حسناً فعلت النائبة بولا يعقوبيان عندما ردت على الغاضبين من اتهامها لهم بالفساد بأنْ طالبتهم برفع السرية المصرفية عن حساباتهم.
مباركة جرأتها وهي تخوض حربها، مع معرفتها بأنها تواجه منظومة زبائنية وفساد متكاملة تصل الى ابعد من السلطة، لتتجاوزها الى شريحة من المستفيدين، والى دول لديها أهل اختصاص وخبرة، ولديها معلومات عن كل ما يحصل في لبنان، ومع هذا توكل الى الطبقة السياسية ذاتها مسؤولية محاربة الفساد مقابل مساعدات وديون.
يعقوبيان تعرف ان تسمية الفاسدين بالاسماء لا تنتهي. وتحذر من ان الزعماء المذهبيين سيبقون على أفعالهم، اذا استمر الشعب بانتخابهم دون محاسبتهم ودون اعتبارهم مجرد موظفين يجب ان يكونوا صالحين لمصلحة هذا الشعب. افعالهم تغطي أصغر موظف. بالتالي، عندما يكون الرأس فاسداً لا يمكن مراقبة الأطراف لضبط افعالها. ولن يتغير شيء اذا الشعب لم يحاسب وبقي ينتخب غرائزياً او تحت سيطرة الخوف.
من هنا، وبهذه الشراسة، تبدأ الحرب على الفساد وبمفعول رجعي يطال كل من عمل في مؤسسات الدولة او عمل معها في عقود وتلزيمات.
هل نقول: صحّ النوم؟
وهل نصدّق ان قبضايات الطبقة الحاكمة لبنان منذ اتفاق الطائف وما قبله من خلال ميليشيات الامر الواقع، اكتشفوا بين ليلة وضحاها ان عليهم مكافحة الفساد، الذي كان يتم بغفلة عنهم، وكانوا عنه غافلين وهم من دمه أبرياء؟
يريدون منا ان نصلّي لأجلهم، حتى يمنحهم المولى القوة لتحمل صدمة ما اكتشفوه، واستيعاب موضوع الفساد الذي تفشى في غفلة عنهم. لكن هيهات منهم الذلة. فها هم قد شمروا عن زنودهم ليشطفوا أدراجه، بعدما عادوا أدراجهم الى الندوة البرلمانية بموجب قانون انتخابات على قياسهم، واستقروا آمنين من خلال وزارئهم في الحكومة.
وعلى راحتهم، قرروا ان يروّجوا لتقليعة جديدة، سادت خطابهم، لتصرف النظر عن خطورة ما ينتظر البلد من تكريس لوصاية جديدة عليه بالاذعان مقابل السلطة والمحاصصة، في حين لا خوف على الفاسدين الوقحين، لأن كل شيء بحسابه وعدس الفساد لا يزال ينمو قرير العين في ترابه.
الراحة في تناول السياسيين المعطرين بالنزاهة ظاهرة الفساد، ترتبط دائماً بالوقاحة التي تعطي الفاسد قوة إضافية ليحاضر بالعفة. ولِمَ لا؟ فنحن لم نشهد منذ إنشاء “لبنان الكبير” مساءلة وزير او مسؤول كبير. وقانون الاثراء غير المشروع لم يستعمل مطلقاً منذ اقراره في العام 1952.
في التطبيق، يسرح الفساد ويمرح، في حين تتدفق معلومات عن صفقات تقضم ما تبقى من محتويات الخزينة اللبنانية، لتبقى المساءلة موسمية وإعلامية ومرتبطة بالتناحر بين الخصوم السياسيين عندما ينعدم الوئام في ما بينهم. ولم يخضع أي مسؤول، كبيراً كان أم صغيراً، الى رقابة مالية تكشف بشفافية تطور وضعه المالي خلال وجوده في السلطة.
آخر علامات لا جدوى مكافحة الفساد، برزت مع تكريس نتائج الانتخابات النيابية، مع ان التزوير ولو في بضعة أصوات وضعها أصحابها من المرشحين وأفراد عائلاتهم في صناديق لاقتراع ووجدوا “صفراً” عوضاً عنها، يفرض إعادة لانتخابات من أساسها. ومع هذا، اقتصر الامر على الغاء نيابة “ديما جمالي” على أهداف سياسية ستتبلور في المرحلة المقبلة، ولعلها لن تختلف في باطنها عن توزير احد أعضاء اللقاء التشاوري، بالتالي لا علاقة للنزاهة بنتائج الطعون.
لعل الاستنسابية التي تسود فتح ملفات الفساد خير دليل على الكيدية والابتزاز المتوقع استثمارهما لما هو أبعد بكثير من سرقة المال العام واستغلال السلطة كواقع فطري يكتسح الدرج من أعلاه الى أسفله. ولا يخاف من العواقب لأن القوانين الحالية تعرقل كشف الفساد، او هي غير فعالة في اطار منظومة تحمي نفسها وتحول دون متابعة قائمة على الشفافية والمساءلة، لا سيما تلك المرتبطة بملاحقة الموظفين وتجاوز الحصانات لكبار المسؤولين.
حتى اللحظة، لا إيمان بهذه الطبقة السياسية وما سينتج منها. حتى اللحظة، يهلل المنكوبون من استشراء الفساد وتسلط الفاسدين ووقاحتهم، لما تقوم به ممثلة للشعب مارقة على الطوائف والمذاهب والمحسوبيات ومتهمة بأنها تروج “مجرد مزاعم لا أساس لها من الصحة وترمي بوضوح لمجرد التشهير وتتلطى وراء حصانتها النيابية لتورد استنتاجات مغرضة من نسج مخيلتها”.
حتى اللحظة، لا يزال الفاسدون محميين لانعدام القدرة على كشف حساباتهم، مع ان مظاهر ثرائهم غير المبرر أوقح من خطابهم المتعالي وحقدهم على كل من يرفض الفساد ويشعرهم بأنه يعرفهم ويرفضهم.
sanaa.aljack@gmail.com