوليكي الكبير لنفهم أهمية التراث الإنساني وأهمية دور فرنسا في ذلك على صعيد منظمة اليونسكو أو عبر مبادراتها في العالم.
لكن ما أثار الجدل أكثر تركيز المعترضين على عدم الاهتمام بالبشر كما بالحجر كما قالوا. وبالفعل، سارع بعض من أصحاب الثروات الطائلة وكبرى المجموعات إلى تقديم وعود بالتبرع لتمويل أعمال ترميم الكاتدرائية، بداية من عائلة بينو التي وعدت بتقديم 100 مليون يورو، ثم تلتها مجموعة “أل أم في إتش”، وعائلة أرنو صاحبة الثروة الكبرى في فرنسا، مع وعد بتقديم 200 مليون يورو، ثم عائلة بيتانكور-مييرز ومجموعة “لوريال” 200 مليون يورو، كما أعلنت مجموعة “توتال” من جهتها، تقديم 100 مليون يورو.
تجدر الإشارة إلى أن جزءا من المبالغ السخية الموعودة من الواهبين مصدره الأموال العامة، إذ إن قانونا صادرا في العام 2003 ينص على إمكانية أن تقتطع الشركات التي تستثمر في الأنشطة الثقافية 60 بالمئة من نفقاتها لصالح هذا النوع من الأعمال.
ولتطويق الانتقادات، أعلن رئيس الوزراء الفرنسي إدوار فيليب الأربعاء تقليصا نسبته 75 بالمئة للمبالغ التي تصل إلى ألف يورو و66 بالمئة للمبالغ الأعلى، من الهبات المقدمة من أفراد لترميم الكاتدرائية. بيد أن ذلك لم يطوق ردود الفعل إذ طالب الأمين العام للاتحاد العمالي فيليب مارتينيز بتخصيص “أموال لمعالجة الحالة الاجتماعية الطارئة”. ونددت إنغريد لوفاسور، أحد أبرز وجوه حركة “السترات الصفراء” بـ”وقوف المجموعات الكبرى متفرجة أمام البؤس الاجتماعي فيما تثبت قدرتها على الحشد في ليلة واحدة مبلغا هائلا لصالح كاتدرائية نوتردام”.
سيعيد هذا الجدل التركيز على مسألة “توزيع الثروة ” و”العدالة الضريبية” والتغييرات الدستورية، وسيكون الرئيس إيمانويل ماكرون أمام اختبارات متتالية خلال الانتخابات البرلمانية الأوروبية أواخر مايو القادم وطوال النصف الثاني من ولايته، لأن التعويل على حدث بعينه ولحظة “الاتحاد الوطني” النادرة والاستثنائية لا تكفي لحجب باقي الهموم والقضايا المصيرية في بلد شكل منذ أيام الثورة الفرنسية إلى يومنا هذا، نوعا من المختبر العالمي المصغر والمؤشر لتطور الأحداث وللنماذج الفكرية والاجتماعية والسياسية.
ارتبطت نوتردام بالذاكرة الشعبية والتاريخية لفرنسا، واختزنت ذكريات عن رجالات فرنسا الكبار وأحداثها التاريخية، وتميزت هذه التحفة المعمارية بثراء محتوياتها وكنوزها ورموزها الدينية، لكنها كانت عنوان تحالف الكنيسة الكاثوليكية مع النظام الملكي، وحولها روبسبيير وتلميذه سان جوست عقب الثورة الفرنسية إلى “معبد الكائن الأعلى” قبل إعادة مجدها مع الإمبراطور نابليون بونابرت وفيكتور هوغو والعشرات من الكتاب والفنانين والمبدعين الذين استقوا من هذا المكان الفريد حكاياتهم وإبداعاتهم. وخلال الحرب العالمية الثانية كان من المثير أن يستقبل الكاردينال سوار داخل أسوارها الماريشال فيليب بيتان- المتعاون مع الألمان- ولاحقا بدأت أعمال المقاومة لتحرير باريس من قرب ساحتها مع انتفاضة الشرطة، وعند وصول الجنرال لوكلير محرر باريس في 22 أغسطس 1945 جرى قرع أجراس نوتردام إيذانا بالتحرر من نير النازية.
هكذا شهدت نوتردام وتشهد على تاريخ فرنسا وكل محطاته الرئيسة، ولهذا شكل بقاء هيكلها وبنيتها الأساسية وإنقاذ بعض كنوزها مؤاساة للفرنسيين وحافزا لإعادة بنائها وترميمها وتجديدها. والأهم إعادة بناء النموذج الفرنسي وتأهيل فرنسا وفق قيم الحرية والمساواة والإخاء، وتطبيق ذلك قدر الإمكان على سلوكها الخارجي ودورها العالمي.